تفسير سورة البقرة آية 146 - 147 - 148 - 149 - 150
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يَعْرِفُونَهُ } أي محمَّدًا علَيهِ السَّلامُ.
{ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } قالَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَام : أنَا أَعْلَمُ بهِ مِنّي بِابْني فقال لهُ عُمَرُ : ولِمَ ؟ قالَ : لأنّي لَستُ أشُكُّ في محَمَّدٍ أنّهُ نَبيٌّ فأَمّا ولَدِي فلَعَلَّ والِدَتَهُ خَانَت، فقَبَّلَ عُمَرُ رَأسَهُ.
{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ } أي الذينَ لم يُسْلِمُوا
{ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } حَسَدًا وعِنَادًا
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[البقرة : 146] لأنّ اللهَ تَعالى بَيّنَهُ في كِتَابِهم.
{ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ } أيِ الحَقُّ مِنَ اللهِ لا مِنْ غَيرِه.
يَعني أنّ الحَقَّ مَا ثَبَتَ أنّهُ مِنَ اللهِ كالذي أنتَ عَلَيهِ ، ومَا لم يَثبُت أنّهُ مِنَ اللهِ كالذي علَيهِ أَهلُ الكِتَابِ فهوَ البَاطِلُ ، أو لِلعَهدِ والإشَارَةِ إلى الحَقِّ الذي علَيهِ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ علَيهِ وسلَّم ،
{ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147] الشَّاكِّينَ في أنّهُ مِن رَبّكَ.
{ وَلِكُلٍّ } مِن أَهلِ الأَديَانِ الْمُختَلِفَةِ.
{ وِجْهَةٌ } قِبْلَةٌ.
{ هُوَ مُوَلِّيهَا } لِلوِجْهَةِ. أي هوَ مُوَلِّيْهَا وَجْهَهُ
والمعنى ولِكُلِّ أُمَّةٍ قِبلَةٌ يُتَوجَّهُ إلَيها مِنكُم ومِن غَيرِكُم.
{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } فاستَبِقُوا أَنتُم إلَيهَا غَيرَكُم مِن أَمرِ القِبْلَةِ وغَيرِه.
{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا } أَنتُم وأَعدَاؤكُم
{ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } يَومَ القِيَامَةِ فيَفصِلُ بَينَ الْمُحِقِّ والْمُبطِل ، أو ولِكُلٍّ مِنكُم يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وِجْهَةٌ (جِهَةٌ مِنَ الجِهَاتِ) يُصَلّي إلَيهَا جَنُوبيّةٌ أو شَماليَّةٌ أو شَرقِيَّةٌ أو غَربِيَّةٌ ، فَاسْتَقبِلُوا الفَاضِلاتِ مِنَ الجِهَاتِ وهيَ الجِهَاتُ الْمُسَامِتَةُ لِلكَعبَةِ وإنِ اخْتَلَفَتْ أَيْنَمَا تَكُونُوا مِنَ الجِهَاتِ الْمُختَلِفَةِ يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا ويَجْمَعْكُم ويَجْعَلْ صَلاتَكُم كأَنَّها إلى جِهَةٍ واحِدَةٍ وكأَنَّكُم تُصَلُّونَ حَاضِرِي المسجِدِ الحَرَام.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 148]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } ومِن أيّ بَلَدٍ خَرَجْتَ لِلسَّفَرِ
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إذَا صَلَّيْتَ.
{ وَإِنَّهُ } وإنّ هَذا المأمورَ بهِ
{ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 149]
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وهَذا التَّكرِيرُ لِتَأكِيدِ أَمْرِ القِبْلَةِ وتَشْدِيدِه لأنّ النَّسْخَ مِنْ مَظَانِّ الفِتْنَةِ والشُّبْهَةِ فَكُرِّرَ عَلَيهِم لِيَثْبُتُوا على أنّهُ نِيْطَ بِكُلِّ واحِدٍ مَا لم يُنَطْ بالآخَرِ فَاخْتَلَفَتْ فَوائِدُها
{ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أيْ قَدْ عَرَّفَكُمُ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَمْرَ الاحْتِجَاجِ في القِبْلَةِ بِما قَدْ بُيِّنَ في قَولِه : {ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هوَ مُوَلِّيْهَا}.
لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ لِليَهُودِ عَلَيكُم حُجَّةٌ في خِلافِ مَا في التَّورَاةِ مِن تَحوِيلِ القِبْلَةِ.
وأَطْلَقَ اسمَ الحُجَّةِ على قَولِ الْمُعَانِدِينَ لأَنَّهم يَسُوقُونَهُ سِيَاقَ الحُجَّةِ.
{ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } استِثنَاءٌ مِنَ "النّاسِ" أيْ لِئلّا يَكُونَ حُجَّةً لأَحَدٍ مِنَ اليَهُودِ إلا الْمُعَانِدِينَ مِنهُم القَائلِينَ: مَا تَرَكَ قِبْلَتَنَا إلى الكَعْبَةِ إلا مَيْلًا إلى دِينِ قَومِه وحُبًّا لِبَلَدِه ، ولَو كانَ على الحَقِّ لَلَزِمَ قِبْلَةَ الأنبِيَاءِ علَيهِمُ السّلَامُ.
أو مَعنَاهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلعَرَبِ علَيكُم حُجّةٌ واعتِرَاضٌ في تَركِكُمُ التَّوَجُّهَ إلى الكَعْبَةِ التي هيَ قِبلَةُ إبراهيمَ وإسماعِيلَ أبي العَرَبِ إلا الذينَ ظَلَمُوا مِنهُم وهُم أَهلُ مَكّةَ حِينَ يَقُولُونَ بَدَا لهُ فرَجَعَ إلى قِبْلَةِ آبائِه ، ويُوشِكُ أنْ يَرجِعَ إلى دِيْنِهِم.
ثم استَأنَفَ مُنَبِّهًا بقَولِه :
{ فَلا تَخْشَوْهُمْ } فَلا تَخافُوا مَطَاعِنَهُم في قِبْلَتِكُم فَإنّهم لا يَضُرُّونَكُم
{ وَاخْشَوْنِى } فَلا تُخَالِفُوا أَمْرِي
{ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِىْ عَلَيْكُمْ } أيْ عَرّفْتُكُم لِئَلّا يَكُونَ علَيكُم حُجّةٌ ولِأُتِمَّ نِعمَتي علَيكُم بهِدَايَتي إيّاكُم إلى الكَعْبَةِ.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 150] ولِكَي تَهتَدُوا إلى قِبلَةِ إبرَاهِيمَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=538