تفسير سورة الفاتحة آية 2 - 3
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾ الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ لإِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ وَهُوَ مَالِكُ الْعَالَمِينَ، وَالْعَالَمُ هُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ، سُمِّيَ عَالَمًا لأَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ.
قال المؤلف: الْحَمْدُ الْوَصْفُ الْجَمِيلُ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ (ليس على جهةِ التّحقيرِ لأنه قد يوصفُ الشٍيء بالجميلِ لا على وجهِ التّبجيلِ بل على وجهِ الإهانةِ والتّهكّمِ كما يقالُ لفرعون يومَ القيامةِ ذُق إنّك أنت العزيزُ الكريمُ) وَهُوَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَأَصْلُهُ النَّصْبُ، وَقَدْ قُرِئَ بِإِضمارِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ مُضْمَرَةٍ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ، كَقَوْلِهِمْ: شُكْرًا، وَكُفْرًا. وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصْبِ (أي بدل أن يقالَ الحمدَ) إِلَى الرَّفْعِ لِلدّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى وَاسْتِقْرَارِهِ. وَالْخَبَرُ: لِلَّهِ اللَّامُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: وَاجِبٌ أَوْ ثَابِتٌ. وَقِيلَ: الْحَمْدُ وَالْمَدْحُ أَخَوَانِ، وَهُوَ الثَّنَاءُ وَالنِّدَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا، تَقُولُ: حَمِدْتُ الرَّجُلَ عَلَى إِنْعَامِهِ (الإنعامُ ليس من الصّفاتِ الخَلقِيّة أمّا الشجاعةُ والحسَبُ فهما من الصّفاتِ الّتي يُجبل عليها الإنسانُ) وَحَمِدْتُهُ عَلَى شَجَاعَتِهِ وَحَسَبِهِ. وَأَمَّا الشُّكْرُ فَعَلَى النِّعْمَةِ خَاصَّةً، وَهُوَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، قَالَ: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ... يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحْجَّبَا [أي القلب] (معناه أشكركم لإحسانِكم باليدِ واللّسانِ)
وَ "الْحَمْدُ" بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ (الحمدُ الذي هو مِن مخلوق باللّسانِ وحدَه هذا لا يُرادُ به الحمدُ المطلقُ بالمعنى الشّاملِ لحمدِ الله نفسَه) ، وَهُوَ إِحْدَى شُعَبِ الشُّكْرِ (أي إحدى أنواعه)، وَجَعَلَهُ رَأْسَ الشُّكْرِ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِاللِّسَانِ أَشْيَعُ لَهَا مِنَ الِاعْتِقَادِ وَآدَابِ الْجَوَارِحِ لِخَفَاءِ عَمَلِ الْقَلْبِ (أي أظهر من الاعتقادِ وآدابِ الجوارحِ لأنّ أعمالَ الجوارحِ تحتملُ أن تكونَ للمدحِ أو لغيرِ ذلك)، وَمَا فِي عَمَلِ الْجَوَارِحِ مِنَ الِاحْتِمَالِ. وَنَقِيضُ الْحَمْدِ: الذَّمُّ، وَنَقِيضُ الشُّكْرِ: الْكُفْرَانُ. وَقِيلَ: الْمَدْحُ: ثَنَاءٌ عَلَى مَا هُوَ لَهُ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ كَكَوْنِهِ بَاقِيًا، قَادِرًا، عَالِمًا، أَبَدِيًّا، أَزَلِيًّا. وَالشُّكْرُ: ثَنَاءٌ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ مِنْ أَوْصَافِ الْإِفْضَالِ (أي الإنعام) وَالْحَمْدُ يَشْمَلُهَا (هذا أحدُ القولينِ من تفسيرِ الحمدِ والمدحِ). وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ عندنا (الاستغراقُ معناهُ التّعميم ومرادُه بذلك أنّ الحمدَ إذا كان حمدَ العبادِ فهو مخلوقٌ لله تعالى ليس مخلوقًا لغيرِه، العبادُ لا يخلقون حمدَهم أمّا عند المعتزلةِ فهو بخلقِ العبدِ) خلافًا للمعتزلةِ ولذا قُرِن باسمِ اللهِ لأنّه اسمُ ذاتٍ فيستجمعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ. وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، (خلقُ الأفعالِ عند أهلِ الحقِّ خاصّ باللهِ لا يخلقُ أحدٌ شيئًا من أفعالِهِ) وَقَدْ حَقَّقَتْهُ فِي مَوَاضِعَ.
رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّبُّ: الْمَالِكُ، وَمِنْهُ: قَوْلُ صَفْوَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ: لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. تَقُولُ: رَبَّهُ يَرُبُّهُ، فَهُوَ رَبٌّ. (ربّهُ معناه سادَه أي صار سيّدًا له) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا وُصِفَ بِالْعَدْلِ (يقال رجلٌ عدلٌ والعدلُ في الأصلِ مصدرٌ وإن كان يُطلق بمعنى الوصفِ كالوصفِ بالعادلِ، فكما يقالُ رجلٌ عادلٌ يقال رجلٌ عدْل) وَلَمْ يُطْلِقُوا الرَّبَّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَحْدَهُ (بالألفِ واللّامِ لا يُطلقُ إلّا على الله) وَهُوَ فِي الْعَبِيدِ مَعَ التَّقييدِ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، قال ارجع إلى ربّك (معناه أنٍه في الآيتينِ في القرءانِ أُطلق على غيرِ اللهِ لأنه غيرُ مقرون بالألفِ واللّامِ) وَقَالَ الْوَاسِطِيُّ: هُوَ الْخَالِقُ ابْتِدَاءً، وَالْمُرَبِّي غِذَاءً، وَالْغَافِرُ انْتِهَاءً (هكذا الواسطيّ فسّر الرّبّ هذا كلامُ الواسطيّ ويحتملُ أن يكون كلامًا من المؤلٍفِ) وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ.
وَالْعَالَمُ: هُوَ مَا عَلِمَ بِهِ الْخَالِقُ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، أَوْ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى وُجُودِهِ (أي دليلٌ على وجودِ اللهِ، العالمُ دليلٌ على وجودِ اللهِ وسمّي بهذا اللفظِ) وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ مَعَ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْعُقَلَاءِ، أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا مِنَ الْأَعْلَامِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ، وَهِيَ: الدِّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذِكْرُهُمَا قَدْ مَرَّ.
﴿الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ (3)﴾ الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف آية 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب آية 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى
https://www.islam.ms/ar/?p=886