ليلة القدر. خطبة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا ند له، وأشهد أنّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه صلى الله وسلم عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد عباد الله فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم.
يقولُ اللهُ تبارَكَ وتعَالى في مُحْكَمِ التَّنْزيلِ: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {5}﴾ [سورة القدر].
وليلة القدر قد تكون في أي ليلة من ليالي رمضان، ولكن الغالب أنها تكون في العشر الأواخر منه. فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام: "الْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ." رواه البخاري عن ابن عباس رَضِىَ اللهُ عَنْهما. والحكمة من إخفائها ليتحقق اجتهاد العباد قي ليالي رمضان كلها طمعًا منهم في إدراكها، كما أخفى الله ساعة الإجابة يوم الجمعة.
﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ٢﴾ أي وما أعلَمَكَ يا محمَّدُ ما ليلةُ القدر ؟ وهذا لتعظيم لشأنها والتشويق إلى خبرها.
﴿لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٌ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ ٣﴾ أي أنّ العبادة في ليلة القدر أفضل من العبادة فى ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وهى ثمانون سنة وثلاثةُ أعوام وثُلُثُ عام. ورسول الله ﷺ حثَّ أمَّته على قيام ليلة القدر قائلًا: "من قام ليلةَ القَدْرِ إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنَبِه." متفَق عليه. وقيامُ ليلةِ القَدر يحصلُ بالصّلاةِ فيها إن كانَ عدَدُ الرّكَعات كثيرا أو قَليلا. وإطالةُ الصلاةِ بالقراءةِ أفضَلُ مِن تكثِير السُّجود مع تقلِيل القراءة
هي ليلةٌ عظيمة الشأن لا تكون إلا في شهر رمضان ولا يشترط أن تكون ليلة السابع والعشرين منه بدليل حديث واثلة بنِ الأسقع قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « أُنزلت التوراةُ لستٍ مضَين من رمضان وأنزل الإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الفرقانُ لأربع وعشرين خلت من رمضان » رواه البيهقي. فيحتمل أن تكون أي ليلةٍ من ليالي رمضان، والغالب أنها تكون في العشر الأواخر من رمضان.
لقد أُنزل القرآن أي دفعة واحدة في شهر رمضان في ليلة القدر، وكانت ليلة القدر في ذلك العام ليلة أربعٍ وعشرين من رمضان، كما يؤخذ ذلك من الحديث ويُعْلم من هذا الحديث أيضًا أنَّ ليلة القدر ليست خاصة بليلة السابع والعشرين من رمضان بل هي محتملة أن تصادف أول ليلة منه، وقد تكون في أي ليلة من رمضان، فهي ليست خاصة بليلة السابع والعشرين ولا بليلة التاسع والعشرين من رمضان، وكان إنزال القرآن تلك الليلة ليلة القدر، ليلة أربعٍ وعشرين من رمضان.
والقرآن أول ما أنزل نزل دفعةً واحدة إلى مكانٍ في السماء الدنيا يقال له بيت العزة، ثم صار جبريل يُنزل منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب الأمر الإلهي شيئًا فشيئًا، وكان نزوله دفعةً واحدة إلى بيت العزة في أول سنةٍ بُعِثَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في صبيحة تلك الليلة أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم خمس آيات منه وهي أول سورة العلق، ثم أنزل بعد ذلك مُفَرّقًا على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينزل دفعة واحدة، وإنما المقصود من قول الله تعالى في سورة القدر ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ إنزاله دفعةً واحدةً إلى السماء الدنيا، أما إنزاله على الرسول صلى الله عليه وسلم فكان مُفَرّقًا، وأحيانًا كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم سورة كاملة، والحكمة من ذلك أن أغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أُمّيين، فكان كلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم شىء من القرآن يحفظه قسمٌ منهم، وهكذا حتى تكامل نزوله فحفظوه كله بعد أن تكامل نزوله.
قال الله تعالى: ﴿ فيها يُفرَقُ كُلّ أَمرٍ حَكِيم ﴾ وسُمّيت ليلة القَدر لأنّ الله يُظهرُ فيها للملائكة تقديرَ الأمور والأحكام والأرزاقِ مِن تلكَ اللّيلةِ إلى مِثلِها مِن قابِل (أي السنة التي تليها) فالله يُظهِرُ ذلكَ للملائكةِ ويُبَيّن لهم ما هُم مأمورونَ بفِعلِه فيَنسَخُون في صُحفِهم مِنَ اللّوح المحفوظِ ما يجرِي للعبادِ خلالَ هذه السّنة مِن مَوتٍ وحياةٍ وولادةٍ وأرزاقٍ ومصائبَ وفَرح ونحوِ ذلك. فمعنى ليلةِ القَدْر ليلةُ تَقديرِ الأمُور وقَضائِها، والقَدْر بمعنى التَّقدير. وأما تقدير الله الذي هو صفته فلا يتغير لا بدعوة داع ولا صدقة متصدق، أنظر: الإيمان بالقدر خَيْره وشرِّهِ. مشيئة الله لا تتغير
وسمّيت ليلة القدر لأنّ الأرضَ تضِيقُ بالملائكة الذينَ يَنزلون فيها ولأنّ العمَلَ الصّالح يكونُ ذَا قَدْرٍ عندَ الله تعالى في هذه الليلة، خَيرٌ منَ العمَلِ في ألفِ شَهر ليسَ فيه ليلة القَدر. أو سُمِّيت بذلكَ لشَرفِها على سائرِ اللّيالي.
ومِن عَلاماتِ رؤيةِ ليلةِ القدرِ نورٌ خلَقَهُ اللهُ تعَالى غَير نُور الشمس والقمر والكَهرباء، أو رؤيةُ الأشجارِ سَاجدةً، وطُلوعُ الشّمس صَبِيحَتها لطيفةً، أو سماعُ صَوتِ الملائكةِ ومُصافَحتُهم أو رؤيتُهم على أشكَالهِمُ الأصلية ذَوات أجنحَة مَثنى وثُلاثَ ورُباع.
الملائكةُ قد يتَشكّلون بصُوَرِ الذُّكور من غير آلة الذُّكورة ولا يتَشكّلون بِصُورِ الإناثِ.
سيدنا جبريلُ رءاهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقتَ المعراج على هَيئتِه الأصلية لهُ سِتُّمائةِ جَناح.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَن قَامَ لَيلةَ القَدر إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لهُ مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنبِه ومَن صَامَ رمَضان إيمانًا واحتِسابا غفِرَ لهُ ما تقَدّم مِن ذَنبه » رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ولا تحصُل ليلةُ القَدر إلا في شهرِ رمضانَ وقد تكون في أوّله أو آخره والأغلب في العَشرِ الأواخِر مِن رمَضان. قال عليه الصلاة والسلام: « التَمِسُوها في العَشرِ الأواخِر مِن رمَضان » رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والأغلب أنّها تكون وِتْرا. والحكمةُ مِن إخفَائها ليتَحقّق اجتهادُ العباد في ليالي رمضَان كلّها طَمعًا مِنهُم في إدراكِها كمَا أخفَى اللهُ سَاعةَ الإجابةِ في الجمعة.
وقيامُ ليلةِ القَدر يحصلُ بالصّلاةِ فيها إن كانَ عدَدُ الرّكَعات كثيرا أو قَليلا وإطالةُ الصلاةِ بالقراءةِ أفضَلُ مِن تكثِير السّجود مع تقلِيل القراءة.
ومَن حصَلَ لهُ رؤيةُ شَىءٍ مِن علاماتِ ليلةِ القَدر يقظَةً فقَد حصَلَ لهُ رؤيةُ ليلةِ القَدْر، ومَن رءاها في المنام دَلّ ذلكَ على خَيرٍ لكنّهُ أقلّ مِن رؤيتها يقظةً، ومن لم يرَها منامًا ولا يقظةً واجتهَدَ في القِيام والطّاعةِ وصَادفَ تلكَ الليلةَ نالَ مِن عظيم بركَاتها فضلَ ثوابِ العبادةِ تلكَ الليلة، أفضل مِن ثوابِ العِبادةِ ألفَ شَهر، ومَن يَسّرَ الله له أن يدعُوَ بدَعْوةٍ في وقتِ سَاعةِ رؤيتها كانَ ذلكَ علامةَ الإجابة، كم مِن أُناسٍ سَعِدُوا مِن حصُولِ مطَالبهِم التي دعَوا اللهَ بها في هذِه الليلة.
وكانَ أكثر دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم في عمُوم الأوقاتِ من غيرِ تقيِيد ذلكَ في ليلةِ القَدر أو في الجمعة: « ربَّنا ءاتِنا في الدّنيا حسنَة وفي الآخِرة حسنَة وقِنا عذَابَ النار » بل كانَ ذلكَ شأنُه على الإطلاق.
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾. وقال رسول الله: « طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ ».
https://www.islam.ms/ar/?p=91