تفسير سورة الفاتحة آية 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال المؤلف: مَكِّيَّةٌ، وَقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَمَدَنِيَّةٌ. نَزَلَتْ بِمَكَّةَ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَتُسَمَّى أُمَّ الْقُرْآنِ لِلْحَدِيثِ قال عليه السّلامُ: لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرءان (رواه البخاري) وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَسُورَةَ الْوَافِيَةِ وَالْكَافِيَةِ لِذَلِكَ، وَسُورَةَ الْكَنْزِ ؛ وَسُورَةَ الشِّفَاءِ وَالشَّافِيَةِ ؛ لِقَوْلَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَاتِحَةُ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ" (هذا غير ثابتٍ) وَسُورَةَ الْمَثَانِي ؛ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَسُورَةَ الصَّلَاةِ لِمَا يُرْوَى، وَلِأَنَّهَا تَكُونُ وَاجِبَةً (أي عند الحنفيّةِ لأنَّ الفاتحةَ ليست من أركانِ الصّلاةِ عندهم، الفريضةُ عندهم ما كان ركنًا لكن تركُ قراءتِها فيه إثمٌ عندهم لأنّها واجبةٌ) أَوْ فَرِيضَةً (قوله أو فريضة عند غير الحنفيّة)، وَسُورَةَ الْحَمْدِ وَالْأَسَاسِ، فَإِنَّهَا أَسَاسُ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: إِذَا اعْتَلَلْتَ أَوِ اشْتَكَيْتَ فَعَلَيْكَ بِالْأَسَاسِ. وَآيُهَا سَبْعٌ بِالِاتِّفَاقِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُرَّاءُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وفقهاؤها عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّورِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ والتبرّك للابتداءِ بها وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعَهُ رحمهم الله ولذا لا يُجهر بها عندهم في الصّلاةِ وقرّاءُ مكّةَ والكوفةِ على أنّها آيةٌ من الفاتحةِ ومن كلِّ سورةٍ وعليه الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ -رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَلِذَا يَجْهَرُونَ بِهَا، وَقَالُوا: قَدْ أَثْبَتَهَا السَّلَفُ فِي الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْرِ بِتَجْرِيدِ الْقُرْآنِ [عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (وهذا غير ثابت). وَلَنَا (أي الحنفيةِ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسمْتُ الصَّلَاةَ -أَيِ: الْفَاتِحَةَ- بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" (والحديثُ صحيحٌ مشهورٌ)
فَالِابْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الْفَاتِحَةِ لَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِهَا إِجْمَاعًا. وَالْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي "صِحَاحِ الْمَصَابِيحِ" (المصابيحُ كتابٌ ألّفهُ القزوينيّ قسّمهُ بين الأحاديثِ التي يوردُها بين الصّحاح والحِسان، الصّحاحُ عنده ما أخرجَهُ الشّيخان والحِسانُ ما سوى ذلك) وَمَا ذَكَرُوا لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بين السّورِ عِنْدَنَا (بمعنى أنهم يثبتون كونَها من القرءانِ لكن لا يقولون إنّها قرءان في أوائل ِالسّورِ) ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي "الْمَبْسُوطِ"، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَيْنَا أَنْ لَوْ لَمْ نَجْعَلْهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي "الْكَافِي".
وَتَعَلَّقَتِ الْبَاءُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: باسمِ اللَّهِ أَقْرَأُ، أَوْ أَتْلُو ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُو (أي يأتي بعد) التَّسْمِيَةَ مَقْرُوءٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا حَلَّ وَارْتَحَلَ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَاتِ، كَانَ الْمَعْنَى: بِاسمِ اللَّهِ أَحُلُّ، وَبِاسمِ اللَّهِ أَرْتَحِلُ، وَكَذَا الذَّابِحُ، وَكُلُّ فَاعِلٍ يَبْدَأُ في فِعْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ كَانَ مُضْمِرًا (مقدّرً) مَا جَعَلَ التَّسْمِيَةَ مَبْدَأً لَهُ. وَإِنَّمَا قُدِّرَ الْمَحْذُوف: لِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنَ الْفِعْلِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ [هُوَ الْمُتَعَلَّقُ بِهِ]. وَكَانُوا يَبْدَءُونَ بِأَسْمَاءِ آلْهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: بَاسِمِ اللَّاتِ، وَبَاسِمِ الْعُزَّى، فَوَجَبَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُوَحِّدُ مَعْنَى اخْتِصَاصِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالِابْتِدَاءِ (الاختصاص يفهم من ذلك)، وَذَا بِتَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْفِعْلُ فِي اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقُ: 1] لِأَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي قَوْلٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ أَهَمَّ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ أَوْقَعَ (أي أكثرَ تأثيرًا في النّفسِ) وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ " اقْرَأْ " عَلَى مَعْنَى: افْعَلِ الْقِرَاءَةَ وَحَقِّقَهَا، كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، غَيْرَ مُتَّعَدٍ إِلَى مَقْرُوءٍ بِهِ (معناه غيرَ مرادٍ تعيينَ أمرٍ، تعيينَ المقروءِ) وَأَنْ يَكُونَ بِاسْمِ رَبِّكَ مَفْعُولَ اقْرَأِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَاسْمُ اللَّهِ يَتَعَلَّقُ بِالْقِرَاءَةِ تَعَلُّقَ الدُّهْنِ بِالْإِنْبَاتِ فِي قَوْلِهِ: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ عَلَى مَعْنَى: مُتَبَرِّكًا بَاسِمِ اللَّهِ اقْرَأْ، فَفِيهِ تَعْلِيمُ عِبَادِهِ كَيْفَ يَتَبَرَّكُونَ بِاسْمِهِ وَكَيْفَ يُعَظِّمُونَهُ، وَبُنِيَتِ الْبَاءُ عَلَى الْكَسْرِ لِأَنَّهَا تُلَازِمُ الْحَرْفِيَّةَ وَالْجَرَّ، فَكُسِرَتْ لِتُشَابِهَ حَرَكَتُهَا عَمَلَهَا.
وَالِاسْمُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي بَنَوْا أَوَائِلَهَا عَلَى السُّكُونِ كَالِابْنِ وَالِابْنَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِذَا نَطَقُوا بِهَا مُبْتَدِئِينَ زَادُوا هَمْزَةً تَفَادِيًا عَنِ الِابْتِدَاءِ بِالسَّاكِنِ (أي هربًا عن الابتداءِ بالسّاكنِ تَعَذُّرًا لأنّه يصعبُ الابتداء بالسّاكنِ) وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الدَّرْجِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى زِيَادَةِ شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَزِدْهَا، وَاسْتَغْنَى عَنْهَا بِتَحْرِيكِ السَّاكِنِ، فَقَالَ: سِمٌ وسَمٌو وهو مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْأَعْجَازِ (الأعجازُ معناه الأواخرُ) كَيَدٍ، وَدَمٍ، وَأَصْلُهُ: سِموٌّ بِدَلِيلِ تَصْرِيفِهِ كَأَسْمَاءَ وَسُمِّيَ، وَسُمِّيَتْ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السُّمُوِّ، وَهُوَ: الرِّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَنْوِيهٌ بِالْمُسَمَّى، وَإِشَادَةٌ بِذِكْرِهِ. وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي الْخَطِّ هُنَا، وَأُثْبِتَتْ فِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الْعَلَقُ: 1]؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهَا أي في التٍسميةِ مَعَ أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي اللَّفْظِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَطُوِّلَتِ الْبَاءُ عِوَضًا مِنْ حَذْفِهَا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِكَاتِبِهِ: طَوِّلِ الْبَاءَ (تُطوّل نحوَ نصفِ ألفٍ) وَأَظْهِرِ السِّينَاتِ، وَدَوِّرِ الْمِيمَ.
ولفظ الجلالة "الله" علم للذات المقدس المستحقِّ لنهاية التعظيم وغايةِ الخضوع، ومعناهُ من له الإلهية وهي القدرةُ على الاختراع أي إبرازِ المعدومِ إلى الوجودِ.
واسم الله علم غير مشتق قال الخليل بن أحمدَ الفراهيديُّ: اسم الذات المقدس الله ليس مشتقًا بل مرتجل، وحُكي عن سيبويه، هذا الذي اختاره الأكابر من اللغويين.
الإلهُ هو المعبودُ بحقٍّ إلّا أنّ المشركين سمّوا به معبوداتِهم الباطلةَ، كما ذكر ذلك صاحبُ المصباحِ. لو كان يصحّ إطلاقُ كلمةِ إله على المعبودِ بحقٍّ أو بغيرِ حقٍّ كيف يصحُّ قولُ لا إلهَ إلّا الله.
قال المؤلف: الإلهُ هُوَ اسْمٌ غَيْرُ صِفَةٍ ؛ لِأَنَّكَ تَصِفُهُ، وَلَا تَصِفُ بِهِ، لَا تَقُولُ: شَيْءٌ إِلَهٌ، كَمَا لَا تَقُولُ: شَيْءُ رَجُلٌ، وَتَقُولُ: الله وَاحِدٌ صَمَدٌ، وَلِأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَوْصُوفٍ تَجْرِي عَلَيْهِ، فَلَوْ جَعَلْتَهَا كُلَّهَا صِفَاتٍ لَبَقِيَتْ صِفَاتٍ غَيْرَ جَارِيَةٍ عَلَى اسْمٍ مَوْصُوفٍ بِهَا، وَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا اشْتِقَاقَ لِهَذَا الِاسْمِ عِنْدَ الْخَلِيلِ وَالزَّجَّاجِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى الِاشْتِقَاقِ: أَنْ يَنْتَظِمَ فِي الصِّيغَتَيْنِ فَصَاعِدًا مَعْنًى وَاحِدٌ. وَصِيغَةُ هَذَا الِاسْمِ وَصِيغَةُ قَوْلِهِمْ أَلِهَ: إِذَا تَحَيَّرَ، يَنْتَظِمُهُمَا مَعْنَى التَّحَيُّرِ وَالدَّهْشَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْهَامَ تَتَحَيَّرُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ (معناه أكثرُ العبادِ لا يفكّرون التّفكيرَ الصّحيحَ فيصلوا إلى معرفةِ المعبودِ الحقٍّ بل ينقطعونَ دون ذلك) و تَدْهَشُ الْفِطَنُ، وَلِذَا كَثُرَ الضَّلَالُ، وَفَشَا الْبَاطِلُ، وَقَلَّ النَّظَرُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَهًا إِذَا عُبِدَ، فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى: مَأْلُوه أَيْ مَعْبُود كَقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ: مَخْلُوقُهُ (هو جعل كلمةَ إله نظير كلمة خلقٍ على أحد معنييه وهو المخلوق الذي هو اسمُ مفعول) وَتُفَخَّمُ لَامُهُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا فَتْحَةٌ أَوْ ضَمَّةٌ، وَتُرَقَّقُ إِذَا كَانَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ (لام لفظ الجلالةِ المشهورُ عند الجمهورِ المعمولُ به عند الجمهورِ تفخيمُها إن سبق لفظَ الجلالةِ ضمَّةٌ أو فتحة والتّرقيق إن كان قبل اللفظ كسرةٌ) وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَقِّقُهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَخِّمُ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَ"الرَّحْمَنُ": فَعْلَان منْ رَحِمَ، وَهُوَ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، كَغَضْبَانَ مِنْ غَضِبَ، وَهُوَ الْمُمْتَلِئُ غَضَبًا (الغاضبُ والغضبانُ بينهما فرقٌ، الغضبانُ فيه مبالغةٌ، أبلغُ من الغاضبِ. وَكَذَا "الرَّحِيمُ": فَعِيلٌ مِنْهُ، كَمَرِيضٍ مِنْ مَرِضَ، وَفِي "الرَّحْمَنِ" مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي "الرَّحِيمِ"؛ لِأَنَّ فِي "الرَّحِيمِ" زِيَادَةً وَاحِدَةً، وَفِي "الرَّحْمَنِ" زِيَادَتَيْنِ، وَزِيَادَةُ اللَّفْظِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى؛ وَلِذَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ: "يَارَحْمَنَ الدُّنْيَا"؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ "وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ"؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ. وَقَالُوا: "الرَّحْمَنُ" خَاصٌّ تَسْمِيَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ (معناهُ لا يسمّى به غيرُ الله لكن معناه بحسبِ اللغةِ كثيرُ الرّحمة) وَعَامٌّ مَعْنًى لِمَا بَيَّنَّا، وَ "الرَّحِيمُ" بِعَكْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وَيَخُصُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا قَدَّمَ "الرَّحْمَنَ" -وَإِنْ كَانَ أَبْلَغَ- (هذا جاء على خلافِ الغالبِ الغالبُ أن يُذكرَ الأدنى ثمّ الأعلى) وَالْقِيَاسُ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ ذو فنونٍ نحريرٌ ؛ لِأَنَّهُ كَالْعَلَمِ لِمَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ (والرّحمن صار كالعلم لأنّه لا يوصفُ به غيرُ اللهِ). وَرَحْمَةُ اللَّهِ: إِنْعَامُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَصْلُهَا: الْعَطْفُ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي مُسَيْلِمَةَ: "وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا" فَبَابٌ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ (معناه ما جروا على لغةِ العربِ وعادتِهم في عدمِ تسميةِ غيرِ اللهِ بهِ).
وَرَحْمَنُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عِنْدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّرْطَ انْتِفَاءُ فَعْلَانَةٍ، إِذْ لَيْسَ لَهُ فَعْلَانَةٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ فَعْلَى صَرَفَهُ إِذْ لَيْسَ لَهُ فَعْلَى، وَالْأَوَّلُ الْوَجْهُ (المعتمدُ هو الأوّلُ).
https://www.islam.ms/ar/?p=885