تفسير سورة البقرة من آية 8 إلى 10
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} افتَتَح سُبحَانَه وتَعالى بذِكْرِ الذينَ أَخلَصُوا دِينَهُم للهِ ووَاطَأَتْ فيهِ قلُوبُهم ألسِنتَهُم ، ثم ثَنّى بالكَافِرينَ قُلُوبًا وأَلسِنَةً ، ثم ثَلَّثَ بالمنافقِينَ الذينَ آمَنُوا بأفواهِهم ولم تؤمِن قلُوبُهم وهُم أخبَثُ الكفَرةِ لأنّهم خَلَطُوا بالكُفرِ استِهزاءً وخِداعًا ولِذَا نَزلَ فِيهم {إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء : 145].
وقالَ مُجاهِدٌ : أربَعُ آياتٍ مِن أوّلِ السّورَةِ في نَعْتِ المؤمنِينَ ، وآيتَانِ في ذِكْر الكافِرينَ ، وثَلاثَ عَشْرَةَ آيةً في المنافِقِينَ ، نَعَى علَيهِم فِيها نُكرَهُم وخُبثَهُم وسَفَهَهُم ، واسْتَجْهَلَهُم واستَهزأَ بِهم وتَهكَّم بفِعلِهِم وسَجَّلَ بطُغيَانِهم وعَمَهِهِم ودَعَاهُم صُمًّا بُكْمًا عُميًا ، وضَرَبَ لهمُ الأمثَالَ الشَّنِيعَةَ.
والإيمَانُ كمَا قالَ أَهلُ السُّنّةِ إنّه إقرَارٌ باللّسَان وتَصدِيقٌ بالجَنَان.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أي رسولَ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم أي يُظهِرُونَ غَيرَ مَا في أَنفُسِهِم. فالخِدَاعُ إظْهَارُ غَيرِ مَا في النَّفْسِ. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} أيْ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللهِ والمؤمنِينَ بإظْهَارِ الإيمانِ وإضْمَارِ الكُفرِ. ومَنفَعَتُهُم في ذلكَ مُتَارَكَتُهُم عن المحَاربَةِ التي كانَت مَع مَن سِواهُم مِنَ الكُفّار وإجرَاءُ أحكَامِ المؤمنِينَ علَيهِم ونَيلُهُم مِنَ الغَنائِم وغَيرِ ذلكَ. لأنّهم يتَشَهَّدُونَ معَ إبطَانِهم كُفرَهُم فيُجرَى علَيهِم بسَببِ ذلكَ أحكَامُ المؤمنِينَ ويَنالُون مِنَ الغَنائِم ويُدفَنُونَ في مقَابِر المسلِمِينَ ونَحو ذلكَ.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أيْ ومَا يُعامَلُونَ تِلكَ الْمُعَامَلَةَ الْمُشَبَّهَةَ بمعَامَلَةِ المخَادِعِينَ إلا أنفُسَهم، لأنّ ضَررَها يَلحَقُهُم. وحَاصِلُ خِدَاعِهِم وهوَ العَذابُ في الآخِرَةِ يَرجِعُ إلَيهِم فكَأَنَّهم خَدَعُوا أَنفُسَهُم. والنَّفسُ ذاتُ الشّىءِ وحَقِيقَتُه. ثم قِيلَ للقَلبِ والرُّوحِ النَّفسُ لأنَّ النّفْسَ بهِما، والمعنى بمخَادَعَتِهم ذَواتِهم أنّ الخِدَاعَ لاصِقٌ بهِم لا يَعْدُوهُم إلى غَيرِهِم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} أنّ حَاصِلَ خِدَاعِهِم يَرجِعُ إلَيهِم، والشُّعُورُ عِلمُ الشّىءِ عِلمَ حِسٍّ مِنَ الشِّعَارِ وهوَ ثَوبٌ يَلِي الجَسَد، ومَشَاعِرُ الإنسَانِ حَواسُّه لأنّها آلاتُ الشُّعُورِ، والمعنى أنّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذلكَ بِهم كالمحسُوسِ وهُم لتُمَادِي غَفلَتِهم كالذي لا حِسَّ لهُ.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شَكٌّ ونِفَاقٌ لأنّ الشّكَّ تَردُّدٌ بينَ الأمرَينِ والمنَافِقُ مُتَردّدٌ. وفي الحَدِيث "مَثَلُ الْمُنَافِقِ كمَثَلِ الشّاةِ العَائِرَةِ بَينَ الغَنمَينِ" رواه مسلم. (أي المُتَردِّدَةِ بَينَ قَطِيعَينِ لا تَدْرِي أيَّهُما تَتْبَعُ). والمريضُ مُتَردّدٌ بينَ الحيَاةِ والموت، ولأنّ الْمَرضَ ضِدُّ الصّحّةِ والفَسَادَ يُقَابِلُ الصّحّةَ فصَارَ الْمَرضُ اسمًا لِكُلّ فَسَاد،ٍ والشَّكُّ والنّفَاقُ فَسَادٌ في القَلْب.
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي ضَعفًا عن الانتِصَارِ وعَجْزًا عن الاقتِدَارِ.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلِمٌ.
{بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} أي بكَذِبِهم في قولِهم: آمَنّا باللهِ وباليَومِ الآخِر، والكَذِبُ الإخبَارُ عن الشّىءِ على خِلافِ مَا هوَ علَيهِ.
https://www.islam.ms/ar/?p=416