تفسير سورة البقرة من آية 11 إلى 15
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} ومِنَ النّاسِ يعني المنافقينَ مَن {إذَا قِيلَ لَهم لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} والفَسَادُ خُرُوجُ الشّيءِ عن حَالِ استِقَامَتِه وكَونِه مُنتَفَعًا بهِ، وضِدُّه الصَّلاحُ وهوَ الحُصُولُ على الحَالِ الْمُستَقِيمَةِ النّافِعَةِ.
والفَسَادُ في الأرضِ هَيْجُ أي حصولُ الحُرُوبِ والفِتَن لأنّ في ذلكَ فَسَادَ مَا في الأرض وانتِفَاءَ الاستِقَامَةِ عن أحوالِ النّاسِ والزّرُوعِ والْمَنافِع الدّينِيّةِ والدُّنيَويّةِ، وكانَ فَسَادُ الْمُنَافقِينَ في الأرض أنّهم كانُوا يُمايِلُونَ الكُفّارَ ويُمالِئُونَهم على المسلِمِين بإفشَاءِ أَسرَارِهم إلَيهِم وإغرَائِهم (أي إفسادِهِم) علَيهِم وذلكَ مما يؤدّي إلى هَيْجِ الفِتَنِ بَينَهُم.
{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} بَينَ المؤمِنِينَ والكَافِرينَ بالْمُدَارَاةِ، يَعني أنّ صِفَةَ الْمُصلِحِينَ خَلَصَتْ لَنَا وتَمحّضَتْ مِن غَيرِ شَائِبَةِ قَادح فيها مِن وَجْهٍ مِن وجُوهِ الفَسَادِ.
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} أنّهم مُفسِدُونَ، وقَدْ رَدَّ اللهُ مَا ادّعَوهُ مِنَ الانتِظَامِ في جُملَةِ المصلِحِينَ أَبْلَغَ رَدٍّ وأَدَلَّهُ على سَخَطٍ عَظِيمٍ والمبَالَغَةُ فيهِ مِن جِهَةِ الاستِئنَاف.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ} أي ءامنوا إيمانًا مثلَ إيمانِ النّاس نَصَحُوهُم مِن وَجهَينِ: أحَدُهما تَقبِيحُ مَا كانُوا علَيهِ لِبُعدِه عن الصَّوابِ وَجَرّه إلى الفَسَادِ ، وثَانِيهِما تَبصِيرُهُمُ الطّرِيقَ الأسَدَّ مِن اتّباعِ ذَوِي الأحلام (أي العقول)، فكَانَ مِن جَوابِهم أنْ سَفَّهُوهُم لِتَمادِي جَهلِهم ، وفيهِ تَسلِيَةٌ للعَالِم (أي حملٌ للعَالِم على الصَّبر) مما يَلقَى مِنَ الجَهلَةِ (على ما يلقى من الجاهلين). واللّامُ في النّاسِ للعَهدِ أي كمَا آمَنَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلّم ومَن مَعَه وهُم نَاسٌ مَعهُودُونَ.
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ} وإنّما سَفَّهُوهُم وهُمُ العُقَلاءُ الْمَراجِيحُ لأنَّهم لجَهلِهِمُ اعتَقَدُوا أنّ مَا هُم فِيهِ هوَ الحَقُّ وأنّ مَا عَدَاهُ بَاطِلٌ ، ومَنْ رَكِبَ مَتْنَ البَاطِلِ كانَ سَفِيهًا والسَّفَهُ سَخَافَةُ العَقْلِ وخِفّةُ الحِلْم.
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} أنّهم هُمُ السُّفَهاءُ.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا} يُقَالُ لَقِيتُه ولاقَيتُه إذا استَقبَلتُه قَريبًا مِنه ، وهَذه في بيَانِ مَا كانُوا يَعمَلُونَ مع المؤمنِينَ مِنَ الاستهزاءِ بِهم ولِقَائِهم بوجُوه المصَادِقِينَ وإيهَامِهم أنّهم مَعَهُم.
{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يُقَالُ خَلَوتُ بفُلانٍ وإلَيهِ إذَا انفَرَدتُ مَعهُ ، أي إذا خَلَوا مِنَ المؤمنِينَ إلى شَياطِينِهم. وشَيَاطِينُهُم الذينَ مَاثَلُوا الشّيَاطِينَ في تَمرُّدِهِم وهُمُ اليَهُودُ.
{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} إنّا مُصَاحِبُوكُم ومُوافِقُوكُم على دِينِكُم. وإنّما خَاطَبُوا المؤمِنِينَ بالجُملَةِ الفِعلِيّةِ وشَياطِينَهم بالاسميّةِ محَقَّقَةً أي مؤكَّدَةً بـ " إنّ " لأنّهم في خِطَابِهم مع المؤمنِينَ في ادّعاءِ حُدُوثِ الإيمانِ مِنهُم لا في ادّعاءِ أنّهم أَوحَدِيُّونَ في الإيمان ، إمّا لأنّ أنفُسَهُم لا تُسَاعِدُهُم علَيه إذ ليسَ لهم مِن عقَائدِهم بَاعِثٌ ومحَرّكٌ ، وإمّا لأنّه لا يَرُوجُ عَنهُم لو قَالُوهُ على لفظِ التّأكِيدِ والمبالَغةِ ، وكيفَ يَطمَعُونَ في رَواجِه وهُم بَينَ ظَهراني المهاجِرينَ والأنصَار.
وأمّا خِطَابُهم مع إخوانِهم فقَد كانَ عن رَغبَةٍ وقَد كانَ مُتقَبَّلًا مِنهُم رائجًا عنهُم فكَانَ مَظِنّةً للتّحقِيقِ ومَئِنَّةً للتّأكِيد. (أي مما يُعرف به) وقولُه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} تَأكيدٌ لقَولِه " إنّا مَعكُم " لأنّ مَعنَاهُ الثّبَاتُ على اليَهُوديّةِ ، وقَولُه "إنّما نَحنُ مُستَهزئونَ" رَدٌّ للإسلام ودَفعٌ لَهم منهُم لأنّ المستَهزىءَ بالشّيءِ المستَخِفَّ بهِ مُنكِرٌ لهُ ودَافِعٌ لكَونِه مُعتَدّا بهِ ، ودَفعُ نَقِيضِ الشّيءِ تَأكِيدٌ لثَباتِه.
والاستِهزَاءُ السُّخرِيَةُ والاستِخفَافُ وأَصْلُ البابِ الخِفّةُ مِنَ الهَزْءِ وهوَ القَتْلُ السَّرِيعُ ، وهَزَأ يَهزَأُ مَاتَ على المكَان.
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي يُجَازِيهِم على استِهزائِهم، فسَمَّى جَزاءَ الاستِهزَاءِ باسمه، وهَذا لأنّ الاستِهزَاءَ لا يجُوز على اللهِ تَعالى مِن حَيثُ الحَقِيقَةُ لأنّهُ مِن بَابِ العَبَثِ وتَعَالى عَنهُ.
وفيهِ أنّ اللهَ هوَ الذي يَستَهزىء بهم الاستِهزاءَ الأبلَغَ الذي ليسَ استِهزَاؤهم إليهِ باستِهزَاءٍ لِمَا يَنزِلُ بهم مِنَ النّكَالِ والذُّلّ والهَوَان.
ولَمّا كانَت نِكَايَاتُ اللهِ وبَلايَاهُ تَنزِلُ علَيهِم سَاعَةً فسَاعَة قِيلَ {اللهُ يَستَهزىءُ بهم وَيَمُدُّهُمْ} أي يُمهِلُهُم عن الزّجّاج {فِي طُغْيَانِهِمْ} في غُلُوِّهِم في كُفرِهِم {يَعْمَهُونَ (15)} أي يتَحَيّرُونَ ويَترَدَّدُونَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=417