تفسير سورة البقرة آية 143
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ } ومِثلَ ذلكَ الجَعْلِ العَجِيبِ جَعَلْنَاكُم،
{ أُمَّةً وَسَطًا } خِيَارًا.
وقِيلَ : لِلخِيَارِ وَسَطٌ لأنّ الأطرَافَ يتَسَارَعُ إلَيها الخَلَلُ والأوسَاطُ مَحمِيَّةٌ أيْ كَمَا جَعَلْتُ قِبلَتَكُم خَيرَ القِبَلِ جَعَلتُكُم خَيرَ الأُمَم ، (وعِلَّةُ الجَعْلِ أيْ لِتَعلَمُوا بالتَّأَمُّلِ فِيمَا نُصِبَ لَكُم مِنَ الحُجَجِ وأَنزَلَ علَيكُم مِنَ الكِتَابِ أنّهُ تَعالى مَا بَخِلَ على أحَدٍ ومَا ظَلَم بَل أَوْضَحَ السُّبُلَ وأَرسَلَ الرُّسُلَ فبَلَّغُوا ونَصَحُوا ولَكنّ الذينَ كَفَرُوا حمَلَهُمُ الشّقَاءُ على اتّبَاع الشّهَواتِ والإعراضِ عن الآياتِ فتَشهَدُونَ بذَلكَ على مُعَاصِرِيْكُم وعلى الذينَ قَبْلَكُم وبَعْدَكُم. اه.)
أو عُدُولًا لأنّ الوَسَطَ عَدْلٌ بينَ الأطرافِ لَيسَ إلى بَعضِها أَقرَبَ مِنْ بَعضٍ.
أيْ كَمَا جَعَلْنَا قِبْلَتَكُم مُتَوسِّطَةً بَينَ الْمَشرِقِ والْمَغرِب جعَلنَاكُم أُمَّةً وسَطًا بَينَ الغُلُوِّ والتّقصِيرِ فَإنَّكُم لم تَغلُوا غُلُوَّ النّصَارَى حَيثُ وَصَفُوا المسِيحَ بالأُلُوهِيَّةِ ، ولم تُقَصِّرُوا تَقصِيرَ اليَهُودِ حَيثُ وَصَفُوا مَريمَ بالزّنَا وعِيسَى بأَنَّهُ وَلَدُ الزّنَا
{ لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } رُوِيَ أنّ الأُمَمَ يَومَ القِيَامَةِ يَجْحَدُونَ تَبْلِيغَ الأنبِيَاءِ فيُطَالِبُ اللهُ الأنبيَاءَ بالبَيّنَةِ على أنّهم قَدْ بَلَّغُوا وهوَ أَعْلَمُ، فيُؤتَى بأُمَّةِ محَمَّدٍ علَيهِ السَّلامُ فيَشهَدُونَ فتَقُولُ الأُمَمُ : مِن أَينَ عَرَفتُم ؟ فيَقُولُونَ : عَلِمْنَا ذَلكَ بإخبَارِ اللهِ تَعالى في كِتَابِه النَّاطِق على لِسَانِ نَبِيِّهِ الصَّادِق ، فيُؤتَى بمحَمَّدٍ علَيهِ السَّلامُ فيُسأَلُ عن حَالِ أُمَّتِه فيُزَكّيهِم ويَشْهَدُ بعَدَالَتِهِم.
والشّهَادَةُ قَد تَكُونُ بِلا مُشَاهَدةٍ كالشّهَادَةِ بالتَّسَامُع في الأشيَاءِ المعرُوفَةِ.
وقِيلَ : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ في الدُّنيَا فِيمَا لا يَصِحُّ إلا بشَهَادَةِ العُدُولِ الأخيَارِ ، ويَكُونَ الرّسُولَ علَيكُم شَهِيدًا يُزَكّيْكُم ويُعْلِمُ بعَدَالَتِكُم.
واسْتَدَلَّ الشّيخُ أبو مَنصُورٍ رحمَه اللهُ بالآيَةِ على أنّ الإجماعَ حُجَّةٌ لأَنَّ اللهَ تَعالى وَصَفَ هَذِه الأُمَّةَ بالعَدَالَةِ ، والعَدْلُ هوَ الْمُستَحِقُّ لِلشَّهَادَةِ وقَبُولِها فَإذا اجْتَمَعُوا على شَيءٍ وشَهِدُوا بهِ لَزِمَ قَبُولُه.
وأُخِّرَتْ صِلَةُ الشَّهَادَةِ أَوّلًا وقُدِّمَتْ آخِرًا لأنّ المرَادَ في الأوَّلِ إثْبَاتُ شَهَادَتِهم على الأُمَم ، وفي الآخِرِ اخْتِصَاصُهُم بكَونِ الرَّسُولِ شَهِيدًا علَيهِم.
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ } أي ومَا جَعَلنا القِبلَةَ الجِهَةَ التي كُنتَ علَيهَا وهيَ الكَعبَةُ
رُوِيَ أنّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم كانَ يُصَلّيْ بمكَّةَ إلى الكَعبَةِ ثم أُمِرَ بالصَّلاةِ إلى صَخْرَةِ بَيتِ الْمَقدِسِ بَعدَ الهِجْرَةِ تَألِيفًا لِليَهُودِ ثم حُوِّلَ إلى الكَعْبَةِ.
{ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } أيْ ومَا جَعَلنَا القِبلَةَ التي تُحِبُّ أن تَستَقبِلَها الجِهةَ التي كنتَ علَيها أوّلًا بمكَّةَ إلّا امتِحَانًا للنّاسِ وابتِلاءً لِنَعلَم الثّابتَ على الإسلامِ الصّادِقَ فيهِ مِمّن هوَ على حَرْفٍ يَنكُصُ على عَقِبَيهِ لِقَلَقِه يَرجِعُ فيَرتَدُّ عن الإسلامِ عندَ تَحوِيلِ القِبْلَةِ.
قالَ الشّيخُ أبو مَنصُورٍ رَحمَه الله : مَعنى قَولِه: لِنَعلَم أي لِنَعلَم كَائنًا أو مَوجُودًا مَا قَدْ عَلِمنَاهُ أنّهُ يَكُونُ ويُوجَدُ ، فاللهُ تَعالى عَالمٌ في الأزلِ بكُلّ مَا أرَادَ وُجُودَه أنّهُ يُوجَدُ في الوَقتِ الذي شَاءَ وجُودَه فيهِ ولا يُوصَفُ بأَنَّهُ عَالم في الأزَل بأنّه مَوجُودٌ كَائنٌ لأنّهُ ليسَ بموجُودٍ في الأزلِ فكَيفَ يَعلَمُه مَوجُودًا ، فَإذَا صَارَ مَوجُودًا يَدخُلُ تَحتَ عِلمِه الأزليّ فيَصِيرُ مَعلُومًا لهُ مَوجُودًا كَائنًا ، والتَّغَيُّرُ على المعلُومِ لا على العِلْم.
أو لِنُمَيّزَ التّابعَ مِنَ النّاكِصِ كمَا قَال تعالى : { لِيَمِيْزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فوُضِعَ العِلمُ مَوضِعَ التَّمْيِيْزِ لأنّ العِلمَ بهِ يَقَعُ التَّمْيِيزُ ، أو لِيَعلَمَ رسولُ اللهِ علَيه الصّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنُون ، وإنّما أَسْنَدَ عِلمَهُم إلى ذَاتِه لأنّهم خَواصُّه، أو هوَ على مُلاطفَةِ الخِطَابِ لِمَن لا يَعلَمُ كقَولِكَ لِمَنْ يُنكِرُ ذَوْبَ الذَّهَب: " فَلْنُلْقِهِ في النّارِ لِنَعلَمَ أَيَذُوبُ " .
{ وَإِن كَانَتْ } أيِ التَّحوِيلَةُ، أو الجَعْلَةُ أو القِبْلَةُ.
{ لَكَبِيرَةٌ } أي ثَقِيلَةٌ شَاقَّةٌ
{ إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي هَدَاهُمُ اللهُ فحُذِفَ العَائِدُ أي إلا على الثّابتِينَ الصّادِقِينَ في اتّبَاعِ الرّسُول.
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } أيْ صَلاتَكُم إلى بيتِ المقدِس ؛ سَمَّى الصّلاةَ إيْمانًا لأنّ وجُوبَها على أهلِ الإيمانِ وقَبُولَها مِن أَهلِ الإيمانِ وأدَاؤها في الجمَاعَةِ دَليلُ الإيمان.
ولَمّا تَوجَّهَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم إلى الكَعبَةِ قَالوا : كَيفَ بِمَن ماتَ قَبلَ التَّحوِيلِ مِنْ إخْوَانِنَا ؟ فنَزَلَت.
ثمّ عَلَّلَ ذَلكَ فقَالَ
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(143) لا يُضِيْعُ أُجُورَهُم ، والرّأفَةُ أشَدُّ مِنَ الرَّحمَةِ وجُمِعَ بَينَهُما كمَا في الرّحمَن الرّحِيم.
https://www.islam.ms/ar/?p=536