تفسير سورة البقرة من آية 16 إلى 18
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} أي استَبدَلُوها بهِ واختَارُوها علَيهِ. وإنّما قالَ اشتَرَوا الضَّلالَةَ بالهدَى ولم يَكُونُوا على هُدًى لأنّها في قَومٍ آمَنُوا ثم كفَرُوا. والضّلالَةُ الجَورُ عن القَصدِ وفَقدُ الاهتِدَاء ، يُقَالُ ضَلَّ مَنزِلَه فاستُعِيرَ للذّهابِ عن الصّوابِ في الدِّين.
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الرِّبحُ الفَضلُ على رأس المال ، والتّجَارةُ صِنَاعَةُ التّاجِر وهوَ الذي يَبِيعُ ويَشتري للرّبح ، وإسنادُ الرّبْح إلى التّجَارَة منَ الإسنَادِ المجَازيّ ، ومَعناه فمَا رَبحوا في تِجارَتِهم إذِ التّجَارَةُ لا تَربَح ، ولما وقَع شِراءُ الضّلالَةِ بالهدى مَجازًا أَتْبَعَه ذِكْرَ الرّبْح والتّجَارَةِ تَرشِيحًا له (أي تَقوِيَةً)
{وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} لِطُرُقِ التّجَارَةِ كَمَا يَكُونُ التُّجّارُ المتَصَرّفُونَ العَالِمُونَ بِما يُربَحُ فِيهِ ويُخسَرُ.
والمعنى أنّ مَطلُوبَ التُّجّارِ سَلامَةُ رَأسِ المالِ والرِّبحُ وهؤلاءِ قَد أضَاعُوهُما ، فرَأسُ مَالِهم الهُدَى ولم يَبْقَ لَهم معَ الضَّلالَةِ ، وإذَا لم يَبْقَ لَهم إلا الضَّلالَةَ لم يُوصَفُوا بإصَابَةِ الرِّبْحِ وإنْ ظَفِرُوا بالأغرَاضِ الدُّنيَويّةِ لأنّ الضّالَّ خَاسِرٌ ، ولأنّهُ لا يُقَالُ لِمَن لم يَسْلَم لهُ رَأسُ مَالِه قَد رَبِحَ.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} لما جَاءَ بحَقِيقَةِ صِفَتِهِم عَقَّبَها بضَرْبِ
الْمَثَل زِيَادَةً في الكَشْفِ وتَتمِيمًا للبَيانِ ، ولِضَربِ الأمثَالِ في إبرازِ خَفِيّاتِ المعَاني ورَفْعِ الأستَارِ عن الحقَائقِ تَأثِيرٌ ظَاهِرٌ ، ولَقَد كَثُرَ ذلكَ في الكُتُبِ السّمَاويّةِ ومِن سُوَرِ الإنجيلِ (يعني الإنجيلَ الأصلِيَّ) سُورَةُ الأمثَالِ. والْمَثَلُ في أَصْلِ كَلامِهِم هوَ الْمِثْلُ وهوَ النّظِيرُ. وقَدِ استُعِيرَ الْمَثَلُ لِلحَالِ أو الصِّفَةِ أو القِصّةِ إذَا كانَ لَها شَأنٌ وفِيهَا غَرابَةٌ كأَنّهُ قِيلَ : حَالُهمُ العَجِيبَةُ الشَّأنِ كَحَالِ الذي اسْتَوقَدَ نَارًا، ومَعنى اسْتَوقَدَ أَوْقَدَ ، ووَقُودُ وَوُقُودُ النّارِ سُطُوعُها ، والنّارُ جَوهَرٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حَارٌّ مُحرِقٌ ، واشتِقَاقُها مِن نَارَ يَنُورُ إذَا نَفَرَ لأنّ فيها حَركةً واضْطِرَابًا. (قال العلماء: الْمَاءُ والنّارُ جِسمَانِ كَثِيفَانِ. النّارُ جِسمٌ كَثِيفٌ نِسبِيًّا، (أمّا ضَوءُ النّار فجِسمٌ لطِيفٌ).
{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} الإضَاءَةُ فَرْطُ الإنَارَةِ. ومَا حَولَ الْمُستَوقِدِ أمَاكِنُ وأشيَاء.
{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} والنُّورُ ضَوءُ النّارِ وضَوءُ كُلِّ نَيّرٍ ، ومَعنى أَذْهَبَهُ أَزَالَهُ وجَعَلَهُ ذَاهِبًا ، ومَعنى ذَهَبَ بهِ هنا أي أذهبه أي أزاله).
والمعنَى أخَذَ الله بنُورِهم وأَمْسَكَه ومَا يُمسِكُ فَلا مُرسِلَ لهُ فكَانَ أَبْلَغَ مِنَ الإذْهَابِ. ولم يَقُلْ ذَهَبَ اللهُ بضَوئِهِم لقَولِه فلَمّا أضَاءت لأنّ ذِكْرَ النُّورِ أبْلَغُ لأنّ الضّوءَ فيهِ دِلالَةٌ على الزّيادَةِ والمرادُ إزَالَةُ النُّورِ عَنهُم رَأسًا (أي بالمرّة) ، ولو قِيلَ ذَهَبَ اللهُ بضَوئِهم لأَوْهَمَ الذّهَابَ بالزّيَادَةِ وبَقَاءَ مَا يُسَمَّى نُورًا .
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} والظُّلْمَةُ عَرَضٌ يُنَافي النُّورَ. وتَرَكَ بمعنَى طَرَحَ وخَلَّى إذَا عُلِّقَ بوَاحِدٍ فَإذَا عُلِّقَ بشَيئَينِ كانَ مُضَمِّنًا مَعنى صَيَّرَ فيَجرِي مَجرَى أفعَالِ القُلُوبِ ومِنهُ وتَركَهُم في ظُلَمَاتٍ،
وإنّما شُبِّهَت حَالُهم بحَالِ الْمُستَوقِدِ لأنَّهم غِبَّ الإضَاءَة (أي بَعدَها) وَقَعُوا في ظُلْمَةٍ وحَيرَةٍ ، نَعم المنافِقُ خَابِطٌ في ظُلُمَاتِ الكُفرِ أبَدًا ولكنّ المرَادَ مَا استَضاؤوا بهِ قَلِيلًا مِنَ الانتِفَاع بالكَلِمَةِ الْمُجرَاةِ على أَلسِنَتِهم ، أو وَراءَ استِضَاءَتهم بنُورِ هَذه الكَلِمَةِ ظُلمَةُ النّفَاقِ الْمُفضِيَةِ بهم إلى ظُلمَةِ العِقَابِ السَّرمَديّ.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أيْ هُم صُمٌّ ، كَانَت حَواسُّهُم سَلِيمَةً ولَكن لَمّا سَدُّوا عن الإصَاخَةِ (أي الاستِمَاع) إلى الحَقّ مَسَامِعَهُم ، وأَبَوا أنْ يُنطِقُوا بهِ أَلسِنَتَهُم وأنْ يَنظُرُوا أو يتَبَصَّرُوا بِعُيُونِهم جُعِلوا كأنّما إيْفَتْ مَشَاعِرُهُم (أي أصَابَت مَشَاعِرَهُمُ الآفَةُ أي فسَدَت). ومَا في الآيةِ تَشبِيهٌ بَلِيغٌ
{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} لا يَعُودُونَ إلى الهدَى بَعدَ أنْ بَاعُوهُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=446