تفسير سورة البقرة من آية 61 إلى 62
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} هوَ مَا رُزِقُوا في التِّيْهِ مِنَ الْمَنِّ والسَّلْوَى.
وإنّما قَالُوا على طَعَامٍ واحِدٍ وهُما طَعَامَانِ لأَنَّهم أرَادُوا بالوَاحِدِ مَا لا يَتَبَدَّلُ ، ولَو كانَ على مَائِدَةِ الرَّجُلِ أَلوَانٌ عِدَّةٌ يُدَاوِمُ علَيهَا كُلَّ يَومٍ لا يُبَدّلُها يُقَالُ لا يَأكُلُ فُلانٌ إلا طَعامًا واحِدًا ويُرَادُ بالوَحْدَةِ نَفيُ التّبَدُّلِ والاخْتِلافِ. أو أرَادُوا أنّهما ضَربٌ واحِدٌ لأنّهما مَعًا مِن طَعَامِ أَهلِ التَّلَذُّذِ والتَّرَفِ وكَانُوا مِن أَهلِ الزِّرَاعَاتِ فأَرَادُوا مَا أَلِفُوا مِنَ البُقُولِ والحُبُوبِ وغَيرِ ذَلكَ
{فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ} سَلْهُ وقُلْ لَهُ أَخْرِجْ لَنَا
{يُخْرِجْ لَنَا} يُظهِرْ لَنَا ويُوجِدْ
{مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} هوَ مَا أَنْبَتَتْهُ الأَرضُ مِنَ الخُضَرِ والْمُرَادُ بهِ أطَايِبُ البُقُولِ كالنَّعْنَاعِ والكَرَفْسِ والكَرّاثِ ونَحوِها مِما يَأكُلُ النّاسُ.
{وَقِثَّآئِهَا} يَعنِي الخِيَارَ {وَفُومِهَا} هوَ الحِنطَةُ أو الثُّومُ لقِرَاءَةِ ابنِ مَسعُودٍ وثُومِهَا
{وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أَقرَبُ مَنزِلَةً وأَدْوَنُ مِقدَارًا والدُّنُوُّ والقُربُ يُعَبَّرُ بِهما عن قِلّةِ الْمِقدَارِ
{بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أَرفَعُ وأَجَلُّ.
{اهْبِطُوا مِصْرًا} مِنَ الأَمصَارِ أي انحَدِرُوا إليهِ مِنَ التِّيْهِ.
وبِلادُ التِّيْهِ مَا بَينَ بَيتِ الْمَقدِسِ إلى قِنَّسْرِينَ (وهيَ مِن أراضِي سُوريّا اليَوم) وهيَ اثْنَا عَشَرَ فَرسَخًا في ثَمانيَةِ فَراسِخَ ، أو مِصرِ فِرعَونَ.
وإنّما صَرّفَه مِع وجُودِ السَّبَبَينِ وهما التّأنِيثُ والتّعرِيفُ لإرادةِ البَلَدِ ، أو لِسُكُونِ وسَطِه كنُوحٍ ولُوطٍ وفِيهِمَا العُجمَةُ والتَّعرِيفُ
{فَإِنَّ لَكُمْ} فِيهَا
{مَا سَأَلْتُمْ} أي فإنّ الذي سأَلتُم يَكُونُ في الأمصَارِ لا في التِّيْهِ.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي الهوانُ والفَقرُ يَعني جُعِلَتِ الذّلّةُ مُحِيطَةً بِهم مُشتَمِلَةً علَيهِم فَهُم فِيهَا كَمَا يَكُونُ في القُبّةِ مَن ضُرِبَتْ علَيهِ ، أو أُلصِقَتْ بِهم حتى لَزِمَتهُم ضَرْبَةَ لَازِبٍ كَمَا يُضرَبُ الطِّينُ على الحَائطِ فيَلزَمُه.
فَاليَهُودُ صَاغِرُونَ أَذِلّاءُ أَهلُ مَسْكَنَةٍ وفَقْرٍ إمّا على الحَقِيقَةِ وإمّا لِتَصَاغُرِهِم وتَفَاقُرِهم خِيْفَةَ أنْ تُضَاعَفَ عَلَيهِمُ الجِزْيَةُ.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} مِن قَولِكَ "باءَ فُلانٌ بفُلانٍ" إذَا كانَ حَقِيقًا بأنْ يُقتَلَ بهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ. أيْ صَارُوا أَحِقّاءَ بِغَضَبِه.
{ذَلِكَ} إشَارَةٌ إلى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَرْبِ الذِّلّةِ والْمَسْكَنَةِ والخَلَاقَةِ بالغَضَب.
{بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} أيْ ذلكَ بسَبَبِ كُفرِهِم وقَتلِهِمُ الأنبِيَاءَ وقَدْ قَتَلَتِ اليَهُودُ شَعْيَاءَ وزَكَرِيّا ويَحْيى صلَواتُ اللهِ عَلَيهِم.
والنّبيُّ مِنَ النّبَإ لأنّهُ يُخبِرُ عن اللهِ تَعالى "فَعِيلٌ" بمعنى "مُفعِل" أو بمعنى "مُفعَل". (النَّبَأُ هوَ الخَبرُ سُمِّيَ النَّبيُّ نَبِيًّا لأنّهُ يُخبِرُ عن اللهِ هَذا على تَقدِيرِ أنّ وَزْنَهُ فَعِيلٌ.) أو مِنْ نَبَا أيِ ارْتَفَعَ، والنَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرتَفِعُ.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} عِندَهُم أيضًا فَإنَّهم لو أَنْصَفُوا لم يَذكُرُوا شَيئًا يَستَحِقُّونَ بهِ القَتْلَ عِندَهُم في التَّورَاةِ.
وهوَ في محَلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ في يَقتُلُونَ أي يَقتُلُونَهم مُبطِلِينَ
{ذَلِكَ} تَكرَارٌ للإشَارَةِ.
{بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} بسَبَبِ ارْتِكَابِهم أنواعَ الْمَعاصِي واعْتِدَائِهِم حُدُودَ اللهِ في كُلِّ شَيءٍ مَعَ كُفرِهِم بآياتِ اللهِ وقَتلِهِمُ الأنبيَاءَ.
وقِيلَ : هوَ اعتِدَاؤهُم في السَّبْتِ.
ويجُوز أن يُشَارَ بذَلكَ إلى الكُفرِ وقَتْلِ الأنبيَاءِ على مَعنى أنّ ذَلكَ بسَبَبِ عِصْيَانِهم واعْتِدَائِهِم لأنَّهم انهَمَكُوا فِيهِمَا وغَلَوا حَتى قَسَتْ قُلُوبُهم فجَسَرُوا على جُحُودِ الآياتِ وقَتلِهِمُ الأنبِيَاءَ ، أو ذلكَ الكُفرُ والقَتلُ معَ مَا عَصَوا.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا} بأَلسِنَتِهِم مِن غَيرِ مُواطَأةِ القُلُوبِ وهُمُ الْمُنَافِقُونَ.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} تَهَوَّدُوا يُقَالُ هَادَ يَهُودُ وتَهَوَّدَ إذَا دَخَلَ في اليَهُودِيّةِ وهوَ هَائِدٌ والجَمْعُ هُودٌ. (قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْيَهُودُ مُشْتَقٌّ وَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ قَوْمِ مُوسَى {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أَيْ رَجَعْنَا إِلَيْكَ يَا اللَّهُ. وَهَذَا لا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أَمَّا هَؤُلاءِ أَخَذُوا الِاسْمَ وَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَذَلِكَ مُنْذُ كَفَرُوا بِعِيسَى وَأَمَّا ابْتِدَاءُ تَحْرِيفِهِمْ لِلتَّوْرَاةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَجِيءِ عِيسَى لَكِنْ زَادُوا فِي التَّحْرِيفِ بَعْدَ مَجِيءِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. وقال بعضٌ إنما سُمّوا يهودًا لتهَوُّدِهم عندَ قراءةِ التّورَاةِ أي تَمايُلِهِم.) (الذينَ اتّبَعُوا مُوسَى على الإيمانِ يُقَالُ لهم اليَهودُ لأنّ مُوسَى عَبَّر عن نَفسِه وعَنهُم بقَولِه: {إنّا هُدْنَا إلَيكَ} أي رَجَعْنا إلى طَاعَتِكَ، هوَ كانَ طَائعًا لكنْ يُعبِّر عن قَومِه.)
{وَالنَّصَـارَى} جَمعُ نَصْرانٍ كنَدْمَانٍ ونَدَامَى يُقَال رَجلٌ نَصرَانٌ وامرَأةٌ نَصرَانَةٌ.
واليَاءُ في نَصرَانيٍّ لِلمُبَالَغَةِ كالتي في " أَحْمَرِيّ " (الشَّىءُ الذي هوَ شَدِيدُ الحُمرَةِ يُقَالُ لهُ أَحمَرُ وأَحمَرِيٌّ) سُمُّوا نَصَارى لأنَّهم نَصَرُوا المسِيحَ. (قال بعضهم لأن الذين اتبعوه هم الذين استجابُوا له عندما قال عيسى: {مَن أنْصَارِي إلى الله} وقالَ بَعضُهُم لأنّهم مِن أَهلِ النّاصِرَة أي بَلدَةٍ بفِلَسطِين، هؤلاءِ أجَابُوا دَعْوَتَه).
{وَالصَّـابِئِينَ} الخَارِجِينَ مِن دِينٍ مَشهُورٍ إلى غَيرِه مِنْ صَبَأَ إذَا خَرَجَ مِنَ الدّينِ ، وهُم قَومٌ عَدَلُوا عن دِينِ اليَهُودِيّةِ والنّصرَانِيّةِ وعَبَدُوا الملائكةَ.
وقِيلَ : هُم يَقرَؤونَ الزَّبُورَ. (وقالَ بَعضُهُم الصَّابِئَةُ طَائِفَةٌ تَعبُدُ الكَواكِبَ)
{مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} مِن هَؤلاءِ الكَفَرةِ إيْمانًا خَالصًا
{وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثَوابُهم
{عِندَ رَبِّهِمْ} في الآخِرَة
{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} ومَحَلُّ مَن آمَنَ الرَّفعُ إنْ جَعَلتَه مُبتَدأً خَبرُه فَلَهُم أَجْرُهُم ، والنَّصْبُ إنْ جَعَلتَهُ بَدَلًا مِن اسمِ إنّ والْمَعطُوفِ علَيهِ. (هَذِه الآيَةُ دَلِيلٌ على أنّ قَومَ مُوسَى وعِيسَى قَبلَ أنْ يَكفُرُوا كانَ فِيهِم أَولِيَاءَ)
https://www.islam.ms/ar/?p=459