تفسير سورة البقرة من آية 34 إلى 36
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ} أيِ اخضَعُوا لهُ وأَقِرُّوا بالفَضْل لهُ. عن أُبَيّ بنِ كَعبٍ ، وعنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ الله عنهما : كانَ ذلكَ انحنَاءً ولم يَكُن خُرُورًا على الذَّقَنِ. (هذا قولُ بَعضٍ)
والجمهورُ على أنّ المأمورَ بهِ وَضْعُ الوَجْهِ على الأرضِ. (السّجُودُ الحَقِيقيُّ على هَذا أَكثَرُ المفَسِّرِينَ)
وكانَ السّجُودُ تَحِيَّةً لآدمَ علَيهِ السّلامُ في الصّحِيحِ إذْ لو كانَ للهِ تَعالى لَمَا امْتَنعَ عنهُ إبلِيسُ.
وكانَ سُجُودُ التّحِيّةِ جَائزًا فِيمَا مَضَى ثم نُسِخَ فقد ثبت أن رسول الله قال لمعاذِ بنِ جَبلٍ: "لَو كُنتُ ءامُرُ أحَدًا أنْ يَسجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرتُ المرأَةَ أنْ تَسجُدَ لِزَوجِهَا" رواه البيهقي وابن ماجه والحاكم والطبراني وأحمد وغيرهم.
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} الاسْتِثنَاءُ مُنقَطِعٌ لأنّهُ لم يَكُن منَ الملائِكَةِ بلْ كانَ مِنَ الجِنِّ بالنّصّ وهوَ قَولُ الحَسَنِ وقَتادَةَ ، ولأنّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ والملائكَةُ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ (هَذا القَولُ الصّحِيحُ) (عن عائشةَ رضيَ الله عنها قالَت قالَ رسولُ اللهِ {صلى اللهُ علَيهِ وسَلّمَ} "خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِن نُورٍ وخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وخُلِقَ آدَمُ مِمّا وُصِفَ لَكُم" رواه مسلم وغَيرُه.) ولأنّهُ أَبى وعَصَى واسْتَكْبَرَ والملائكَةُ لا يَعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُم ولا يَستَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ.
ولأنّهُ قال: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى }، ولا نَسْلَ للمَلائِكَةِ. (الملائكةُ لا يتَوالَدُونَ واللهُ أَخْبَر عن إبلِيسَ بأَنّ لهُ ذُرّيّةً فالقَولُ بأنَّ إبلِيسَ مِنَ الملائِكَةِ حَقِيقَةً بَعِيدٌ مِنَ الصَّوابِ)
{أَبَى} امتَنَع مِما أُمِرَ بهِ
{وَاسْتَكْبَرَ} تَكَبَّرَ عَنهُ
{وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} وصَارَ مِنَ الكَافِرينَ بإبَائِه واسْتِكْبَارِه ورَدِّهِ الأمرَ لا بتَرْكِ العَمَلِ بالأَمْرِ، لأنّ تَرْكَ السُّجُودِ لا يُخرِجُ مِنَ الإيمانِ ولا يَكُونُ كُفْرًا عندَ أهلِ السُّنّةِ خِلافًا للمُعتَزلةِ والخَوارِج، أو كانَ مِنَ الكَافِرينَ في عِلْمِ اللهِ أي وكانَ في عِلْمِ اللهِ أنّهُ يَكفُرُ بَعدَ إيمانِه.
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أَمْرٌ مِنْ سَكَنَ الدّارَ يَسكُنُها سُكْنى إذا أقَامَ فِيهَا، ويُقَالُ سَكَنَ المتَحرّكُ سُكُونًا. والْجَنَّةُ هيَ جَنّةُ الخُلْدِ التي وُعِدَتْ للمُتَّقِينَ لِلنَّقْلِ المشْهُورِ (مَعنَاهُ الدَّلِيلُ السَّمعِيُّ الْمَشهُورُ) واللّامُ للتَّعرِيفِ.
وقَالَتِ المعتَزِلَةُ: كانت بُستَانًا باليَمَنِ لأنّ الجنّةَ لا تَكلِيفَ فيها ولا خُرُوجَ عنها.
قلنا: إنّما لا يَخرُج مِنها مَن دَخَلَها جَزَاءً. وقَدْ دَخَلَها النّبيُّ علَيهِ السّلامُ لَيلةَ المعراجِ ثمّ خَرَج مِنها، وأهلُ الجنّةِ يُكَلَّفُونَ المعرفَةَ والتَّوحِيدَ.
{وَكُلَا مِنْهَا} مِن ثِمارِها فحُذِفَ الْمُضَافُ
{رَغَدًا} أيْ أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا
{حَيْثُ شِئْتُمَا} أيْ أيَّ مَكَانٍ مِنَ الجَنّةِ شِئتُمَا
{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي الحِنْطَةَ. ولِذا قِيلَ: كَيفَ لا يَعصِي الإنسَانُ وقُوتُهُ مِن شَجَرةِ العِصْيَانِ (هَذا كَلامٌ لِبَعْضِ النّاسِ لَيسَ حَدِيثًا)، أو الكَرمَةَ (أيْ وقِيلَ إنّ تِلكَ الشّجَرةَ كَانَت شَجرَةَ الكَرْمَةِ أي العِنَب) لأنّها أَصْلُ كُلِّ فِتْنَةٍ، أو التّيْنَةَ. (والصّوابُ عَدَمُ التّعْيِينِ لأنّ الرّسولَ صلّى الله عليه وسلم لم يُسَمِّ مَا هيَ تِلكَ الشّجَرَة ولَيسَ علَينَا أنْ نَعلَمَ اسمَ تِلكَ الشّجَرَةِ قَد تَكُونُ التُّفّاحَ وقَد تَكُونُ غَيرَه)
{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)} مِنَ الذينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم أو مِنَ الضّارّينَ أَنفُسَهُم.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي عن الشَّجَرةِ ، أيْ فحَمَلَهُمَا الشَّيطَانُ على الزَّلّةِ بسَبَبِها.
وتَحقِيقُه فأَصْدَرَ الشَّيطَانُ زَلّتَهُمَا عَنهَا أو فأَزَلَّهما عن الجَنّةِ بمعنى أَذْهَبَهُمَا عَنهَا وأَبْعَدَهُما.
وزَلَّةُ آدَمَ بالخَطَأِ في التّأوِيلِ بحَمْلِ النَّهيِ على التّنزِيهِ دُونَ التَّحرِيم،
وهَذا دَلِيلٌ على أنّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ اسمِ الزَّلّة على الأنبيَاءِ علَيهِمُ السَّلامُ كمَا قَالَ مَشَايِخُ بُخَارَى.
فَإنّها اسمٌ لفِعلٍ يَقَعُ على خِلافِ الأَمرِ مِن غَيرِ قَصْدٍ إلى الخِلافِ كزَلَّةِ الْمَاشِي في الطِّينِ.
وقَالَ مَشَايِخُ سَمَرقَنْدَ : لا يُطلَقُ اسمُ الزَّلَّةِ على أَفعَالِهم كمَا لا تُطلَقُ المعصِيَةُ.
وإنّما يُقَالُ فَعَلُوا الفَاضِلَ وتَركُوا الأفضَلَ فَعُوتِبُوا علَيهِ. (وهَذَا لا وَجْهَ لهُ ، هُمُ الحنَفِيَّةُ بَعضُهُم قالَ: مَن نَفَى اسمَ المعصِيَةِ يَكفُر، القَولُ السَّدِيدُ هوَ أنْ يُقَالَ إنّ الأنبيَاءَ تَجُوزُ علَيهِمُ الصّغَائرُ التي ليسَ فِيهَا خَسَاسَةٌ لَكن يَتُوبُونَ فَورًا قَبلَ أنْ يَقتَدِيَ بِهم أحَدٌ اللهُ تَعالى يُنَبِّهُهُم، هَذا أَسَدُّ مَا يُقَالُ في هَذا الموضِعِ.)
{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} مِنَ النَّعِيم والكرَامَةِ ، أو مِنَ الجَنّةِ إنْ كانَ الضَّمِيرُ للشَّجَرَةِ في عَنهَا .
وقَدْ تَوصَّلَ إلى إزَلالِهما بَعدَما قِيلَ لهُ اخْرُجْ مِنهَا فَإنَّكَ رَجِيم، لأنّهُ مُنِعَ عَن دُخُولِها على جِهَةِ التَّكْرُمَةِ كدُخُولِ الملائِكَةِ لا عن دُخُولِها على جِهَةِ الوَسْوَسَةِ ابتِلاءً لآدَمَ وحَوّاءَ.
وأما ما رُوِيَ من أنّهُ أرَادَ الدّخُولَ فمَنَعَتْهُ الخَزَنَةُ فدَخَلَ في فَمِ الحَيّةِ حتى دَخَلَتْ بهِ. (فهَذا غَيرُ صَحِيحٍ)
وقيلَ : قَامَ عندَ البَابِ فنَادَى (يعني ليسَ وهوَ في الدّاخِلِ وَسْوَسَ إلَيهِما). (إبليسُ أُمِرَ بالخُرُوج مِنَ الجَنّةِ فَاسْتَعْصَى فَوَسوَسَ لآدمَ ثم أُخْرِجَ مِنهَا)
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} الهُبُوطُ النُّزُولُ إلى الأرضِ.
والخِطَابُ لآدَمَ وحَوّاءَ وإبلِيسَ وقِيلَ والحَيّة والصَّحِيحُ لآدمَ وحَوّاءَ.
والمرادُ هُمَا وذُرّيَّتُهُمَا لأنّهمَا لَمّا كانَا أَصْلَ الإنسِ ومُتَشَعَّبَهُم جُعِلَا كأَنَّهما الإنسُ كُلُّهُم ويَدُلُّ علَيهِ قَولُه تَعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} المرادُ بهِ مَا علَيهِ النّاسُ مِنَ التّبَاغِي والتَّعَادِي وتَضْلِيلِ بَعضِهِم لِبَعضٍ.
والجُملَةُ في مَوضِع الحَالِ مِنَ الواوِ في اهبِطُوا أيِ اهْبِطُوا مُتَعَادِينَ.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} مَوضِعَ اسْتِقرَارٍ أو اسْتِقرَار. (وهَذا لأنّ الْمُستَقَرَّ يَصلُحُ لِلمَصْدَرِ ويَصْلُحُ للمَوضِعِ لِلمَكَانِ مَكانِ الاستِقرَار)
{وَمَتَاعٌ} وتَمتُّعٌ بالعَيشِ.
{إِلَى حِينٍ (36)} إلى يومِ القِيَامَةِ أو إلى الموتِ.
قالَ إبرَاهِيمُ بنُ أَدهَمَ : أَوْرَثَتْنَا تِلكَ الأَكْلَةُ حُزْنًا طَوِيلًا.
https://www.islam.ms/ar/?p=457