تفسير سورة البقرة من آية 121 إلى 124
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{ الَّذِينَ ءاتَينَاهُمُ الْكِتَـابَ } وهُم مُؤمِنُو أَهلِ الكِتَابِ وهوَ التّورَاةُ والإنجِيلُ ، أو أصحَابُ النّبيّ علَيهِ السَّلامُ، والكِتَابُ القُرآنُ.
{ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ } أي يَقرَؤونَهُ حَقَّ قِراءَتِه في التّرتِيلِ وأدَاءِ الحُرُوفِ والتَّدَبُّرِ والتَّفَكُّر ، أو يَعمَلُونَ بهِ ويؤمِنُونَ بما في مَضمُونِه ولا يُغَيّرُونَ مَا فيهِ مِن نَعتِ النّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم.
{ أُولَـئِكَ يُؤْمِنُونَ به }
{ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَـئكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ (121)} حَيثُ اشْتَرَوُا الضَّلالةَ بالهدَى
{ يَـا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي أَنعَمتُهَا علَيكُم
{ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ (122)} وتَفضِيلِي إيّاكُم على عَالَمِي زَمَانِكُم
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَـاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 123] أي واتَّقُوا يَومًا لا تَجزِى فِيهِ ولا يُقبَلُ فيهِ ولا تَنفَعُها فيهِ ولا هُم يُنصَرُونَ فِيهِ.
وتَكرِيرُ هَاتَينِ الآيتَينِ لِتَكْرَارِ المعاصِي مِنهُم ، وخَتَمَ قِصّةَ بَني إسرَائيلَ بما بَدَأَ بهِ.
{وَإِذِ} أي واذْكُر إذِ
{ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} اخْتَبرَه بأَوامِرٍ ونَواهٍ.
والاخْتِبَارُ مِنّا لِظُهُورِ مَا لم نَعْلَم، ومِنَ اللهِ لإظْهَارِ مَا قَدْ عَلِم، وعَاقِبَةُ الابتِلَاءِ ظُهُورُ الأَمرِ الخَفِيِّ في الشَّاهِدِ والغَائبِ جَمِيعًا فَلِذَا تَجُوزُ إضَافَتُه إلى اللهِ تَعالى.
وقيلَ: اختِبَارُ اللهِ عَبدَه مجَازٌ عن تَمكِينِه مِن اختِيَارِ أحَدِ الأمرَينِ مَا يُرِيدُ اللهُ تَعالى ومَا يَشتَهِيْهِ العَبدُ كأَنَّهُ يَمتَحِنُه مَا يَكُونُ مِنهُ حتى يُجَازِيهِ على حَسَبِ ذَلكَ.
وقَرأ أبو حَنِيفَةَ رضيَ اللهُ عنه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ} وهيَ قِراءَةُ بنِ عبّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا أي دَعاهُ بكلِمَاتٍ مِنَ الدُّعَاءِ فِعلُ الْمُختَبِر هَل يُجِيبُه إلَيهِنَّ أمْ لا.
{فَأَتَمَّهُنَّ} أيْ قَامَ بِهنَّ حَقَّ القِيَامِ وأدَّاهُنَّ أَحْسَنَ التَّأدِيَةِ مِن غَيرِ تَفرِيطٍ وتَوَانٍ ونَحوُه {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} ومَعنَاهُ في قِراءَةِ أبي حَنِيفَةَ رحمَه الله فأَعْطَاهُ مَا طَلَبَه لم يُنقِصْ مِنهُ شَيئًا.
والكَلِمَاتُ على هَذا مَا سَألَ إبراهيمُ ربَّه في قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنًا} {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ}
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ}
والكَلِمَاتُ على القِرَاءَةِ المشهُورَةِ خَمسٌ في الرّأس: الفَرْقُ وقَصُّ الشَّارِبِ والسِّوَاكُ والْمَضمَضَةُ والاسْتِنشَاقُ.
وخَمسٌ في الجَسَدِ: الخِتَانُ وتَقلِيمُ الأَظْفَارِ ونَتفُ الإبطِ وحَلْقُ العَانَةِ والاسْتِنجَاءُ.
وعنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما: هيَ ثَلاثُونَ سَهمًا مِنَ الشّرَائِع: عَشرٌ في بَراءَة {التَّائِبُونَ} الآيةَ، وعَشرٌ في الأحزَابِ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}الآيَةَ، وعَشْرٌ في " المؤمنِينَ " و " الْمَعَارِج " إلى قَولِه {يُحَافِظُونَ} وقيلَ: هيَ مَنَاسِكُ الحَجّ
{قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} هوَ اسمُ مَن يُؤتَمُّ بهِ أي يَأتَمُّونَ بِكَ في دِينِهِم.
{قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى} أي واجْعَلْ مِن ذُرِّيَّتي إمَامًا يُقتَدَى بهِ.
ذُرِّيّةُ الرَّجُلِ أَولادُهُ ذُكُورُهُم وإنَاثُهُم فيهِ سَواءٌ.
{قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِيْ الظَّالِمِينَ (124)} أي لا تُصِيبُ الإمَامَةُ أهلَ الظُّلْمِ مِن وَلَدِكَ أي أهلَ الكُفرِ.
أَخْبَر أنّ إمَامَةَ المسلِمِينَ لا تَثبُتُ لأَهلِ الكُفرِ وأنّ مِنْ أَولادِه المسلِمِينَ والكَافِرِينَ قَال اللهُ تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} والمحسِنُ المؤمِنُ والظَّالمُ الكَافِرُ.
قَالَتِ المعتَزِلَةُ: هَذا دَلِيلٌ على أنّ الفَاسِقَ لَيسَ بأَهلٍ للإمَامَةِ قَالُوا: وكَيفَ يَجُوز نَصْبُ الظّالِم للإمَامَةِ والإمَامُ إنّما هوَ لِكَفِّ الظَّلَمَةِ فَإذَا نُصِبَ مَنْ كانَ ظَالِمًا في نَفْسِه فقَدْ جَاءَ الْمَثَلُ السَّائِرُ "مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ ظَلَمَ ".
ولَكِنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بالظَّالِم الكَافِرُ هُنَا إذْ هُوَ الظَّالِمُ الْمُطلَقُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=528