تفسير سورة البقرة من آية 56 إلى 60
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
يقول المؤلف في قوله تعالى
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} أحْيَيْنَاكُم، وأَصْلُه الإثَارَةُ
{مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} نِعمَةَ البَعْثِ بَعدَ الموتِ.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} جَعَلْنَا الغَمَامَ يُظِلُّكُم وذَلكَ في التِّيْهِ، سَخَّرَ اللهُ لَهمُ السَّحَابَ يَسِيرُ بِسَيرِهِم يُظِلُّهُم مِنَ الشَّمسِ ويَنزِلُ باللَّيلِ عَمُودٌ مِن نَارٍ يَسِيرُونَ في ضَوئِه، وثِيَابُهم لا تَتَّسِخُ ولا تَبْلَى
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} التَّرَنْجَبِينَ وكانَ يَنزِلُ علَيهِم مِثلَ الثَّلْجِ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمْسِ لِكُلِّ إنْسَانٍ صَاعٌ.
{وَالسَّلْوَى} كانَ يَبعَثُ اللهُ علَيهِم الجَنُوبَ (أيْ رِيحَ الجَنُوبِ) فتَحشُرُ علَيهِمُ السَّلْوَى وهيَ السُّمَانَى (أي الفِرّي) فيَذبَحُ الرَّجُلُ مِنهَا مَا يَكفِيْه. وقُلنَا لهم
{كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ} لَذِيذَاتِ أو حَلَالَاتِ
{مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا} يَعني فَظَلَمُوا بِأَنْ كَفَرُوا هَذِه النِّعَمَ {ومَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة : 57] أَنفُسَهُم مَفعُولُ يَظلِمُونَ.
{وَإِذْ قُلْنَا} لهم بَعدَمَا خَرَجُوا مِنَ التِّيْهِ.
{ادْخُلُوا هَـذِهِ الْقَرْيَةَ} أي بَيتَ المقدِسِ أو أَرِيحَاءَ.
والقَريَةُ المجتَمَعُ مِنْ قَرَيْتُ لأَنّها تَجمَعُ الخَلْقَ، أُمِرُوا بِدُخُولِها بَعدَ التِّيْهِ.
{فَكُلُوا مِنْهَا} مِن طَعَامِ القَرْيَةِ وثِمَارِهَا.
{حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} واسِعًا.
{وَادْخُلُوا الْبَابَ} بابَ القَريَةِ أو بَابَ القُبّةِ التي كَانُوا يُصَلُّونَ إلَيهَا ، وهُم لم يَدخُلُوا بَيتَ المقدِسِ في حَيَاةِ مُوسَى علَيهِ السّلامُ وإنّما دَخَلُوا البَابَ في حَيَاتِه ودَخَلُوا بَيتَ المقدِس بَعدَه.
{سُجَّدًا} حالٌ وهوَ جَمع سَاجِدٍ ، أُمِرُوا بالسُّجُودِ عندَ الانتِهَاءِ إلى البَابِ شُكرًا للهِ تَعالى وتَواضُعًا لَهُ.
{وَقُولُوا حِطَّةٌ} فِعلَةٌ مِنَ الحَطِّ كالجِلسَةِ أيْ مَسأَلَتُنَا حِطَّةٌ أو أَمْرُكَ حِطَّةٌ ، والأصلُ النَّصْبُ وقَد قُرىء به بمعنى حُطَّ عَنّا ذُنُوبَنَا حِطَّةٌ ، وإنّما رُفِعَتْ لِتُعطِيَ مَعنى الثّبَاتِ.
وقِيلَ : أَمرُنَا حِطَّةٌ أي أنْ نَحُطَّ في هَذِه القَريَةِ ونَستَقِرَّ فِيهَا.
وعَن عَلِيّ رضيَ اللهُ عَنه : هوَ بِسم اللهِ الرّحمنِ الرّحِيم.
وعَن عِكرِمَةَ : هوَ لا إلهَ إلا اللهُ.
{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} جَمعُ خَطِيئَةٍ وهيَ الذَّنْبُ.
{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)} أيْ مَن كَانَ مُحسِنًا مِنكُم.
كانَت تِلكَ الكَلِمَةُ سَبَبًا في زِيَادَةِ ثَوابِه ومَن كانَ مُسِيئًا كَانَت لهُ تَوبَةً ومَغفِرَةً.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فِيهِ حَذفٌ وتَقدِيرُه فبَدَّلَ الذينَ ظَلَمُوا بالذي قِيلَ لهم قَولًا غَيرَ الذي قِيلَ لهم ، يَعني وَضَعُوا مَكَانَ حِطَّةٍ قَولًا غَيرَها أي أُمِرُوا بقَولٍ مَعنَاهُ التّوبَةُ والاستِغفَارُ فخَالَفُوه إلى قَولٍ لَيسَ مَعنَاهُ مَعنَى مَا أُمِرُوا بهِ ولم يَمتَثِلُوا أَمْرَ الله.
وقِيلَ : قَالُوا مَكَانَ حِطَّةٍ حِنطَةً.
وقِيلَ : قَالُوا بالنَّبَطِيّةِ حِنْطًا سُمقَاثًا (وفي نُسخَةٍ سُمقاتًا) أي حِنطَةً حَمرَاءَ استِهزَاءً مِنهُم بما قِيلَ لَهم وعُدُولًا عن طَلَبِ مَا عِندَ اللهِ إلى طَلَبِ مَا يَشتَهُونَ مِن أَعرَاضِ الدُّنيَا. (قال في تاج العروس: فَبَدَّلوا قَوْلاً غَيْر ذلك وقالوا : هِطَّا سُمْهَأَثًا ، أَي حِنْطَةٌ حَمْراءُ)
{فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} عَذَابًا. وفي تَكرِيرِ الذينَ ظَلَمُوا زِيَادَةٌ في تَقبِيحِ أَمْرِهِم وإيْذَانٌ بإنْزَالِ الرِّجْزِ علَيهِم لِظُلمِهِم.
{مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} بِسَبَبِ فِسقِهِم.
رُوِيَ أنّهُ ماتَ مِنهُم في سَاعَةٍ بالطّاعُونِ أربَعَةٌ وعِشرُونَ أَلفًا وقِيلَ سَبعُونَ أَلفًا.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} مَوضِعُ إذْ نَصبٌ كَأنّهُ قِيلَ : واذْكُرُوا إذِ اسْتَسقَى أي اسْتَدعَى أن يُسقَى قَومُه.
{فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} عَطِشُوا في التِّيْهِ فَدَعَا لهم مُوسَى بالسُّقْيَا فقِيلَ لهُ اضْرِبْ بعَصَاكَ الحَجَرَ.
واللّامُ لِلعَهْدِ والإشَارَةِ إلى حَجَرٍ مَعلُومٍ ، فَقَد رُوِيَ أنّهُ حَجَرٌ طُورِيٌّ حَمَلَهُ مَعَهُ وكانَ مُرَبَّعًا لهُ أَربَعَةُ أَوجُهٍ كانَت تَنبُع مِن كُلّ وَجْهٍ ثَلاثُ أَعيُنٍ لِكُلِّ سِبطٍ عَينٌ وكانُوا سِتَّمِائةِ ألفٍ وسَعَةُ الْمُعَسكَرِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا ، أو لِلجِنْسِ أي اضْرِبِ الشّىءَ الذي يُقَالُ لهُ الحَجَرُ ، وهَذا أَظْهَرُ في الحُجّةِ وأَبْيَنُ في القُدرَةِ.
{فَانْفَجَرَتْ} الفَاءُ مُتَعلّقَةٌ بمَحذُوفٍ أي فَضَرَب فَانْفَجَرَت أي سَالَتْ بكَثْرَةٍ ، أو فإنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَت وهيَ على هَذا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لا تَقَعُ إلا في كَلامٍ بَلِيغٍ.
{مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} عَلى عَدَدِ الأسبَاطِ، وقُرِئ بكَسرِ الشّينِ وفَتحِها وهما لُغتَانِ ، وعَينًا تَميِيزٌ.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كُلُّ سِبطٍ
{مَشْرَبَهُمْ} عَيْنَهُمُ التي يَشرَبُونَ مِنهَا.
وقُلنَا لهم {كُلُوا} مِنَ الْمَنِّ والسَّلْوَى.
{وَاشْرَبُوا} مِن مَاءِ العُيُونِ.
{مِن رِّزْقِ اللَّهِ} أي الكُلُّ مِما رَزقَكُمُ اللهُ.
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ} لا تُفسِدُوا فِيهَا. والعَيثُ أشَدُّ الفَسَادِ
{مُفْسِدِينَ (60)} حالٌ مؤكّدَةٌ أي لا تَتمَادَوا في الفَسَادِ في حَالِ فَسَادِكُم لأنّهم كانُوا مُتَمادِينَ فيهِ.
https://www.islam.ms/ar/?p=458