تفسير سورة البقرة من آية 117 إلى 120
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالأرْضِ} أي مُختَرِعُهُمَا ومُبدِعُهُمَا لا على مِثَالٍ سَبَقَ.
وكُلُّ مَن فَعَلَ مَا لم يُسْبَقْ إلَيهِ يُقَالُ لهُ أَبْدَعْتَ، ولهذا قِيلَ لِمَنْ خَالَفَ السُّنّةَ والجَماعَةَ مُبتَدِعٌ لأنّهُ يَأتي في دِينِ الإسلام بمَا لم يَسْبِقْهُ إلَيهِ الصّحَابَةُ والتّابِعُونَ رضيَ اللهُ عَنهُم.
{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} أي حَكَمَ أو قَدَّرَ
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة : 117] هوَ مِن " كَانَ " التَّامّةِ أيْ احْدُثْ فيَحْدُثْ ، وهَذا مجَازٌ عن سُرعَةِ التَّكوِينِ وتَمثِيلٌ ولا قَولَ ثَمَّ. وإنّما المعنى أنّ مَا قَضَاهُ مِنَ الأُمُورِ وأَرادَ كَوْنَهُ فَإنّما يتَكَوَّنُ ويَدخُلُ تَحتَ الوجُودِ مِن غَيرِ امْتِنَاعٍ ولا تَوقُّفٍ كَمَا أنّ المأمُورَ الْمُطِيعَ الذي يُؤمَرُ فيَمْتَثِلُ لا يَتَوقَّفُ ولا يَمتَنِعُ ولا يَكُونُ مِنهُ إبَاءٌ. وأَكَّدَ بهذا استِبْعَادَ الوِلادَةِ لأنّ مَن كانَ بهذِه الصِّفَةِ مِنَ القُدرَةِ كَانَت صِفاتُه مُبَايِنَةٌ لِصِفَاتِ الأجسَام فأَنَّى يُتَصَوَّرُ التَّوَالُدُ ثَمَّ.
وقُلنَا : إنَّ كُنْ لَيسَ بأَمْرٍ حَقِيقَةً إذْ لا فَرْقَ بَينَ أنْ يُقَالَ وإذَا قَضَى أَمْرًا فَإنَّما يُكَوّنُه فيَكُونُ، وبَينَ أنْ يُقَالَ فَإنّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فيَكُونُ ، وإذَا كانَ كذَلكَ فَلا مَعنى للنَّصْبِ.
وهَذا لأنّهُ لَو كانَ أَمْرًا فَإمّا أنْ يُخَاطِبَ بهِ الموجُودَ والموجُودُ لا يُخَاطَبُ بـ " كُن " أو المعدُومَ والمعدُومُ لا يُخَاطَبُ.
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } مِنَ المشركِينَ أو مِن أَهلِ الكِتَاب ، ونَفَى عَنهُمُ العِلمَ لأنّهم لم يَعمَلُوا به
{ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } هَلّا يُكَلّمُنا كَمَا يُكَلّمُ الملائكَة وكَلَّمَ مُوسَى، استِكبَارًا مِنهُم وعُتُوًّا
{ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ } جُحُودًا لأنْ يَكُونَ مَا أَتَاهُم مِن آياتِ اللهِ آياتٌ واستِهانةً بها
{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي قلُوبُ هؤلاءِ ومَن قَبْلَهُم في العَمَى
{ قَدْ بَيَّنَّا الآيَـاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة : 118] أي لقَومٍ يُنصِفُونَ فَيُوقِنُونَ أنّها آيَاتٌ يجِبُ الاعتِرافُ بها والإذعَانُ لها والاكتِفَاءُ بها عَن غَيرِها
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا } للمؤمنِينَ بالثّوابِ
{ وَنَذِيرًا } للكَافِرينَ بالعِقَاب
{ وَلا تُسْـألُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ } [البقرة : 119] ولا نَسأَلُكَ عَنهُم مَا لهم لم يؤمِنُوا بَعدَ أنْ بَلَّغْتَ وبَلَغْتَ جُهدَكَ في دَعوَتِهم
قراءةُ نَافِعٍ ولا تَسْأَلْ على النَّهْي ومَعنَاهُ مَا وَقَعَ فيهِ الكُفّارُ مِنَ العَذَابِ كمَا تَقُولُ : كيفَ فُلانٌ سَائلًا عن الواقِع في بلِيّةٍ، فيُقَالُ لكَ : لا تَسأَلْ عَنهُ.
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } كأنّهم قَالوا لن نَرضَى عَنكَ وإنْ أَبْلَغْتَ في طَلَبِ رِضَانَا حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَنا إقْنَاطًا مِنهُم لِرَسُولِ اللهِ عن دُخُولِهم في الإسلام ، فذَكَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ كَلامَهُم.
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } الذي رَضِيَ لعِبَادِه
{ هُوَ الْهُدَى } أي الإسلامُ. وهوَ الهدَى كُلُّه لَيسَ ورَاءَه هُدًى والذي تَدْعُونَ إلى اتّبَاعِه مَا هوَ هُدًى إنّما هوَ هَوًى.
ألا تَرَى إلى قَولِه { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم } أي أقوَالَهم التي هيَ أهوَاءٌ وبِدَعٌ { بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي مِنَ العِلمِ بأنَّ دِينَ اللهِ هوَ الإسلامُ أو مِنَ الدّينِ المعلُومِ صِحَّتُه بالبراهينِ الواضِحَةِ والحُجَجِ اللّائِحَةِ { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ } مِن عَذَابِ اللهِ
{ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 120] نَاصِرٍ.
https://www.islam.ms/ar/?p=527