تفسير سورة البقرة آية 19
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} ثَنّى اللهُ سُبحَانَهُ وتَعَالى في شَأنِهم بتَمثِيلٍ آخَرَ لزِيَادَةِ الكَشْفِ والإيضَاح.
وشَبَّهَ الْمُنَافِقَ في التّمثِيلِ الأوَّلِ بالْمُستَوقِدِ نَارًا وإظْهَارِه الإيمانَ بالإضَاءَةِ وانقِطَاعِ انتِفَاعِه بانطفَاءِ النّار ، وهنَا شَبَّهَ دِينَ الإسلام بالصَّيّبِ لأنّ القُلُوبَ تَحيَا بهِ حَياةَ الأرضِ بالمطَر ، ومَا يتَعَلَّقُ بهِ مِن شَبَهِ الكُفّارِ بالظُّلُمَاتِ ، ومَا فِيهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ بالرَّعْدِ والبَرْق ، ومَا يُصِيبُهُم منَ الأفزاع والبَلايا مِن جِهَةِ أهلِ الإسلامِ بالصَّوَاعِقِ.
والمعنَى أو كمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ فحُذِفَ " مَثَلُ " لدِلالَةِ العَطفِ عليه " وذَوِي " لدِلالَةِ يَجعَلُونَ علَيهِ.
والمرادُ كمَثَلِ قَومٍ أخَذَتْهُم السّمَاءُ بهذِه الصّفَةِ فَلَقُوا مِنها مَا لَقُوا ، فهَذا تَشبِيهُ أشيَاءَ بأشيَاء إلا أنّه لم يُصَرّح بذِكْر المشَبّهَات. والصَّحِيحُ أنّ التّمثِيلَينِ مِن جُملَة التّمثِيلاتِ المركَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ لا يُتَكَلَّفُ لِوَاحِدٍ واحِدُ شَيءٍ يُقَدَّر شَبَهُه به. ولما وصَفَ وقُوعَ المنافقِينَ في ضَلالَتِهم ومَا خَبَطُوا فيهِ مِنَ الحَيرَةِ والدَّهْشَةِ شُبِّهَتْ حَيرَتُهم وشِدّةُ الأمر علَيهِم بما يُكَابِدُ مَن طُفِئَت نَارُه بَعدَ إيقَادِها في ظُلمَةِ اللَّيلِ ، وكذلكَ مَن أخَذَتْهُ السّماءُ في اللَّيلَةِ الْمُظلِمَةِ معَ رَعْدٍ وبَرْقٍ وخَوفٍ مِنَ الصَّواعِقِ ، والتَّمثِيلُ الثّاني أَبْلَغُ لأَنّهُ أدَلُّ على فَرْطِ الحَيْرَةِ وشِدَّةِ الأَمرِ ولِذَا أُخِّرَ ، وهُم يتَدَرَّجُونَ في مِثْلِ هَذا مِنَ الأَهوَنِ إلى الأغلَظ.
مَعنَاهُ أنّ كَيفِيّةَ قِصّةِ المنَافقِينَ مُشْبِهَةٌ لِكَيفِيَّتي هاتَينِ القِصّتَينِ وأنّ الكَيفِيّتَينِ سَواءٌ في استِقلالِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما بوَجْهِ التّمثِيلِ ، فبِأَيّتِهما مَثّلتَها فأَنتَ مُصِيبٌ ، وإنْ مَثّلتَها بهِما جمِيعًا فكَذلِكَ.
والصَّيِّبُ : المطَرُ الذي يَصُوبُ أي يَنزِلُ ويَقَعُ يُقَالُ للسّحَابِ صَيّبٌ أيضًا.
وتَنكِيرُ " صَيّب " لأنّهُ نَوعٌ مِنَ المطَرِ شَدِيدٌ هَائِلٌ كَما نُكِّرَتِ النّارُ في التّمثِيلِ الأوّل ، والسّماءُ هَذه الْمُظِلَّةُ.
والفَائِدَةُ في ذِكْرِ السّماءِ والصَّيِّبُ لا يَكُونُ إلا مِنَ السَّمَاءِ أنّهُ جَاءَ بالسَّمَاءِ مُعَرّفَةً فأَفَادَ أنّهُ غَمَامٌ ءاخِذٌ بآفَاقِ السّماءِ ونَفَى أنْ يَكُونَ مِن سَماءٍ أيْ مِن أُفُقٍ واحِدٍ مِن بَينِ سَائِرِ الآفَاقِ ، لأنّ كُلَّ أُفُقٍ مِن آفَاقِها سمَاءٌ ، ففِي التّعرِيفِ مُبَالغَةٌ كمَا في تَنكِيرِ صَيِّبٍ وتَركِيبِه وبِنائِه ، وفيهِ دَليلٌ على أنّ السّحَابَ مِنَ السّماءِ يَنحَدِرُ ومِنها يَأخُذُ مَاءَه. والرّعدُ : الصّوتُ الذي يُسمَعُ مِنَ السّحَابِ لاصطِكَاكِ أَجْرَامِه ، ويطلَقُ على الْمَلَكِ الذي يَسُوقُ السّحَابَ كما في الحديث الذي رواه الترمذي "الرَّعدُ مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ بِيَدِه مِخْرَاقٌ يَضرِبُ بهِ السّحَابَ". المِخْراقُ هوَ ليسَ كمِخراقِ الدُّنيا الذي يَستَعمِلُه البشَرُ، بل هُوَ شَىءٌ ءاخَرُ لهُ شَبَهٌ، لذَلكَ الرّسولُ قالَ بِيَدِه مِخْرَاقٌ، المِخْرَاقُ هوَ هَذا الرِّداءُ يُلّفُّ ويُضرَبُ بهِ مِثلُ السَّوط، يُلَفُّ فيَصِيرُ مِثلُ السَّوط، بيَدِه أي بيَدِ هَذا المَلَك المسَمَّى الرّعد مخراقٌ يَضرِبُ به السّحَاب فيَنقُل السّحَابَ مِن أَرضٍ إلى أَرض، هو يَضربُ بهذا المِخراقِ السّحَابَ مِن أَرضٍ إلى أَرض،
والبَرقُ الذي يَلمَعُ مِنَ السَّحَابِ مِن بَرَقَ الشّيءُ بَرِيقًا إذَا لَمَع ، والضَّمِيرُ في فِيهِ يَعُودُ إلى الصَّيّبِ فقَد جَعَلَ الصَّيّبَ مَكَانًا لِلظُّلُمَاتِ ، فَإنْ أُرِيدَ بهِ السّحَابَ فظُلُمَاتُه إذا كانَ أَسْحَمَ مُطبِقًا ظُلمَتَا سُحْمَتِه وتَطبِيقِه مَضمُومَةٌ إليهِما ظُلمَةُ اللّيلِ. (يقال سَحُمَ بالضمّ إذا اسوَدّ)
وأمّا ظُلُمَاتُ الْمَطَرِ فَظُلمَةُ تَكَاثُفِه بتَتَابُعِ القَطْرِ وظُلمَةُ أَظْلالِ غَمَامِه معَ ظُلمَةِ اللَّيل.
وجَعْلُ الصَّيّبِ مَكَانًا لِلرَّعْدِ والبَرْقِ على إرَادَةِ السّحَابِ بهِ ظَاهِرٌ، وكَذا إنْ أُرِيدَ بهِ المطَرُ لأنّهما مُلتَبِسَانِ بهِ في الجُملَةِ. ونُكِّرَتْ هَذه الأشياءُ لأنّ المرادَ أنواعٌ مِنها كأنّهُ قِيلَ فيهِ ظُلُمَاتٌ دَاجِيَةٌ ورَعدٌ قَاصِفٌ وبَرقٌ خَاطِفٌ.
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} ولما ذَكَرَ الرَّعدَ والبَرق على ما يؤذِنُ بالشّدّةِ والهولِ فكَأنّ قَائلًا قَال : فكَيف حَالُهم معَ مِثلِ ذلكَ الرّعدِ ؟ فقِيلَ : يَجعَلُونَ أصَابِعَهُم في آذانِهم.
ثم قالَ : فكَيفَ حَالُهم معَ مِثلِ ذلكَ البَرق ؟ فقالَ : يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أبصَارَهُم.
وإنّما ذَكَرَ الأصَابعَ ولم يَذكُرِ الأناملَ ورؤوسُ الأصَابعِ هيَ التي تُجعَلُ في الآذانِ اتّسَاعًا ، ولأنّ في ذِكْرِ الأصَابع مِنَ المبَالغَةِ مَا ليسَ في ذِكْرِ الأنامِل.
{مِنَ الصَّوَاعِقِ} أيْ مِن أَجْل الصّواعِقِ يَجعَلُونَ أصَابِعَهُم في آذانِهم.
والصّاعِقَةُ قَصْفَةُ رَعدٍ تَنقَضُّ مَعَها شِقَّةٌ مِن نَار.
قَالوا : تَنقَدِحُ منَ السّحَابِ إذَا اصطَكَّتْ أجرَامُه ، وهيَ نَارٌ لَطِيفَةٌ حَدِيدَةٌ لا تَمرُّ بشَيءٍ إلا أتَتْ علَيهِ إلا أنّها معَ حِدَّتها سَرِيعَةُ الخُمُود.
يُحكَى أنّها سَقَطَت على نَخلَةٍ فأَحرقَتْ نَحوَ نِصفِها ثم طَفِئَت.
{حَذَرَ الْمَوْتِ} والموتُ فَسَادُ بُنيَةِ الحيَوانِ أو عرَضٌ لا يَصِحُّ مَعه إحسَاسٌ مُعاقِبٌ للحَيَاة
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)} يعني أنّهم لا يَفُوتُونَه كمَا لا يَفُوتُ الْمُحَاطُ بهِ المحِيطَ بهِ
https://www.islam.ms/ar/?p=447