تفسير سورة البقرة من آية 53 إلى 55
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} يَعني الجَامِعَ بَينَ كَونِه كِتَابًا مُنَزّلًا وفُرقَانًا يَفْرُقُ بَينَ الحَقّ والبَاطِلِ وهوَ التّورَاةُ، ونَظِيرُه " رأَيتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ " تُرِيدُ الرّجُلَ الجَامِعَ بَينَ الجُودِ والجُرأَةِ.
أو التَّورَاةَ والبُرهَانَ الفَارِقَ بَينَ الكُفرِ والإيمانِ مِنَ العَصَا واليَدِ وغَيرِهما مِنَ الآيَاتِ ، أو الشَّرْعَ الفَارِقَ بَينَ الحَلالِ والحَرام.
وقِيلَ : الفُرقَانُ انفِلاقُ البَحْرِ أو النَّصْرُ الذي فَرَقَ بَينَه وبَينَ عَدُوّه
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} لِكَي تَهتَدُوا.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} لَلّذِينَ عَبَدُوا العِجْلَ.
{يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} مَعبُودًا
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} هوَ الذي خَلَقَ الخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التّفَاوُتِ. (مَعنى التّفَاوُتِ الخُلُوُّ عن الحِكمَةِ).
وفِيهِ تَقرِيعٌ لِمَا كانَ مِنهُم مِن تَرْكِ عِبَادَةِ العَالِم الحَكِيم الذي برَأَهُم إبريَاءَ مِنَ التّفَاوُتِ إلى عِبَادَةِ البَقَرِ الذي هوَ مَثَلٌ في الغَبَاوَةِ والبَلادَةِ
{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قِيلَ : هوَ على الظّاهِرِ وهوَ البَخْعُ. (أيْ قَتْلُ الشَّخْصِ نَفسَهُ) وقِيلَ : مَعنَاهُ قَتْلُ بَعضِهِم بَعضًا.
وقِيلَ : أُمِرَ مَن لَم يَعبُدِ العِجْلَ أنْ يَقتُلُوا العَبَدَةَ فقُتِلَ سَبعُونَ أَلفًا.
{ذَلِكُمْ} التَّوبَةُ والقَتْلُ
{خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} مِنَ الإصْرَارِ على المَعصِيَةِ.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} الْمِفضَالُ بقَبُولِ التَّوبَةِ وإنْ كَثُرَت
{الرَّحِيمُ (54)} يَعفُو الحَوبَةَ (أي الإثم) وإنْ كَبُرَت.
والفَاءُ الأُولَى لِلتَّسبِيْبِ لأنّ الظُّلْمَ سَبَبُ التّوبَةِ ، والثّانِيَةُ لِلتّعقِيبِ لأنّ المعنى فَاعْزِمُوا على التَّوبَةِ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُم إذِ اللهُ تَعالى جَعَلَ تَوبَتَهُم قَتْلَ أَنفُسِهِم ، والثّالثَةُ مُتَعلّقَةٌ بشَرْطٍ مَحذُوفٍ كأنّهُ قالَ فإنْ فعَلتُم فقَدْ تَابَ علَيكُم.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} عِيَانًا ،
{فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} أي الموتُ. قِيلَ : هِيَ نَارٌ جَاءَت مِنَ السّمَاءِ فأَحْرَقَتْهُم.
رُوِيَ أنّ السَّبعِينَ الذينَ كَانُوا معَ مُوسَى علَيهِ السَّلامُ عِندَ الانطِلاقِ إلى الجَبَلِ قَالُوا لهُ : نَحنُ لم نَعبُدِ العِجْلَ كَمَا عَبَدَه هؤلاءِ فأَرِنَا اللهَ جَهْرَةً.
فقَالَ مُوسَى : سَأَلتُه ذلكَ فأَبَاهُ عَلَيَّ.
فقَالُوا : إنّكَ رأَيتَ اللهَ تَعالى فلَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتى نَرَى اللهَ جَهْرَةً.
فَبَعَثَ اللهُ عَلَيهِم صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُم.
وتَعَلَّقَتِ المعتَزِلَةُ بهذهِ الآيةِ في نَفيِ الرّؤيَةِ لأنَّهُ لَو كَانَ جَائزَ الرُّؤيَةِ لَمَا عُذّبُوا بسُؤالِ مَا هوَ جَائزُ الثّبُوتِ.
قُلنَا : إنّما عُوقِبُوا بكُفرِهم لأنَّ قَولَهم : إنَّكَ رأَيتَ اللهَ فلَن نُؤمِنَ لَكَ حَتى نَرَى اللهَ جَهْرَةً كُفْرٌ مِنهُم.
ولأنَّهم امْتَنَعُوا عن الإيمانِ بموسَى بَعدَ ظُهُورِ مُعجِزَتِه حتى يَرَوا رَبَّهم جَهْرَةً ، والإيمانُ بالأنبِيَاءِ واجِبٌ بَعدَ ظُهُورِ مُعجِزَاتِهم ولا يَجُوزُ اقْتِراحُ الآيَاتِ عَلَيهِم. (أيْ بَعدَ ثُبُوتِ الْمُعجِزَةِ مَعنَاهُ الْمُعجِزَةُ الأُولَى تَكفِي أمّا لِزِيَادَةِ اليَقِينِ فَيَجُوزُ كمَا طَلَبَ أَصْحَابُ سَيّدِنا عِيسَى مِنهُ نُزُولَ المائِدَةِ ليسَ على وَجْهِ عَدَمِ الاكتِفَاءِ بالأولى، بَعدَ أن يُثبِتَ النَّبيُّ مُعجِزَةً لَيسَ لِلنّاسِ أنْ يَطْلُبُوا مِنهُ غَيرَها أمّا لِلأُولى فِلَأَنَّ النُّبُوَّةَ قَدْ يَدَّعِيْهَا كَذّابٌ لِمَجَرَّدِ دَعْوَاهُ لا يُصَدَّقُ)
ولأنّهم لم يَسأَلُوا سؤالَ اسْتِرشَادٍ بَل سُؤالَ تَعَنُّتٍ وعِنَادٍ.
{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} إليهَا حِينَ نَزَلَت.
https://www.islam.ms/ar/?p=486