مَعْنَى القَدَرِ والإيمانِ به
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وبعد،
قَالَ بَعْضُ العُلَماءِ: القَدَرُ هُوَ تَدْبيرُ الأَشْياءِ علَى وجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ الله الأزَليّ ومَشِيئَتِه الأزَليَّةِ فيُوجِدُها في الوَقْتِ الذي عَلِمَ أَنَّها تَكُونُ فيه فَيدخُلُ في ذَلِكَ عَمَلُ العَبْدِ الخَيْرَ والشَّرَّ باختِيَارِه. ويَدُلُّ علَيه قولُ رَسُولِ الله إلى جِبْريلَ حِينَ سَأَلَهُ عن الإيمانِ: "الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ بالله ومَلائِكتِه وكتُبِه ورُسُلِهِ واليَوم الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرّه" رواه مسلم.
ومَعْنَاهُ أنَّ المَخْلُوقَاتِ التي قَدَّرَها الله تَعالى وفيها الخَيرُ والشَّرُّ وُجِدَت بتَقْديرِ الله الأزليّ، وأمَّا تَقْدِيرُ الله الذي هُوَ صِفَةُ ذاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بالشَّرّ بل تقديرُ الله للشرِ الكفر والمعصية وتقديرُه للإيمانِ والطاعةِ حسنٌ منه ليس قبيحًا، فإرادةُ الله تعالى نَافِذَةٌ في جميعِ مُرَادَاتِهِ على حَسَبِ عِلمِهِ بها، فما علِمَ كَونَهُ أرادَ كونَه في الوقتِ الذي يكونُ فيه، وما عَلِمَ أنَّه لا يكونُ لم يُرِدْ أن يكون، فلا يَحدُثُ في العالم شىءٌ إلا بمشِيئتِهِ ولا يُصيبُ العبدَ شىءٌ من الخيرِ أو الشرّ أو الصحةِ أو المرضِ أو الفقْرِ أو الغِنى أو غيرِ ذلك إلا بمشيئةِ الله تعالى، ولا يُخطئ العبدَ شىءٌ قدَّرَ الله وشاءَ أن يصيبَهُ، فقد وَرَدَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ بعضَ بناتِهِ: "ما شاءَ الله كانَ وما لم يشأ لم يَكُن" رواهُ أبو داودَ في السُّنَنِ ثمَّ تَواتَرَ واستفاضَ بين أفرادِ الأمَّةِ.
وَرَوى البيهقيُّ رحمَه الله تعَالى عن سيّدِنا عَليٍّ رضيَ الله عنْه أنَّه قالَ: "إنَّ أحَدَكُم لَنْ يَخْلُصَ الإيمانُ إلى قَلبِه حتّى يَستَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أنَّ مَا أصَابَه لم يَكُن لِيُخطِئَهُ ومَا أخطأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، ويُقِرَّ بالقَدَرِ كلِّهِ". أيْ لا يَجوزُ أن يُؤْمنَ ببعْض القَدَرِ ويَكْفُرَ ببعضٍ.
ورَوَى أيْضًا بالإسْنادِ الصّحيحِ أنَّ عمرَ بنَ الخَطّاب كانَ بالجَابيةِ - وهي أرْضٌ من الشَّام - فقامَ خطيبًا فَحَمِدَ الله وأثْنَى عليه ثمَّ قالَ "من يَهْدِ الله فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ"، وكان عندَهُ كافرٌ من كفّارِ العجَم من أهْلِ الذّمّةِ فقال بلُغَتِهِ "إنَّ الله لا يُضِلُّ أحدًا"، فقالَ عُمَرُ للتَّرجُمان "ماذا يقولُ"؟ قال إنّه يقولُ إنّ الله لا يُضِلُّ أحدًا، فقالَ عمرُ "كذَبتَ يا عَدُوَّ الله ولَولا أنَّكَ من أهل الذّمّةِ لضَرَبتُ عنُقَكَ هُوَ أضَلَّك وهُوَ يُدخِلُكَ النَّارَ إن شاءَ" .
وَرَوَى الحَافِظُ أبُو نُعَيْم عن ابنِ أخي الزُّهْرِيّ عن عمّه الزُّهريّ أنّ عُمرَ بنَ الخطابِ كان يحبُّ قصيدةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ التي مِنها هذِه الأبْياتُ، وهيَ: [الرمل]
إِنَّ تَقْوى ربّنَا خَيرُ نَفَلْ وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ
أحمَدُ الله فَلا نِدَّ لهُ بيَدَيْهِ الخيرُ ما شَاءَ فَعلْ
مَنْ هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَدى ناعِمَ البَالِ ومَنْ شَاءَ أضَل
ومَعنى قولِه "إِنَّ تَقْوى ربّنا خَيرُ نفَل"، أي خَيرُ ما يُعطاه الإنسانُ.
ومَعْنى قَولِه "وبإذن الله رَيْثي وعَجَل"، أي أَنّه لا يُبطِئ مُبْطِئ ولا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إلا بمشِيئَةِ الله وبإذنِه. وقَوْلِه "أحْمَدُ الله فَلا نِدَّ لَهُ"، أيْ لا مِثْلَ له. وقولِه "بيديه الخَيْرُ"، أيْ والشَّرُّ. وإنَّما اقتَصَرَ على ذِكر الخَير من بابِ الاكتِفاءِ كقَولِه تعالى ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ (81)﴾ [سورة النحل]، أي والبردَ لأن السرابيلَ تقي منَ الأمرينِ ليسَ منَ الحرّ فقط.
وقولِه "ما شَاءَ فَعَل"، أي ما أرادَ الله حُصولَهُ لا بُدَّ أن يَحصُلَ وما أرادَ أن لا يَحصُلَ فَلا يَحْصُلُ. وقولِه "من هَداهُ سُبُلَ الخَيْرِ اهتَدَى"، أي من شَاءَ الله له أن يكونَ على الصّراطِ الصَّحيحِ المستَقيمِ اهتَدَى. وقولِه "ناعِمَ البالِ"، أي مُطمئنَّ البَالِ. وقولِه "ومَنْ شاءَ أضَلّ"، أي مَن شَاءَ له أن يكونَ ضَالا أضَلَّهُ.
وروى البيهقيُّ عن الشافعيّ أنّه قَالَ حينَ سُئِل عن القَدَرِ: [متقارب تام]
ما شِئتَ كانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خَلقتَ العبادَ على ما علمتَ ففي العلمِ يجري الفَتَى والمُسِن
على ذا منَنْتَ وهذا خذلْتَ وهذا أَعنتَ وذا لم تُعِنْ
فمنهم شَقيٌّ ومنهم سَعيدٌ وهذا قبيحٌ وهذا حَسَن
فتبيّنَ بهذا أنَّ الضّميرَ في قولِه تعالى ﴿ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء (93)﴾ [سورة النحل] يعودُ إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القَدريّةُ بدليلِ قولِه تعالى إخبارًا عن سيّدنا موسى: ﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء (155)﴾ [سورة الأعراف].
وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ ينْتَسِبُونَ إلى أمِين شَيخُو الذينَ زَعِيمُهُمُ اليَومَ عَبدُ الهادِي البَاني الذي هُوَ بدمَشْقَ فَقَدْ جَعَلُوا مَشِيْئَةَ الله تَابِعَةً لمشِيئَةِ العَبْدِ حَيْثُ إِنَّ مَعْنى الآيةِ عِنْدَهُم إنْ شَاءَ العَبْدُ الاهتداء شاء الله له الهدى وإنْ شَاءَ العَبْدُ أَنْ يَضِلَّ أضَلَّهُ الله، فكَذَّبوا بالآيَةِ: ﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ (29)﴾ [سورة التكوير]. فَإنْ حَاوَلَ بَعْضُهُم أنْ يَسْتَدِلَّ بآيَةٍ منَ القُرءانِ لضِدّ هَذَا المَعْنَى قيلَ لَهُ القُرءانُ يَتَصادَقُ ولا يَتَنَاقَضُ فَليْسَ في القرءانِ ءايةٌ نَقِيضَ ءايةٍ ولَيْسَ هَذَا مِنْ بَاب النَّاسِخ والمَنْسُوخِ، لأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ العَقائِدَ ولَيْسَ مُوجِبًا للتّنَاقُضِ فالنسخُ لا يدخلُ في الأخبارِ إنما هو في الأمرِ والنهي. إِنَّما النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهاءِ حُكْمِ ءايةٍ سَابقَةٍ بحُكْمِ ءايَةٍ لاحِقَةٍ، عَلَى أَنَّ هَذِه الفِئَةَ لا تُؤمِنُ بالنَّاسِخِ والمَنْسُوخِ.
ومِنْ غَبَاوتِهِمُ العَجِيبَةِ أنَّهُم يُفَسّرُونَ قولَه تعالى ﴿وَعَلَّمَ ءادَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا (31)﴾ [سورة البقرة] بأسماء الله الحُسْنى، فَإنْ قِيلَ لَهُم لَوْ كَانَت الأَسْماءُ هي أسْمَاءَ الله الحُسْنَى لَمْ يَقُل الله ﴿فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ (33)﴾ [سورة البقرة] بَلْ لَقَالَ فَلَمّا أَنْبأَهُم بأَسْمائِي انقَطَعُوا، لَكِنّهُم يُصِرُّونَ على جَهْلِهم وتَحْرِيفِهمْ للقُرءانِ.
ورَوَى الحَاكِمُ رحمَهُ الله تَعالى أنَّ عَليَّ الرّضَى بنَ مُوْسَى الكَاظِمِ كانَ يَقْعُدُ في الرَّوْضَةِ وهُوَ شَابٌّ مُلْتَحِفٌ بمَطْرَفِ خَزّ فَيَسْأَلُهُ النَّاسُ ومَشَايخُ العُلَمَاءِ في المَسْجِدِ، فسُئِلَ عن القَدَرِ فقَالَ: قالَ الله عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾ [سورة القمر].
ثُمَّ قَالَ الرّضَى: "كَانَ أَبي يَذْكُر عَن ءابَائِهِ أَنَّ أَمِيْرَ المُؤمِنيْنَ عَليَّ بنَ أبِي طالبٍ كانَ يَقُولُ "إنَّ الله خَلقَ كُلَّ شَىءٍ بقَدَرٍ حَتَّى العَجْزَ والكَيْسَ وإلَيْهِ المشِيئَةُ وبِه الحَوْلُ والقُوّةُ" اهـ.
فَالعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إلى فِعْلِ ما يَصْدُرُ عَنْهُم باختِيَارِهم لا بالإكْراهِ والجَبْرِ كالريشةِ المعلقةِ تُمِيلُها الرياحُ يمنةً ويسرةً كما تقولُ الجبريةُ.
ولَوْ لَمْ يَشَأ الله عِصْيَانَ العُصَاةِ وكُفْرَ الكَافِرِيْنَ وإيمانَ المؤمنينَ وطَاعَةَ الطّائِعيْنَ لَمَا خَلَقَ الجنَّةَ والنّارَ.
ومَنْ يَنْسُبُ لله تَعالى خَلْقَ الخَيْرِ دُوْنَ الشَّرّ فَقَدْ نَسَبَ إلى الله تعالى العَجْزَ ولَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ للعَالَمِ مُدَبّرانِ مُدَبّرُ خَيْرٍ ومُدَبّرُ شرّ وهَذا كفرٌ وإشْراكٌ.
وهَذَا الرَّأْيُ السَّفيهُ من جِهَةٍ أخْرَى يَجْعَلُ الله تَعالى في مُلْكِه مَغْلُوبًا لأنّهُ على حَسَبِ اعتِقَادِه الله تَعَالى أرَادَ الخَيْرَ فَقَط فَيكُونُ قَدْ وقَعَ الشّرُّ مِنْ عَدُوّه إبْليسَ وأعْوانِه الكُفَّارِ رَغْم إرادته. ويَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ لمخَالفَتِهِ قَولَه تَعالى: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (21)﴾ [سورة يوسف] أيْ لا أحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيْئَتِهِ.
وحُكْمُ مَنْ يَنْسُبُ إلى الله تعَالى الخَيرَ ويَنْسُبُ إلى العَبْدِ الشّرَّ أدَبًا أنَّه لا حَرَجَ عليه، أمَّا إذَا اعْتَقدَ أنَّ الله خَلَقَ الخَيْر دُوْنَ الشَّرّ فَحكمُهُ التَّكفِيرُ.
واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ الله أنَّ الله تَعَالى إِذَا عَذَّبَ العَاصِيَ فَبِعَدْلِه مِنْ غَيْرِ ظُلْم، وَإِذَا أثَابَ المُطِيعَ فَبفَضْلِه مِنْ غَيرِ وجُوبٍ عليه، لأَن الظُّلْمَ إنَّما يُتَصَوَّرُ مِمَّن لهُ ءامِرٌ ونَاهٍ ولا ءامِرَ لله ولا نَاهيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ في مُلْكِه كَما يَشَاءُ لأَنَّهُ خالِقُ الأشياءِ ومَالِكُها،
وَقَدْ جَاءَ في الحَديثِ الصَّحِيح الذي رَوَاهُ الإمَامُ أحْمَدُ في مُسْنَدِه والإمَامُ أبُو دَاودَ في سُنَنِه وابن حبان عَن ابنِ الدَّيْلَميّ قَالَ: "أَتيْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ يَا أبَا المنْذِرِ، إنَّهُ حَدَثَ في نَفْسِي شَىءٌ مِنْ هَذا القَدَرِ فَحدّثْني لَعَلَّ الله يَنْفَعُني"، قَالَ "إنَّ الله لَوْ عَذَّبَ أهْلَ أرْضِهِ وسَمواتِه لعَذَّبَهُم وهُوَ غَيْرُ ظَالِم لَهُم وَلَوْ رَحِمَهُم كَانَت رَحْمَتُه خَيْرًا لَهُم مِنْ أعْمَالِهم، ولَو أنفَقْتَ مِثلَ أحُدٍ ذَهَبًا في سَبِيْل الله مَا قَبِلَهُ الله مِنْكَ حَتَّى تُؤمِنَ بالقَدَرِ، وتَعْلَمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لم يَكُن لِيُخْطِئَكَ ومَا أخْطأَكَ لم يكنْ ليُصِيبَكَ ولو مِتّ علَى غَيْرِ هَذا دَخَلْتَ النَّارَ". قَالَ: ثُمَّ أَتَيتُ عَبدَ الله بنَ مَسْعُودٍ فَحدَّثَني مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيفَةَ بنَ اليَمانِ فحدّثَني مِثلَ ذلكَ، ثمَّ أتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثابتٍ فحدّثني مثلَ ذلكَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ والبَيْهقيُّ في كِتَابِ القَدَرِ عنْ أبي الأسْوَد الدُّؤليّ قال: قالَ لي عِمْرانُ بنُ الحُصَيْنِ أَرأَيْتَ ما يَعْمَلُ النَّاسُ اليَومَ ويَكْدَحُونَ فِيهِ أشَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومَضَى علَيهِم مِنْ قَدَرٍ قدْ سَبَقَ أوْ فِيمَا يُسْتَقبَلُونَ بهِ مِمَّا أتَاهُم به نَبيُّهُم وثَبَتَتِ الحُجَّةُ علَيْهِم ؟ فقُلتُ بَلْ شَىءٌ قُضِيَ عَليهم ومضَى عَلَيْهِم، قَالَ فَقَالَ أفَلا يَكُونُ ظُلْمًا، قَالَ فَفَزعْتُ مِنْ ذلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وقُلْتُ كُلُّ شَىءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لا يُسْئَل عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ، قال فَقَالَ لي يَرْحَمُكَ الله إِنّي لَمْ أرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلاَّ لأَحْزِرَ عَقْلَكَ، إنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيا رَسُولَ الله فقَالا يا رَسُولَ الله أرَأيتَ ما يَعْمَلُ النّاسُ اليومَ ويَكْدَحُونَ فِيه أشَىءٌ قُضِيَ عَلَيهم ومَضَى عَلَيهم مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبقَ أَوْ فِيمَا يُستَقْبَلُون بِه ممّا أتَاهم بهِ نبِيُّهُم وثبَتَتِ الحُجَّةُ عَلَيهم؟ فَقَالَ « بَلْ شَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومضَى عَليْهِم »، ومِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ الله تَبَارَكَ وتَعَالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾ [سورة الشمس].
وصَحَّ حديثُ: « فمنْ وجَدَ خَيْرًا فليحمَدِ الله ومنْ وجدَ غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه » رواه مسلمٌ منْ حَديثِ أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَن الله عزَّ وجلَّ.
أمّا الأوَّلُ وهو من وجدَ خيرًا فلأَنَّ الله تعالى متفضّلٌ عليه بالإيجادِ والتَّوفيقِ من غيرِ وجوبٍ عليه، فليَحمد العبدُ ربَّهُ على تفضُّلِه عليه.
أمّا الثاني وهو من وجَدَ شرًّا فلأَنّهُ تعالى أبرزَ بقدرَتِهِ ما كانَ من ميلِ العبدِ السيّءِ فمن أضلَّهُ الله فبعدلِهِ ومن هَدَاهُ فَبِفَضلِهِ.
ولو أنّ الله خلقَ الخلقَ وأدخَلَ فريقًا الجنَّةَ وفريقًا النَّارَ لسابِقِ علمِه أنّهم لا يؤمنونَ لكانَ شأنُ المعَذَّبِ منهم ما وصفَ الله بقولِه: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134)﴾ [سورة طه].
فأَرْسَلَ الله الرسُلَ مُبَشّرينَ ومُنذرِينَ ليُظْهِرَ ما في استِعْدادِ العَبْدِ مِنَ الطَّوْعِ والإبَاءِ فَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بيّنةٍ ويَحْيَا مَنْ حَيَّ عن بَيّنَةٍ.
فأَخْبَرَنَا أنَّ قِسْمًا مِنْ خَلْقِه مَصِيْرُهُمُ النّارُ بأعْمالِهِمُ التي يَعْملُونَ باخْتِيَارِهم، وكانَ تَعالى عَالِمًا بعِلْمهِ الأزَليّ أنَّهُم لا يُؤمنُونَ، قالَ تَعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾ [سورة السجدة] أخْبَرَ الله تَعالى في هذِه الآيةِ أنَّهُ قالَ في الأزلِ ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾ وقَوْلُه صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ لأنَّ التّخلُّفَ أي التّغيُّرَ كذِبٌ والكذِبُ مُحالٌ على الله.
قال تعالى ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)﴾ [سورة الأنعام] أيْ ولكنَّهُ لم يشَأ هِدَايةَ جَمِيعِكُم إذْ لم يَسْبِق العِلْمُ بذَلِكَ، فالعِبادُ مُنْسَاقُونَ إلى فِعْلِ ما يَصدُرُ عَنْهُم باختِيارِهم لا بالإكرَاهِ والجَبْرِ.
واعْلَمْ أنَّ مَا ذَكَرنَاهُ منْ أَمْرِ القَدَرِ لَيْسَ مِنَ الخَوْضِ الذي نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنْهُ بقولِه: « إذَا ذُكِرَ القَدَرُ فأَمْسِكُوا » رَواهُ الطَّبَرانيُّ، لأنَّ هَذَا تفسِيرٌ للقَدَرِ الذي ورَدَ بهِ النَّصُّ، وأَمَّا المنْهِيُّ عَنْهُ فَهُو الخَوْضُ فِيه للوُصُولِ إلى سِرّهِ، فَقَد رَوَى الشَّافِعيُّ والحافِظُ ابنُ عسَاكِرَ عن عليّ رَضِيَ الله عَنهُ أنَّهُ قَالَ للسَّائِلِ عَن القَدَرِ "سِرُّ الله فلا تَتَكَلَّفْ"، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ قَالَ له: "أَمَّا إذْ أبَيْتَ فَإنَّهُ أمْرٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ لا جَبْرٌ ولا تَفْوِيضٌ".
واعْلَم أيضًا أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ ذَمَّ القَدَرِيّةَ وهُمْ فِرَقٌ، فمِنْهُم مَنْ يَقُولُ العبدُ خَالِقٌ لجمِيْع فِعْلِه الاخْتِيَاريّ، ومنْهُم مَنْ يَقُولُ هُوَ خَالقُ الشّرّ دُونَ الخيْرِ وكِلا الفرِيقيْنِ كفّارٌ، قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: « القَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ » وَفي رِوايةٍ لهذَا الحديثِ « لِكُلّ أمَّةٍ مَجُوسٌ، ومَجُوسُ هذِهِ الأُمَّةِ الذينَ يَقُولونَ لا قَدَرَ » رَواهُ أبُو داودَ عنْ حُذَيفَةَ عنِ النّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي كِتَابِ "القَدَرِ" للبَيهقِيّ وكتابِ "تَهذيب الآثَار" للإمامِ ابنِ جَريرٍ الطَّبَريّ رحمهُما الله تعالى عن عبدِ الله بنِ عمرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « صِنْفَان من أُمَّتي ليسَ لَهُما نَصِيبٌ في الإسْلامِ القَدَرِيَّةُ والمرجئَةُ ».
فالمعتزلةُ همُ القَدَرِيّةُ لأنَّهُم جَعلُوا الله والعَبدَ سَواسِيَةً بنَفْيِ القُدْرَةِ عَنْهُ عزَّ وجَلَّ على مَا يُقْدِرُ علَيه عَبْدَه، فَكأنَّهُم يُثْبتُونَ خَالِقِيْنَ في الحَقِيقةِ كَمَا أَثْبتَ المجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا للخَيْرِ هوَ عندَهُم النّورُ وخالقًا للشّرّ هو عندَهُمُ الظَّلامُ.
والهِدَايَةُ علَى وَجْهَينِ:
أحدُهُما إبَانَةُ الحَقّ والدُّعاءُ إلَيهِ، ونَصْبُ الأَدِلَّةِ عليه، وعلَى هذَا الوَجْهِ يَصِحُّ إضَافَةُ الهِدَايةِ إلى الرُّسُلِ وإلَى كُلّ دَاعٍ لله كَقَولِه تَعالى في رَسُولِه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)﴾ [سورة الشورى]. وقَولِهِ تَعَالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17)﴾ [سورة فصلت].
والثَّاني مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ الله تعالى لعِبادِه، أيْ خَلْقِ الاهتداءِ في قُلوبِهم كقَوْلِه تعَالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا (125)﴾ [سورة الأنعام].
والإضْلالُ خَلْقُ الضَّلالِ في قُلُوبِ أهْلِ الضَّلالِ فالعبادُ مشيئَتُهم تابعةٌ لمشيئةِ الله قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ (30)﴾ [سورة الإنسان].
وهذه الآيةُ من أوضحِ الأدلةِ على ضلالِ جماعَةِ أمين شيخو لأنهم يقولونَ إن شاءَ العبدُ الهدايةَ يهديهِ الله وإن شاءَ العبدُ الضلالَ يضلهُ الله، فماذا يقولونَ في هذه الآيةِ ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ (125)﴾ فإنَّهَا صريحةٌ في سبقِ مشيئةِ الله على مشيئةِ العبدِ لأنَّ الله نَسَبَ المشيئةَ إليه وما ردَّهَا إلى العبادِ. فأولئكَ كأنهم قالوا من يُرد العبدُ أن يشرحَ صدرهُ للإسلامِ يشرح الله صدرَهُ، ثم قولُهُ ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ (125)﴾ فلا يُمكِنُ أن يرجعَ الضميرُ في يُرد أن يُضلهُ إلى العبدِ لأن هذا يجعلُ القرءانَ ركيكًا ضعيفَ العبارةِ والقرءانُ أعلى البلاغَةِ لا يوجَدُ فوقَه بلاغةٌ، فبانَ بذلكَ جهلُهُم العميقُ وغباوَتُهم الشديدةُ. وعلى مُوجَبِ كلامِهم يكونُ معنَى الآية ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ (125)﴾ أن العبدَ الذي يريدُ أن يهديَهُ الله يشرحُ الله صدرَهُ للهُدَى وهذا عكسُ اللفظِ الذي أنزلَهُ الله، وهكذا كانَ اللازمُ على موجَبِ اعتقادِهم أن يقولَ الله والعبدُ الذي يريدُ أن يضلّهُ الله يَجعَل صدرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا، وهذا تحريفٌ للقرءانِ لإخراجِهِ عن أساليبِ اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرءانُ وفَهِمَ الصحابةُ القرءانَ على موجَبِها، والدليلُ على أنهم يفهمونَ القرءانَ على خلافِ ما تفهمهُ هذه الفرقةُ اتفاق المسلمينَ سلفُهُم وخَلَفُهُم على قولِهِم "ما شاءَ الله كانَ وما لم يشأ لم يَكُن".
https://www.islam.ms/ar/?p=92