تفسير سورة البقرة من آية 6 إلى 7
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} الكُفرُ سَتْرُ الحَقّ بالجُحُودِ ، والمرادُ بالذينَ كَفَرُوا أُنَاسٌ بأَعيَانِهم عَلِمَ اللهُ أنّهم لا يؤمِنُونَ كأَبي جَهلٍ وأبي لَهبٍ وأضرَابِهما. كأنّهُ قِيلَ: إنّ الذينَ كَفَرُوا مُستَوٍ علَيهِم إنذَارُكَ وعدَمُه. والإنذارُ التّخويفُ مِن عِقَابِ اللهِ بالزّجْر عن المعاصِي والحِكمَةُ في الإنذَارِ معَ العِلم بالإصرَارِ إقَامَةُ الحُجّةِ ولِيَكُونَ الإرسَالُ عَامًّا ولِيُثَابَ الرّسولُ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قالَ الزّجّاجُ: الخَتْمُ التَّغطِيَةُ لأنّ في الاستِيثَاقِ مِنَ الشّىءِ بضَرْبِ الخَاتَم علَيهِ تَغطِيَةً لهُ لئَلّا يُطَّلَعَ علَيهِ. وقالَ ابنُ عبّاسٍ: طَبَعَ اللهُ على قُلُوبِهم فلا يَعقِلُونَ الخَيرَ.
يَعني أنّ اللهَ طَبَعَ علَيها فجَعلَها بحَيثُ لا يَخرُج مِنها ما فِيهَا مِنَ الكُفرِ ولا يَدخُلُها مَا لَيسَ فِيها مِنَ الإيمانِ. وحَاصِلُ الخَتْم والطَّبْعِ خَلقُ الظُّلمَةِ والضّيقِ في صَدْرِ العَبدِ فلا يؤمِنُ مَا دامَت تِلكَ الظُّلمَةُ في قَلبِه.
قال الحافظُ ابنُ الجَوزيّ: والقَلبُ مَسكَنُ العَقلِ وسُمّيَ قَلبًا لِتَقَلُّبِه وإنّما خَصَّه بالخَتْم لأنّه محَلُّ الفَهم.اه.
والقَلبُ اللَّحمُ الصّنَوبريُّ الشَّكْلِ المُودَعُ في الجَانِب الأيسَرِ مِنَ الصَّدْر، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فجَعَلَ العَقلَ بالقَلبِ كمَا جَعَلَ السَّمْعَ بالأُذُن.
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}والبَصَرُ: نُورُ العَينِ وهوَ مَا يُبصِرُ بهِ الرّائي، كمَا أنّ البَصِيرَة نُورُ القَلبِ وهيَ مَا بهِ يُستَبصَرُ ويُتَأمَّلُ وكأَنّهما جَوهَرانِ لَطِيفَانِ خَلقَهُما اللهُ تَعالى فِيهما آلَتَينِ للإبصَارِ والاسْتِبصَار.
والغِشَاوَةُ: الغِطَاءُ. قالَ الشّيخُ الإمامُ أبو مَنصُورِ بنُ عليٍّ رحمَه الله: الكَافرُ لَمّا لم يَسمَعْ قَولَ الحَقّ ولم يَنظُرْ في نَفسِه وفي غَيرِه مِنَ المخلُوقَاتِ لِيَرى آثَارَ الحُدُوثِ فيَعلَمَ أنْ لا بُدّ مِن صَانِعٍ، جُعِلَ كأنّ على بصَرِه وسَمعِه غِشَاوَةً، وإنْ لم يَكُنْ ذلكَ حَقِيقَةً، وهَذا دَليلٌ على أنّ الأسمَاعَ عِندَه دَاخِلَةٌ في حُكمِ التّغشِيَةِ.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} الفَرقُ بينَ العَظِيمِ والكَبِيرِ أنّ العَظِيمَ يُقَابِلُ الحَقِيرَ والكَبِيرَ يُقَابِلُ الصّغِيرَ فكَأنَّ العَظِيمَ فَوقَ الكَبِيرِ كمَا أنّ الحَقِيرَ دُونَ الصّغِير. ومَعنى التّنكِيرِ أنّ على أبصَارِهم نَوعًا مِنَ التّغطِيَةِ غَيرَ مَا يتَعَارَفُه النّاسُ وهوَ غِطَاءُ التّعَامِي عن آياتِ الله، ولهم مِن بَينِ الآلام العِظَامِ نَوعٌ عَظِيمٌ مِنَ العَذابِ لا يَعلَمُ كُنهَهُ أي حَقِيقَتَهُ إلا اللهُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=415