تفسير سورة البقرة من آية 37 إلى 40
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي اسْتَقبَلَها بالأخذِ والقَبُولِ والعَملِ بها.
وبنَصْبِ آدمَ ورَفْعِ كَلِمَات: مَكّي على أنّها اسْتَقبَلَتْه بأنْ بلَغَتْهُ واتَّصَلَتْ بهِ وهُنَّ قَولُه تَعالى : {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وفِيهِ مَوعِظَةٌ لِذُرِّيَّتِهِما حَيثُ عَرَفُوا كَيفِيَّةَ السَّبِيلِ إلى التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ.
وعن ابنِ مَسعُودٍ رضيَ اللهُ عَنهُ: إنّ أحَبَّ الكَلامِ إلى اللهِ تَعَالى مَا قَالَهُ أَبُونَا آدمُ حِينَ اقْتَرفَ الخَطِيئَةَ : سُبحَانَكَ اللّهُمَّ وبحَمدِكَ وتَبارَك اسمُكَ وتَعَالى جَدُّكَ (أي عَظَمَتُكَ مَعنَاهُ أنّ عَظَمتَكَ مَا فِيهَا نَقصٌ) ولا إلهَ إلا أنتَ ظَلَمتُ نَفسِي فَاغْفِرْ ليْ إنّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنتَ.
وعن ابنِ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما قال : يا رَبّ أَلم تَخلُقْني بيَدِكَ ؟ (أي بقُدرَتِكَ) قالَ : بَلَى.
قالَ : يَا ربِّ أَلم تَنفُخْ فِيَّ مِن رُوحِكَ ؟ (أي الرّوحِ المشَرَّفَةِ عندَكَ) أَلم تَسبِقْ رَحمَتُكَ غضَبَك ؟ ألم تُسكِنّي جَنّتَكَ ؟ وهوَ تَعالى يَقُولُ : بَلَى بَلَى.
قالَ : فَلِمَ أَخْرَجتَني مِنَ الجنّة ؟ قال : بشُؤم مَعصِيَتِكَ.
قالَ : فلَو تُبتُ أرَاجِعِي أنتَ إلَيها ؟ قال : نَعَم.
{فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجَعَ علَيهِ بالرَّحمَةِ والقَبُول.
واكتَفَى بذِكْرِ تَوبَةِ آدمَ لأنّ حوّاءَ كانَت تَبعًا لهُ ، وقَد طُوِيَ ذِكْرُ النّسَاءِ في أكثَرِ القُرآنِ والسُّنّةِ لذَلكَ. (لأنَّ النّسَاءَ تَبَعٌ للرّجَالِ)
{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} الكَثِيرُ القَبُولِ للتَّوبَةِ.
{الرَّحِيمُ (37)} على عِبَادِه.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} أي مُجتَمِعِينَ.
وكُرِّرَ الأمرُ بالهُبُوطِ للتّأكِيدِ ، أو لأنّ الهُبوطَ الأوّلَ مِنَ الجَنّةِ إلى السّمَاءِ والثّاني مِنَ السّماءِ إلى الأرض ، أو لِمَا نِيْطَ بهِ مِن زِيادَة قَولِه.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أيْ رَسُولٌ أَبعَثُهُ إلَيكُم ، أو كِتَابٌ أنزِلُهُ عَلَيكُم بدَليلِ قَولِه تَعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ} في مُقَابَلةِ قَولِه
{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي بالقَبُولِ والإيمانِ بهِ.
{فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الْمُستَقبَل
{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} على مَا خَلَّفُوا. (مَعنَاهُ اللهُ تَعالى يُذهِبُ عَنهُمُ الحَزَنَ على مَا تَركُوا مِنَ الأهلِ وغَيرِه)
والشَّرطُ الثّاني معَ جَوابِه جَوابُ الشَّرطِ الأوّلِ كقَولِكَ " إنْ جِئتَني فإنْ قَدَرتُ أَحسَنْتُ إلَيكَ " .
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} أيْ أَهلُهَا ومُستَحِقُّوهَا. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} هوَ يَعقُوبُ علَيهِ السَّلامُ وهوَ لَقَبٌ لهُ ومَعنَاهُ في لِسَانِهم صَفوَةُ اللهِ أو عَبدُ الله.
فَإسْرَا هوَ العَبدُ أو الصَّفوَةُ ، وإيْلَ هوَ اللهُ بالعِبرِيّةِ ، وهوَ غَيرُ مُنصَرِفٍ لِوُجُودِ العَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ.
{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ذَكَّرَهُمُ النِّعمَةَ أنْ لا يُخِلُّوا بِشُكْرِهَا ويُطِيعُوا مَانِحَهَا.
وأَرادَ بها مَا أَنْعَمَ بهِ على آبائِهِم مِما عَدّدَ علَيهِم مِنَ الإنجَاءِ مِن فِرعَونَ وعَذَابِه ومِنَ الغَرقِ ومِنَ العَفْو عن اتّخَاذِ العِجْلِ والتّوبَةِ عَلَيهِم (عبَدَ العِجْلَ قِسمٌ مِنهُم ثمّ عَفَا اللهُ عَنهُم بتَوبَتِهِم بِرُجُوعِهِم عن عِبَادَةِ العِجْل) ، ومَا أَنْعَمَ بهِ علَيهِم مِن إدْرَاكِ زَمَنِ محَمَّدٍ صلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّمَ الْمُبَشَّرِ بهِ في التَّورَاةِ والإنجِيلِ. (مَعنَاهُ أنّ اليَهُودَ الذينَ كَانُوا في زَمَنِ نُزُولِ القُرءانِ اللهُ تَعَالى أَمَرَهُم بأَنْ يَذْكُرُوا نِعمَتَهُ التي أَنْعَمَها علَيهِم وهيَ أنّ أجْدَادَهُم الذينَ كَانُوا معَ مُوسَى اللهُ تَعالى أَنْجَاهُم مِن فِرعَونَ وعَذَابِه ومِنَ الغَرَقِ وعَفَا عَمّنْ عَبَدَ العِجْلَ مِنهُم فتَابَ علَيهِ، ثم هؤلاءِ مَوجُودُونَ في زَمَنِ النّبيّ علَيهِ السّلامُ جَعلَهُم أَدْرَكُوا بِعْثَةَ محَمَّدٍ مَعنَاهُ اشْكُرُوا أَنتُم رَبَّكُم بالإيمانِ بمحَمَّدٍ، اشْكُرُوا نِعمَةَ اللهِ بالإيمانِ بمحَمَّدٍ)
{وَأَوْفُوا} أَدُّوا وَافِيًا تَامًّا ، يُقَالُ وَفَيتُ لَهُ بالعَهدِ فأنَا وافٍ به وأَوفَيتُ لهُ بالعَهدِ فأَنَا مُوفٍ بهِ ، والاخْتِيَارُ أَوفَيتُ ، وعلَيهِ نزَلَ التّنزِيلُ.
{بِعَهْدِي} بما عَاهَدتُموني علَيهِ منَ الإيمانِ بي والطّاعَةِ ليْ ، أو مِنَ الإيمانِ بنَبيّ الرّحمَةِ والكِتَابِ الْمُعجِزِ.
{أُوْفِ بِعَهْدِكُمْ} بما عَاهَدْتُكُم علَيهِ مِن حُسْنِ الثّوابِ عَلى حَسَنَاتِكُم.
والعَهدُ يُضَافُ إلى الْمُعاهِدِ والْمُعَاهَدِ جَميعًا.
وعَن قتَادَةَ : هما لئِن أقَمتُم ولأَكفُرَنّ.
وقالَ أهلُ الإشَارةِ (يَعني أهلَ التّصَوُّف) : أَوفُوا في دَارِ مِحنَتي على بِسَاطِ خِدمَتي (هَذه أُمُورٌ مَعنَويّةٌ) بحِفْظِ حُرمَتي ، أُوْفِ في دَارِ نِعمَتي على بِسَاطِ كَرامَتي بسُرُورِ رُؤيَتي.
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} فَلا تَنقُضُوا عَهدِي وهوَ مِن قَولِكَ " زَيْدًا رَهِبتُه " وهوَ أَوكَدُ في إفَادَةِ الاختِصَاصِ مِن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وإيّايَ مَنصُوبٌ بفِعلٍ مُضمَرٍ دَلَّ علَيهِ مَا بَعدَه وتَقدِيرُه فَارْهَبُوا إيَّايَ فَارْهَبُونَ ، وحُذِفَ الأوّلُ لأنّ الثّاني يَدُلُّ علَيه.
https://www.islam.ms/ar/?p=481