تفسير سورة البقرة من آية 20 إلى 21
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} الخَطْفُ الأَخْذُ بسُرعَةٍ
{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} أي كُلَّ وَقتٍ أضَاءَ لَهم فيهِ
{مَشَوْا فِيهِ} أيْ في ضَوئِه ،كأَنّهُ جَوابٌ لِمَن يَقُولُ : كَيفَ يَصنَعُونَ في تَارَتَي خُفُوقِ البَرقِ وخُفيَتِه ؟ وهَذا تَمثِيلٌ لشِدَّةِ الأمر على المنَافقِينَ بشِدَّتِه على أصحَابِ الصَّيّبِ ومَا هُم فيهِ مِن غَايَةِ التّحَيُّرِ والجَهلِ بما يَأتُونَ ومَا يَذَرُونَ إذَا صَادَفُوا مِنَ البَرْق خَفْقَةً معَ خَوفِ أنْ يَخطَفَ أبصَارَهُم انتهَزُوا تِلكَ الخَفْقَةَ فُرصَةً فخَطَوا خَطَواتٍ يَسِيرَةً ، فإذَا خَفِيَ وفَتَر لَمَعانُه بَقُوا واقِفِينَ.
كُلَّمَا نَوَّرَ لَهم مَمشًى ومَسلَكًا أخَذُوه (أي يمشُونَ فِيهِ) أو كُلَّمَا لَمَع لَهم مَشَوا في مَطْرَحِ نُورِه.
والْمَشْيُ جِنسُ الحَركَةِ الْمَخصُوصَةِ فَإذَا اشْتَدَّ فهوَ سَعيٌ فَإذَا ازْدَادَ فَهوَ عَدْوٌ.
(وقالَ ابنُ الجوزي في تفسيره: واختَلفوا في معنى كُلّما أضَاء لهم مَشَوا فيه على أربعةِ أقوال أحَدُها أنّ مَعناه كُلّما أتَاهُمُ القُرءانُ بما يُحِبُّونَ تَابَعُوهُ قَالَهُ ابنُ عَبّاس والسُّدُّيّ.)
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} لأنّهم حِرَاصٌ على وُجُودِ مَا هَمُّهُم بهِ مَعقُودٌ مِن إمكَانِ المشْيِ ، فكُلَّمَا صَادَفُوا مِنهُ فُرصَةً انتَهزُوهَا.
قَامُوا أي وَقَفُوا وثَبَتُوا في مَكَانِهم ، ومِنهُ قَامَ الماءُ إذا جَمَدَ.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} بقَصِيفِ الرَّعْدِ
{وَأَبْصَارِهِمْ} بوَمِيضِ البَرْق، أي ولو شَاءَ اللهُ أنْ يَذهَبَ بسَمْعِهِم وأَبصَارِهم لذَهَبَ بهما
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ (20)} أي إنّ اللهَ قَادِرٌ على كُلّ شَىءٍ.
لَمّا عَدّدَ اللهُ فِرَقَ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ المؤمنِينَ والكُفّار والمنافقِينَ وذَكَر صِفَاتهم وأحوَالَهم ومَا اختَصَّتْ بهِ كلُّ فِرقَةٍ مما يُسعِدُهَا ويُشقِيْها ويُحظِيهَا عندَ الله ويُردِيها أَقْبَل علَيهِم بالخِطَاب وهوَ منَ الالتِفَاتِ المذكور فقَال : { يا أَيُّهَا النَّاسُ } قالَ عَلقَمَةُ : مَا في القرآن " يا أيّها النّاسُ " فهوَ خِطَابٌ لأهلِ مَكّةَ (أيْ لِمُشْرِكِيهِم) ، ومَا فيهِ يَا أيّها الذينَ آمَنوا فهوَ خِطَابٌ لأهلِ المدِينَةِ ، و " يا " حَرفٌ وُضِعَ لِنِدَاءِ البَعِيدِ ، وأيْ والهمزَةُ للقَرِيب ، ثم استُعمِلَ في مُنَادَاةِ مَن غَفا وسَهَا وإنْ قَرُبَ ودَنا تَنزيلًا لهُ مَنزِلَةَ مَن بَعُدَ ونَأَى ، فإذَا نُودِيَ بهِ القَرِيبُ المقَاطِنُ فذَاكَ للتّوكِيدِ المؤذِنِ بأنّ الخِطَابَ الذي يَتْلُوهُ مُعتَنًى بهِ جِدًّا.
وكَثُرَ النّدَاءُ في القُرآنِ على هَذه الطّرِيقَةِ لأنّ مَا نَادَى اللهُ بهِ عِبَادَه مِن أَوامِره ونَواهِيْه ووَعْدِه ووَعِيدِه أُمُورٌ عِظَامٌ وخُطُوبٌ جِسَامٌ ، يجِبُ علَيهِم أن يتَيقَّظُوا لَها ويَميلُوا بقُلُوبِهم إلَيها وهُم عَنهَا غَافِلُونَ ، فَاقْتَضَتِ الحَالُ أنْ يُنَادَوا بالآكَدِ الأَبْلَغ.
(وقال ابن الجوزي في تفسيره: اختلَف العلماء فيمن عُنِيَ بهَذا الخِطَابِ على أربعَةِ أَقْوَالٍ أحَدُهَا أنّهُ عَامٌّ في جَمِيعِ النّاسِ وهوَ قَولُ ابنِ عَبّاسٍ. والنّاسُ اسمٌ للحَيَوانِ الآدَمِيّ وسُمُّوا بذَلكَ لِتَحرُّكِهِم في مُرَادَاتِهم والنَّوْسُ الحَركَةُ، وقِيلَ سُمُّوا أُنَاسًا لِمَا يَعتَرِيهِم مِنَ النّسْيَانِ)
{ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } وَحِّدُوهُ.
قالَ ابنُ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما : كُلُّ عِبَادَةٍ في القُرآنِ فَهِيَ تَوحِيدٌ
{ الَّذِى خَلَقَكُمْ } صِفَةٌ مُوضِحَةٌ مُمَيّزَةٌ لأنّهم كانُوا يُسَمُّونَ مَعبُودَاتِهم أَربَابًا.
والخَلقُ إيجَادُ المعدُومِ على تَقدِيرٍ واسْتِوَاءٍ ، وهوَ اسمٌ للمَوجُودِ. والشّىءُ عِندَ أهلِ السُّنّةِ الموجُودُ ولذَلكَ جَازَ إطْلَاقُه على اللهِ وفي القُرءانِ أُطلِقَ الشّىءُ على اللهِ بمعنى الموجُود.
{ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } احتَجَّ علَيهِم بأَنّهُ خَالِقُهُم وخَالِقُ مَن قَبْلَهُم لأنّهم كانُوا مُقِرِّينَ بذَلكَ فقِيلَ لهم : إنْ كُنتُم مُقِرِّينَ بأَنّهُ خَالِقُكُم فاعْبُدُوهُ ولا تَعبُدُوا الأصنَام.
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} أي اعبُدُوا على رَجَاءِ أنْ تَتَّقُوا فَتَنجُوا بسَبَبِه مِنَ العَذابِ.
و" لَعَلّ " للتّرَجّي والإطماَع ولكنّه إطْمَاعٌ مِن كَرِيمٍ فيَجرِي مَجرَى وَعْدِه المحتُومِ وفَاؤه ، وبه قالَ سِيبَوَيْهِ. وقالَ قُطرُب : هو بمعنى " كَي " أيْ لِكَيْ تَتَّقُوا.
https://www.islam.ms/ar/?p=448