تفسير سورة البقرة آية 144 - 145
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } تَرَدُّدَ وَجْهِكَ وتَصَرُّفَ نَظَرِكَ في جِهَةِ السّمَاءِ. وكانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ يتَوقَّعُ مِن رَبِّه أنْ يُحَوّلَهُ إلى الكَعبَةِ مُوَافَقَةً لإبراهيمَ ومُخَالَفةً لِليَهُودِ ، ولأنّها أدْعَى لِلعَربِ إلى الإيمانِ لأنّها مَفْخَرتُهم ومَزَارُهُم ومَطَافُهُم.
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } فَلَنُعطِيَنَّكَ ولَنُمَكِّنَنَّكَ مِنَ استِقبَالِها، مِن قَولِكَ وَلَّيْتُه كَذا إذَا جَعَلتَه والِيًا لهُ ، أو فَلَنَجْعَلَنَّكَ تَلِي سِمْتَها دُونَ سِمْتِ بَيتِ المقدِس.
{ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } تُحِبُّها وتَمِيلُ إلَيهَا لأَغْرَاضِكَ الصَّحِيحَةِ التي أَضْمَرتَها ووَافَقَتْ مَشِيئَةَ اللهِ وحِكْمَتَهُ.
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أيْ نَحوَه.
أيِ اجْعَل تَولِيَةَ الوَجهِ تِلقَاءَ المسجِدِ أي في جِهَتِه وسِمتِه لأنّ استِقبَالَ عَينِ القِبلَةِ مُتَعَسِّرٌ على النّائِي.
رُوِي أنّهُ علَيهِ السّلامُ قَدِمَ المدِينَةَ فصَلَّى نَحوَ بَيتِ المقدِس سِتَّةَ عَشَرَ شَهرًا ثم وُجِّهَ إلى الكَعبَةِ.
{ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } مِنَ الأرضِ وأَرَدتُمُ الصّلاةَ
{ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } أي التَّحويلَ إلى الكَعبَةِ هوَ الحَقُّ لأنّهُ كانَ في بِشَارَةِ أَنبِيَائِهم برَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أنّهُ يُصَلّي إلى القِبلَتَينِ.
{ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 144] فالأوَّلُ وَعِيدٌ لِلكَافِرِينَ بالعِقَابِ على الجُحُودِ والإباء ، والثّاني وَعدٌ للمُؤمنِينَ بالثَّوابِ على القَبُولِ والأدَاء.
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } أَرادَ ذَوِي العِنَادِ مِنهُم
{ بِكُلِّ ءَايَةٍ } بُرهَانٍ قَاطِعٍ أنّ التَّوَجُّهَ إلى الكَعبَةِ هوَ الحَقُّ
{ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } لأنّ تَركَهُمُ اتّبَاعَكَ لَيسَ عَن شُبهَةٍ تُزِيلُها بإيرَادِ الحُجّةِ، إنّما هوَ عَن مُكَابَرةٍ وعِنَادٍ معَ عِلمِهِم بما في كُتُبِهِم مِن نَعْتِكَ أنّكَ على الحَقّ.
{ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } حَسْمٌ لأَطمَاعِهِم إذْ كَانُوا اضْطَرَبُوا في ذَلكَ وقَالُوا : لَو ثَبَت على قِبلَتِنا لَكُنّا نَرجُو أنْ يَكُونَ صَاحبَنا الذي نَنتَظِرُه وطَمِعُوا في رجُوعِه إلى قِبْلَتِهم، ووُحِّدَتِ القِبلَةُ وإنْ كانَ لَهم قِبْلَتَانِ فلِلْيَهُودِ قِبْلَةٌ ولِلنَّصَارَى قِبْلَةٌ لاتّحَادِهِم في البُطْلَانِ.
{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يَعني أنّهم معَ اتِّفَاقِهِم على مُخَالَفَتِكَ مُختَلِفُونَ في شَأنِ القِبْلَةِ لا يُرجَى اتِّفَاقُهُم كمَا لا تُرجَى مُوَافَقَتُهُم لكَ ، فاليَهُودُ تَستَقبِلُ بَيتَ الْمَقدِسِ ، والنَّصَارَى مَطْلِعَ الشَّمسِ.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } أيْ مِن بَعدِ وُضُوحِ البُرهَانِ والإحَاطَةِ بأنَّ القِبلَةَ هيَ الكَعبَةُ وأنّ دِينَ اللهِ هوَ الإسلامُ { إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 145] لَمِنَ المرتَكِبِينَ الظُّلمَ الفَاحِشَ. (الظَّالِمُونَ وَرَدَ في القُرءانِ في أَكثَرِ المواضِع بمعنَى الكَافِرِينَ وفي بَعضِ المواضِع الظُّلْمُ بمعنَى مَا هوَ كَبِيرَةٌ وفي بَعضِ المواضِع بمعنى مَا هوَ مَعصِيَةٌ صَغِيرةٌ كَما في قَولِ يُونُسَ: سُبحَانَكَ إنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ، هُنَا المرادُ الصّغِيرَةُ التي لا خِسَّةَ فِيهَا ولا دَنَاءَةَ)
وفي ذلكَ لُطفٌ لِلسَّامِعِينَ وتَهيِيْجٌ للثّبَاتِ على الحَقّ وتَحذِيرٌ لِمَنْ يَترُكُ الدَّلِيلَ بَعدَ إنَارَتِه ويَتَّبِعُ الهَوَى.
وقِيلَ : الخِطَابُ في الظّاهِر لِلنَّبيّ علَيهِ السَّلامُ والمرادُ أُمَّتُه
https://www.islam.ms/ar/?p=537