تفسير سورة البقرة من آية 1 إلى 5
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{الم} قالَ ابنُ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما : أَقسَمَ اللهُ بهذه الحرُوف. ورُوِي عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال: مَعنَاه أنَا اللهُ أعلَمُ. وبهِ قالَ ابنُ مَسعُودٍ وسَعِيدُ بنُ جُبَير.
{ذلكَ الكِتَابُ} أي ذلكَ الكِتَابُ الذي وَعَدَ بهِ على لِسَانِ مُوسَى وعِيسَى علَيهِما الصّلاةُ والسّلام أي ذلكَ الكتابُ المنزَّلُ هوَ الكتَابُ الكَامِلُ
{لا رَيبَ فيه} لا شَكَّ فيهِ أنّهُ حَقٌّ
{هُدًى للمُتّقِين} والهُدَى الدّلالَةُ الْمُوصِلَةُ إلى البُغيَةِ، وإنّما قيل {هدًى لِّلْمُتَّقِينَ} والمتَّقُونَ مُهتَدُونَ على معنى طَلَبِ الزّيادَةِ على ما هوَ ثَابِتٌ فيهِ واستِدَامتَه كقولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي زِدْنا هُدًى وثَبّتْنا.
والمتّقِي في الشَّريعَة مَن يَقِي نَفسَه تَعاطِي مَا يَستَحِقُّ بهِ العقُوبَةَ مِن فِعلٍ أو تَرْكٍ فهوَ الذي يؤدّي الواجبَاتِ ويَجتَنِبُ المحَرّمَاتِ.
وفي إخبَاره عنهُ بأنّهُ هُدًى للمُتّقِينَ قَرَّر بذلكَ كَونَه يَقِينًا لا يَحُومُ الشّكُّ حَولَه وحَقًّا لا يَأتِيْه البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ ولا مِن خَلفِه.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي همُ الذينَ يؤمِنُونَ أي يُصَدّقُونَ {بِالْغَيْبِ} أي بما غَابَ عَنهُم مما أَنبَأَهُم بهِ النّبيُّ علَيهِ السّلامُ مِن أَمرِ البَعْثِ والنّشُورِ والحِسَابِ وغَيرِ ذلكَ، والإيمانُ الصّحِيحُ أنْ يُقِرَّ باللّسَانِ ويُصَدّقَ بالجَنَانِ.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} أي يؤدُّونَها ويحافظونَ عليها فعَبّرَ عن الأدَاءِ بالإقَامَةِ لأنّ القِيامَ بَعضُ أركانِها
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} أي ومِنَ الذي أعطَينَاهُم يتَصَدَّقُونَ فيَدفَعُونَ الزّكاةَ وغَيرَها.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} هم مؤمنُو أهلِ الكِتَابِ كعَبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ وأَضْرَابِهِ مِنَ الذينَ آمَنُوا بكُلّ وَحْيٍ أُنزِلَ مِن عِندِ اللهِ وأَيقَنُوا بالآخِرَةِ إيقَانًا تَامًّا.فالقُرءانُ هُدًى لهم أيضًا لأنّهم ءامَنُوا بهِ كُلِّه.
{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني سَائرَ الكتُبِ المنَزّلَةِ على النّبِيّينَ علَيهِمُ الصّلاةُ والسّلام
{وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} أي لا يَشُكُّونَ، الإيقَانُ إتقَانُ العِلمِ بانتفَاءِ الشّكِّ والشُّبهَةِ عَنه.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي أُوتُوه مِن عِندِه.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} أي الظّافِرُونَ بما طَلَبوا النّاجُونَ عمّا هَرَبُوا ؛ فالفَلاحُ دَرْكُ البُغيَةِ والمفلِحُ الفَائزُ بالبُغيَةِ.
فانظُرْ كيفَ قَرّرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ التّنبِيهَ على اختِصَاصِ الْمُتَّقِينَ بنَيلِ مَا لا ينَالُه أحَدٌ على طُرقٍ شَتّى وهيَ ذِكرُ اسمِ الإشَارةِ وتَكرِيرُه، ففِيهِ تَنبِيهٌ على أنّهم كمَا ثَبَتَ لَهم الأثَرَةُ بالهدَى فهيَ ثَابتَةٌ لَهم بالفَلاح.
https://www.islam.ms/ar/?p=414