تفسير سورة البقرة من آية 96 إلى 98
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} التَّنكِيرُ يَدُلُّ على أنّ المرادَ حَياةٌ مَخصُوصَةٌ وعلى الحَياةِ المتَطَاوِلَةِ
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} هوَ مَحمُولٌ على المعنى لأنّ مَعنى أَحْرَصَ النّاسِ أَحرَصُ مِنَ النّاسِ ، نَعَم قَدْ دَخَلَ الذينَ أَشْرَكُوا تَحتَ النّاسِ ولَكِنَّهُم أُفرِدُوا بالذِّكْرِ لأنّ حِرصَهُم شَديدٌ كمَا أنّ جِبرِيلَ ومِيكَائِيلَ خُصَّا بالذِّكْرِ وإنْ دَخَلَا تَحتَ الملائِكَةِ وفيهِ تَوبِيخٌ عَظِيمٌ لأنّ الذينَ أَشْرَكُوا لا يؤمِنُونَ بعَاقِبَةٍ ولا يَعرِفُونَ إلا الحَياةَ الدُّنْيا ، فحِرصُهُم علَيها لا يُستَبْعَدُ لأنّها جَنَّتُهُم فَإذَا زَادَ في الحِرْصِ مَنْ لهُ كِتَابٌ وهوَ مُقِرٌّ بالجَزاءِ كانَ حَقِيقًا بأَعظَمِ التَّوبِيخ ، وإنّما زَادَ حِرصُهُم على الذينَ أَشْرَكُوا لأنّهم عَلِمُوا أنّهم صَائِرُونَ إلى النّارِ لِعِلْمِهِم بحَالِهم والمشركونَ لا يَعلَمُونَ ذلكَ.
وقَولُه: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} بَيَانٌ لِزِيَادَةِ حِرصِهِم على طَرِيقِ الاسْتِئنَافِ.
وقِيلَ : أَرَادَ بالذينَ أَشْرَكُوا المجُوسَ لأَنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لِمُلُوكِهِم "عِشْ أَلفَ نَيْرُوزٍ".
وعنِ ابنِ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُمَا : هوَ قَولُ الأَعَاجِمِ "زِه هَزَارَسَال".
وقِيلَ: ومِنَ الذينَ أَشْرَكُوا كَلامٌ مُبتَدَأٌ أيْ ومِنهُم نَاسٌ يَوَدُّ أحَدُهُم ، والذينَ أَشْرَكُوا على هَذا مُشَارٌ بهِ إلى اليَهُودِ لأنَّهم قَالُوا عُزَيرٌ ابنُ الله.
والضَّمِيرُ في {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} لأَحَدِهِم.
وقَولُه: {أَنْ يُعَمَّرَ} أيْ ومَا أحَدُهُم بمَنْ يُزَحزِحُهُ مِنَ النّارِ تَعمِيرُه ، ويجُوز أن يَكُونَ هوَ مُبهَمًا وأنْ يُعَمَّرَ مُوضِحَهُ.
والزَّحْزَحَةُ التَّبْعِيدُ والإنْحَاءُ.
قالَ في جَامِع العُلُومِ وغَيرِه : لَو يُعَمَّرُ بمعنى " أنْ يُعَمَّرَ " ، فـ " لَو " هُنا نائِبَةٌ عن " أنْ " و " أنْ " معَ الفِعْلِ في تَأوِيلِ الْمَصدَرِ وهوَ مَفعُولٌ يَوَدُّ أيْ يَوَدُّ أحَدُهُم تَعمِيرَ أَلفِ سَنَةٍ.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} أيْ بعَمَلِ هؤلاءِ الكُفَّارِ فَيُجَازِيْهِم عَلَيهِ.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} مُنِعَ الصَّرْفُ فيهِ للتَّعرِيفِ والعُجمَةِ، ومَعنَاهُ عبدُ اللهِ لأنّ " جَبْرَ " هوَ العَبدُ بالسُّريَانيّةِ و " إِيْلَ " اسمُ الله.
رُوِيَ أنّ ابنَ صُورْيَا مِن أَحْبَارِ اليَهُودِ حَاجَّ النَّبيَّ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم وسَأَلَهُ عَمَّنْ يَهبِطُ علَيهِ بالوَحْي فقَالَ : "جِبرِيلُ.
فقَالَ: ذَاكَ عَدُوُّنَا ولَو كَانَ غَيرَه لآمَنَّا بِكَ، وقَدْ عَادَانَا مِرَارًا ، وأَشَدُّهَا أنّهُ أُنزِلَ على نَبِيِّنَا أنّ بَيتَ المقدِسِ سَيُخَرّبُه بُختَنَصَّر فبَعَثْنَا مَنْ يَقتُلُهُ فَلَقِيَهُ ببَابِلَ غُلَامًا مِسكِينًا فدَفَعَ عَنه جِبرِيلُ وقالَ : إنْ كَانَ رَبُّكُم أَمَرَهُ بهَلاكِكُم فَإنَّهُ لا يُسَلِّطُكُم علَيهِ ، وإنْ لَم يَكُنْ إيّاهُ فَعَلَى أيِّ ذَنبٍ تَقتُلُونَهُ.
{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} فإنَّ جِبرِيلَ نَزَّلَ القُرآنَ ، ونَحوُ هَذا الإضْمَارِ - أَعْني إضْمَارَ مَا لم يَسْبِقْ ذِكْرُه - فيهِ فَخَامَةٌ حَيثُ يُجعَلُ لِفَرْطِ شُهرَتِه كأَنَّهُ يَدُلُّ على نَفسِهِ ويُكتَفَى عن اسمِهِ الصَّرِيحِ بذِكْرِ شَىءٍ مِن صِفَاتِهِ.
{عَلَى قَلْبِكَ} أيْ حِفظِهِ إيّاكَ. وخُصَّ القَلبُ لأَنّهُ مَحَلُّ الحِفظِ كقَولِه : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء : 491) ، وكانَ حَقُّ الكَلامِ (أي الأَصْلُ في اللُّغَةِ) أنْ يُقَالَ على قَلبِي ولَكِنْ جَاءَ علَى حِكَايَةِ كَلامِ اللهِ كَمَا تَكَلَّمَ بهِ ، وإنّما اسْتَقَامَ أنْ يَقَعَ فَإنَّهُ نَزّلَهُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ لأنَّ تَقدِيرَهُ إنْ عَادَى جِبريلَ أَحَدٌ مِن أَهلِ الكِتَابِ فَلا وَجْهَ لِمُعَادَاتِهِ حَيثُ نَزَلَ كِتَابًا مُصَدِّقًا لِلكُتُبِ بَينَ يَدَيْهِ ، فَلَو أَنْصَفُوا لَأَحَبُّوهُ وشَكَرُوا لَهُ صَنِيعَهُ في إنْزَالِه مَا يَنفَعُهُم ويُصَحّحُ المنَزَّلَ علَيهِم.
وقِيلَ: جَوابُ الشَّرطُ مَحذُوفٌ تَقدِيرُه مَن كَانَ عَدُوًّا لجِبرِيلَ فَلْيَمُتْ غَيظًا فَإنّهُ نَزَلَ الوَحيُ على قَلبِكَ
{بِإِذْنِ اللَّهِ} بأَمْرِهِ
(بإذنِ اللهِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِل في نَزَّلَ أيْ مَأذُونًا لهُ، ومُصَدّقًا حالٌ منَ الهاءِ في نَزّلَه، وكذا هُدًى وبُشرَى أي هَادِيًا ومُبَشّرًا، وقَالَتِ البَاطنِيّةُ: القُرءانُ لم يَنزِلْ على رسولِ الله بالأحرُفِ التي نَقرَؤها ولكنّهُ إلهامٌ أُنزِلَ على قَلبِهِ إلا أنّ محَمَّدًا صلى اللهُ علَيهِ وسلّم عَبّرَه بالعَربيّةِ وبهذه الحرُوفِ التي نَقرؤها فالقُرءان ذلكَ الباطِنُ لا هَذه الألفاظُ لقَولِه تَعالى "نزّلَه على قَلبِكَ". ولَكِنّا نَقُولُ هَذا فَاسِدٌ لأنّ اللهَ تَعالى جَعلَه مُعجِزًا بنَظْمِه العَجِيبِ حَيثُ قالَ "فَائْتُوا بسُورَةٍ مِثلِه" وقال "إنّا أَنْزَلنَاهُ قُرءانًا عَربيّا" وهَذا يَتَعَلَّقُ بالنَّظْم)
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} رَدٌّ على اليَهُودِ حِينَ قَالُوا: إنّ جِبرِيلَ يَنزِلُ بالحَرْبِ والشِّدّةِ فقِيلَ : فَإنّهُ يَنزِلُ بالْهُدَى والبُشْرَى أيضًا.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} وخُصَّ الْمَلَكَانِ بالذِّكْرِ لِفَضْلِهِمَا كَأَنَّهما مِن جِنسٍ آخَرَ إذِ التَّغَايُرُ في الوَصْفِ يُنَزَّلُ مَنزِلَةَ التَّغَايُرِ في الذّاتِ.
{فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} أيْ لَهُم فَجَاءَ بالظّاهِرِ لِيَدُلَّ على أنَّ اللهَ إنّما عَادَاهُم لِكُفرِهِم ، وأنَّ عَداوَةَ الملائِكَةِ كُفرٌ كعَدَاوَةِ الأنبياءِ ومَن عَادَاهُم عَادَاهُ اللهُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=518