كتاب الحكم الرفاعية
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة الحكم الرفاعية للامام أحمد بن علي الحسيني الرفاعي (512 - 578 هـ) رضي الله عنه
روى الشيخ علي أبو الفضل الواسطي كتاب الحكم عن نسخة خطية وجدها في خزانة الشيخ الجليل الشريف عبد السميع الهاشمي العباسي كتبها السيد أحمد إلى الشريف المذكور بعد أن طلب منه النصيحة وإرشاده إلى طريق الحق والصواب والعمل الصالح فكتب السيد أحمد له كتابا طلب منه حفظه والعمل به. والكتاب هو :
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. من العبد اللاش أحيمد إلى الشيخ المحتشم أخينا عبد السميع الهاشمي كان الله لنا وله وللمسلمين آمين.
أي أخي، أوصيك بتقوى الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأحب أن تحرص على نصيحتي هذه، فهي نافعة لك ولأمثالك إن شاء الله وإياك أن تودعها غير أهلها وتظلمها. أي عبد السميع:
الفقير إذا انتصر لنفسه تعب، وإذا سلم الأمر إلى الله تعالى نصره من غير عشيرة ولا أهل، العقل كنز الفوائد وكيمياء السعادة، العلم شرف في الدنيا وعز في الآخرة، ما أقام مع المستعارِ إلا المحجوب، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس وكم أذهبت من دين. لفظتان ثلمتان في الدين: القول بالوحدة والشطح المجاوز حد التحدث بالنعمة. دفتر حال الرجلِ أصحابه. تعب الناس وحسابهم على الرئاسة والشهوة وفيهما الغايات. كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة.
غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده بلا كيف ولا مكان. (أي أنَّ أقصى ما يصل إليه العبد من المعرفة بالله الاعتقادُ الجازِمُ الذي لا شك فيه بوجود الله تعالى بلا كيف ولا مكان، فقوله: بلا كيف، صريح في نفي الجسم والحيز والشكل والحركة والسكون والاتصال والانفصال والقعود عنه تعالى، فالكيفُ يشمل كلَّ ما كان من صفات المخلوقين فمَنْ أيقن بأن الله موجود بلا كيف ولا مكان فقد وصل إلى غاية ما يبلغ الإنسان من معرفة الله تبارك وتعالى.)
ثقل مرضِ الموت أول قناطر المعرفة بالله عند المحجوبين ، ولهذا قيل لنا: موتوا قبل أن تموتوا ، حضرة الموت تكشف الحجب كما ورد ، الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
التوحيد وجدان في القلب يمنع عن التعطيل والتشبيه.
رح وتعال. كلك خيال . إنزل يا مسكين عن فرس عجبك . رب عثرة أوصلت الحفرة. رب علم ثمرته جهل ، ورب جهلِ ثمرته علم . كيف يصح لك عز العلم وأنت كسوة علمك ثوب الذل .
لا تظن أن صبغك يستر شيبك ، غيره وما ستره ، ولو خطى الرجل من قاف إلى قاف كان جلوسه أفضل.
كل حال تحوله فيه ، وكل ظاهر به ما يخفيه . من ادرع بدرع الصبر سلم من سهام العجلة ، الرجل المتمكن إذا نصب له سنان على أعلى جبل شاهق في الأرض ، وهبت عليه رياح الليالي الثمان ما غيرت منه شعرة واحدة .
الكاذب يقف مع المبتدعات والعاقل غايته وراءها ، من كمل أنفت نفسه من كل شئ غير ربه. الخلق كلهم لا يضرون ولا ينفعون إلا بمشيئة الله.
الاطمئنان بغيره تعالى خوف ، والخوف منه اطمئنان من غيره. " اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له.
الصوفي : من صفا ، فلم ير لنفسه على غيره مزية. كل الأغيار حجب قاطعة ، فمن تخلص منها وصل.
الوقت سيف يقطع من قطعه، علامة العاقل : الصبر عند المحنة، والتواضع عند السَّعَة ، والأخذ بالأحوط ، وطلب الباقي سبحانه وتعالى. علامة العارف : كتمان الحال ، وصحة المقال ، والتخلص من الآمال. الدنيا والآخرة بين كلمتين: عقل ودين.
العلم ما رفعك عن رتبة الجهل، وأبعدك عن منزل العزة، وسلك بك سبيل أولي العزم. الشيخ من إذا نصحك أفهمك، وإذا قادك دلك ، وإذا أخذك نهض بك.
الشيخ من يلزمك الكتاب والسنة ، ويبعدك عن المحدثة والبدعة. الشيخ ظاهرة الشرع ، وباطنه الشرع. الطريقة : الشريعة ، لوث هذه الخرقة كذاب قال: الباطن غير الظاهر ! العارف يقول : الباطن باطن الظاهر، وجوهره الخالص.
القرآن بحر الحكم كلها ولكن أين الأذن الواعية ؟! رنة النجاح تسمع عند قرع باب الرضا من الله.
ارض عن الله ، ونم مرضيا ، ولك الأمن. ما شم رائحة المعرفة من افتخر : بأبيه وأمه ، وخاله وعمه ، وماله ، رجاله ليس عند الله على شيء من رأى نفسه ! لو عبد الله العابد بعباده الثقلين ، وفيه ذرة من الكبر فهو من أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثلاث خصال من كن فيه لا يكون وليا إلا إذا طهره الله منهن : الحمق ، والعجب ، والبخل. أكذب الناس على الله والخلق : من رأى نفسه خيرا من الخلق [المسلين] ! كل الظلم : التعالي على الناس . الظلم حرص الرجل على المراتب الكاذبة الدنيوية ، ومنها أن يحب الارتفاع على أخيه بكلمه أو جلسة لا حق له به ، وعلى ذلك تقاس المراتب ! من أخذ الناس بقوته القاهرة ترك في قلوبهم الضغائن عليه كيف كان ! ومن أخذ الناس بانكساره ترك في قلوبهم الاعتراف له، عز أو هان. نعم الرفيق في بلاد الله تقوى الله ونعم المزاح الإخلاص. لن يصل العبد إلى مرتبة أهل الكمال ، وفيه بقية من حروف : أنـا.
الشطاح يقف مع شطحه حالة الشطح ، إذا لم يسقط والكامل لا يشتغل عن خدمته. الدعوى : بقية رعونة في النفس ، لا يحتملها القلب فينطق بها لسان الأحمق !
لا تجعل رواق شيخك حرما وقبره صنما وحاله دفّة المكدية. الرجل من يفتخر به شيخه ، لا من يفتخر بشيخه.
إياك والقول بالوحدة التي خاض بها بعض المتصوفة.
إياك والشطح ، فإن الحجاب بالذنوب أولى من الحجاب بالكفر : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن شاء).
إذا رأيت الرجل يطير في الهواء فلا تعتبره ، حتى تزن أقواله و أفعاله بميزان الشرع.
إياك والإنكار على الطائفة في كل قول وفعل سلم لهم أحوالهم ، إلا إذا ردها الشرع فكن معه.
التكلم بالحقائق قبل هجر الخلائق من شهوات النفوس. من عدل عن الحق إلى الباطل تبعا لهوى في نفسه، فهو من الضلال بمكان.
أول أبواب المعرفة : الاستئناس بالله سبحانه وتعالى ، والزهد أول قدم القاصدين إلى الله عز وجل. من مات محبا مات شهيدا، ومن عاش مخلصاً عاش سعيداً ، وكلا الأمرين بتوفيق الله تعالى.
من سلك الطريق بنفسه أعيد قسراًَ ، هذه الطريقة لا تورث عن الأب والجد إنما هي طريقة العمل والجد ، والوقوف عند الحد وذر الدموع على الخد ، والأدب مع الله تعالى. ظن بعض الجهلة أن هذه الطريقة تنال بالقيل والقال ، والدرهم والمال، وظواهر الأعمال ! لا والله ، إنما نيلها بالصدق والانكسار ، والذل والافتقار وإتباع سنة النبي المختار ، وهجر الأغيار. من اعتز بذي العزة عز ومن اعتز غيره وقف معه بلا عز !
كتاب الله آية جامعة اندرجت فيها الآيات الربانيات. من أنعم الله عليه بفهم بواطن كتابه، والتزام ظاهر الشرع، فقد جمع بين الغنيمتين، ومن أخذ برأيه ضل، وانقطع عن الباطن والظاهر.
ذكر الله جنة من كل نازلة سماوية ، وحادثة أرضية.
من الحكمة: أن تودع المعروف أهله ، ومن الصدق : أن لا تمنعه أهله ، وثمرة الصنيعين من الله تعالى. إذا أودعت معروفا فلا تكفره فإنه ثقيل عند الله.
ما أفلح من دس، ولا عز من ظلم، ولا يتم حال لباغ ولا يخذل عبد رضي بالله وكيلاً ونصيراً.
مشكك لا يفلح ، ودساس لا يصل ، وبخيل لا يسود وحسود لا ينصر ، وكلب الدنيا لا يستولى على لحم جيفتها والله محول الأحوال.
غارة الله تقصم وتقهر ، وتدمر وتفعل ، وتقلب حال مملكة كسروية لكسر قلب عبد مؤمن انتصر بالله.
كل الناس يرون أنفسهم فيغان على قلوبهم ، فالمحمدي يستغفر ويدفع الحجاب والمحجوب يزداد طمسا على طمس، والمعصوم من عصمه الله.
لا دواء للحمق ولا دافع للحق ولا صحبة للمغرور، ولا عهد للغادر ولا نور للغافل ، ولا إيمان لمن لا عهد له.
علامة العدو : أن يرغب بما في يدك، وأن يرغب عنك إذا قل مالك ، وأن يستل سيف لسانه بمغيبتك ، وأن يكره أن تمدح ! فدعه لله ، فهو عثور على رأسه ، كالنار تأكل حطبها : (وكفى بالله نصيراً) وعلامة الصديق : أن يحبك لله فالصق به ، فإن أهل المحبة لله قليل.
الولي من تمسك كل التمسك بأذيال النبي صلى الله عليه وسلم ورضي بالله وليا. من اعتصم بالله جل ومن اعتمد على غير الله ذل ومن استغنى بالأغيار قل، ومن اتبع غير طريق الرسول ضل. العلم نور ، والتواضع سرور.
مائدة الكرام يجلس عليها البر والفاجر.
من علم أن الله يفعل ما يريد ، فوض الأمر إلى الفعال المقتدر ، وفرش جبينه على تراب التسليم.
إذا أمعنت النظر في دوائر الأكوان : رأيت العجز محيطا بها ، والافتقار قائما معها ، ولربك الحول والقول ، والغنى والقدرة ، وحده لا شريك له. مزالق الأقدام : الدعوى ، ورؤيا النفس.
أين أنت يا عبد الرياسة ، أين أنت يا عبد الدعوى ؟ أنت على غرة ، تنح عن رياستك وغرتك ، والبس ثوب عبديتك وذلتك. كل دعواك كاذبة ، وكل رياستك وغرتك هزل. القول الفصل: (قل كل من عند الله).
سر بين الحائطين : حائط الشرع ، وحائط العمل. اسلك طريق الاتباع ، فإن طريق الاتباع خير وطريق الابتداع شر ، وبين الخير والشر بون بيّن.
مرغ خدك على الباب، وافرش جبينك على التراب ، ولا تعتمد على عملك ، والجأ إلى رحمته تعالى وقدرته ، وتجرد منك ومن غيرك ، علك تلحق بأهل السلامة: (الذين آمنوا وكانوا يتقون)
بركة العبد في الوقت الذي يتقرب به إلى الله عز وجل.
الأولياء لهم الحرمة عند الله، ولو لا أن جعل لهم هذه القسمة لما اختصهم دون غيرهم بولايته سبحانه وتعالى ، هؤلاء حزب الله ، جيشه العرمرم الذي أيد الله به الشريعة ونصر به الحقيقة ، وصان به شرف نبيه صلى الله عليه وسلم وألحقه به. قال تعالى : (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبع من المؤمنين).
المظاهر البارزة منها ما قيض للخير ، ومنها ما قيض للشر، والمتصرف فيها خالقها.
لا تسقط همتك بيد همك فتنقلب عن المطالب العلية ، فإن الهم كافور الهمة والإقدام عنبرها ، والمقضي كائن وغيره لا يكون.
كل من اكتحل بإثمد التوفيق علَمِ علْمَ اليقين ، وحق اليقين : أن المباطن والمظاهر تحت قهر الباطن الظاهر.
صفاء القلب والبصيرة ، ونفاذ نور البصر يكون من قلة الطعام والشراب ، لأن الجوع يزيل الكبير والتعاظم والتجبر ، وبه تعذيب النفس حتى تصير مشغولة بعبادة الله، وما رأيت شيئا يكسر النفس مثل الجوع قط ، وأما الشبع فإنه يورث قسوة القلب وظلمته ، وعدم نفاذ نور البصيرة ، وتكثر بسببه الغفلة.
القلب المنور يميل إلى صحبة الصلحاء والعارفين ، وينفر من صحبة المتكبرين والجاهلين.
معاملة عباد الله بالإحسان، توصل العبد إلى رضا الديان ، والصلاة على رسول صلى الله عليه وسلم تسهل المرور على الصراط ، وتجعل الدعاء مستجابا ، والصدقة تزيل غضب الله والإحسان للوالدين يهون سكرات الموت.
صحبة الأشرار ، والحمقى والظلمة وأهل الحسد : ظلمة سوداء.
العارف من كان على جانب كبير من سلوك طريق الحق ، مع المواظبة والاستقامة عليه فلا يتركه دقيقة واحدة.
الصوفي يتباعد عن الأوهام والشكوك ، ويقول بوحدانية الله تعالى في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، لأنه ليس كمثله شيء، يعلم ذلك علما يقينا.
الصوفي لا يسلك غير طريق الرسول المكرم صلى الله عليه وسلم فلا يجعل حركاته وسكناته إلا مبنية عليه.
الصوفي لا يصرف الأوقات في تدبير أمور نفسه، لعلمه أن المدبر: الحق عز وجل ، ولا يلجأ في أموره ويعول على غير الله تعالى.
الصوفي إذا خالط البعض فليختر لنفسه صحبة الصالحين ، فإن المرء على دين خليله.
نفس الفقير مثل الكبريت الأحمر لا يصرف إلا بحق لحق.
من لم يزن أقواله وأفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ، ولم يتهم خواطره لم يثبت عندنا في ديوان الرجال.
من استقام بنفسه استقام به غيره كيف يستقيم الظل والعود أعوج ؟
الفقير إذا كسر نفسه ، وذل وانداس ، واحترق بنار الشوق والصدق، وثبت في ميدان الاستقامة بين يدي الله تعالى، صار معدن الخيرات ، ومقصد المخلوقات، وصار كالغيث : أين وقع نفع، ويكون حينئذ رحمة وسكينة على خلق الله تعالى.
ربما اتبع الكاذب وهجر الصادق، وكثرت طقطقة النعال حول المغرورين ، وتباعد الناس عن المتروكين ، فلا تعجب من ذلك ، فإن حال النفس : تحب القبة المزينة ، والقبر المنقوش، والرواق الوسيع ، وتألف الشيخ الكبير العمامة ، الوسيع الكم ، الكثير الحشمة ! فسيِّر همة القلب لا همة النفس لكشف هذه الحجب، وقل لنفسك : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيرة وقد أثرت في جنبه الشريف ورأيت أهل بيته – رضوان الله وسلامه عليهم – لا طعام لهم ولا حشم ، ثم رأيت كسرى العجم على سريره المرصع بالجواهر واليواقيت ، وأهل بيته مستغرقين بالترف والنعيم ، محاطين بالخدم والحشم ، أين تكونين ؟ ومع أي صنف تنصرفين ؟ فلا بد، إن وفقها الله ، أن تحب معية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، فقد بهذا الشأن همة القلب إلى أهل الحال المحمدي تحسب في حزب الله : (ألا إن حزب الله هم المفلحون)
وإياك أن تنظر حال تقشفك شيئا ، فإن الجوع بلا معرفة وأدب محمدي ، وصف من أوصاف الكلاب.
تعلق الناس اليوم بأهل الحرف والكيمياء والوحدة والشطح ، والدعوى العريضة، إياك ومقاربة مثل هؤلاء الناس، فإنهم يقودون من اتبعهم إلى النار ، وغضب الجبار ، ويدخلون في دين الله ما ليس منه وهم من جلدتنا ، إذا رأيتهم حسبتهم سادات الدعاة إلى الله تعالى ، حسبك الله ، إذا رأيت أحدا منهم قل: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين).
جاهل من أهل هذه الخرقة يُلحق يدك بيد القوم، ويأمرك بذكر الله ، وملازمة الكتاب والسنة ، خير من تلك الطائفة كلها ، فر منهم كفرارك من الأسد ، كفرارك من المجذوم.
قال حذيفة رضي الله عنه : " كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، فقلت : فهل بعد ذلك من شر؟ قال : دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها . فقلت يا رسول الله صفهم لنا ؟ قال : هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت : فإن لم يكون لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك".
هذه وصية نبيك الأمين ، سيدنا وسيد العالمين ، عليه صلوات الله وسلامه ، فاحفظها واعمل بها. وإياك والتعزز بالطريق ، فإن ذلك من سوء الأدب مع الله والخلق وإنما بنى هذا الطريق على التذلل ، فإن القوم ذلوا حتى أتاهم الله بعز على من عنده ، وافتقروا حتى أتاهم بغنى من فضله.
واحذر صحبة الفرقة التي دأبها تأويل كلمات الأكابر ، والتفكه بحكاياتهم وما نسب إليهم ، فإن أكثر ذلك مكذوب عليهم، وما كان ذلك إلا من عقاب الله للخلق، لما جهلوا الحق وحرصوا على الخير! فابتلاهم الله بأناس من ذوي الجرأة السفهاء ، فأدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث ، تنزه مقام رسالته على الصلاة والسلام عنها ، من المرغبة والمرهبة ، والغامضة والظاهرة وسلط الله – أيضا – أناسا من أهل البدعة والضلالة فكذبوا على القوم وأكابر الرجال ، وأدخلوا في كلامهم ما ليس منه ، فتبعهم البعض ، فألحقوا بالأخسرين أعمال ا! فعليك بالله ، وتمسك للوصول إليه بذيل نبيه عليه الصلاة والسلام ، والشرع الشريف نصب عينيك وجادة الإجماع ظاهرة لك. لا تفارق الجماعة أهل السنة ، تلك الفرقة الناجية : واعتصم بالله، واترك ما دونه ، وقل في سرك – أي سيدي – قولي:
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
لا تعمل عمل أهل الغلو ، فتعتقد العصمة في المشايخ، نعم هم أدلاء على الله، ووسائل إلى طريقه ، يؤخذ عنهم حال رسول الله صلى الله عليه وسلم و(رضي الله عنهم ورضوا عنه)، نتوسل إلى الله برضا الله عنهم ، لا يخزي الله عباده الذين أحبهم، وهو أكرم الأكرمين.
اترك الفضول وانقطع عن العمل بالرأي ، وإذا أدركك زمان رأيت الناس فيه على ما قلناه ، فاعتزل الناس ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك ".
تخلق بخلق نبيك، كن لين العريكة ، حسن الخلق ، عظيم الحلم ، وفير العفو ، صادق الحديث، سخي الكف، رقيق القلب ، دائم البشر ، كثير الاحتمال والإغضاء ، صحيح التواضع، مراعيا للخلق، راعيا حق الصحبة ، متواصل الأحزان، دائم الفكرة ، كثير الذكر ، طويل السكوت ، صبوراً على المكاره، متكلا على الله ، منتصراً بالله ، محباً للفقراء والضعفاء، غضوبا لله إذا انتهكت محارم الله.
كل ما وجدت ، ولا تتكلف لما فقدت ولا تأكل متكئا والبس خشن الثياب كي يقتدي بك الأغنياء ، ولا تحزن لجديد ثيابك قلوب الفقراء ، وتختم بالعقيق ، ونم على فراش حشي بالليف، أو على الحصير ، أو على الأرض ، قائما بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، في الحركات والسكنات ، والأفعال ، والأقوال والأحوال.
حسِّن الحسن ، وقبح القبيح ، ولا تجلس ولا تقم إلا على ذكر ، وليكن مجلسك مجلس حلم وعلم ، وتقوى وحياء وأمانة، وجليسك الفقير ، ومؤاكلك المسكين.
ولا تكن سخابا ولا فحاشا ولا تتكلم إلا فيما ترجو ثوابه، وأعط كل جليس لك نصيبه، ولا تدخر عن الناس برك.
واحذر الناس ، واحترس منهم ، ولا تطو عن أحد منهم بشرك ، ولا تشافه أحد بما يكره.
وصن لسانك وسماعك عن الكلام القبيح ، ولا تنهر الخادم ، ولا ترد من سألك حاجة إلا بها، أو بما يسر من القول.
وإذا خيرت بين أمرين فاختر أيسرهما ، ما لم يكن مأثما.
وأجب دعوة الدّاع وتفقد أصحابك وإخوانك واعف عمن ظلمك ، ولا تقابل على السيئة بالسيئة، وقم الليل باكيا في الباب ، وطب بالله وحده ، {وكفى بالله وليا}.
قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: من شهد في نفسه الضعف : نال الاستقامة. وقال: أركان المروءة أربعة: حسن الخلق ، والتواضع ، والسخاء ، ومخالفة النفس. وقال : التواضع يورث المحبة ، والقناعة تورث الراحة. وقال : الكيس العاقل : الفطن المتغافل. وقال : إنما العلم ما نفع. فاشهد نفسك بالضعف والفقر تستقم ، وشيد أركان المروءة تحسب من أهلها ، وتواضع واقنع تصر محبوبا مستريحا ، وتغافل تكن كيسا. وخذ من العلم ما ينفعك إذا أقبلت على ربك فإن الدنيا خيال ، وكلها زوال ، والله محول الأحوال.
يا أيها المعدود أنفاسه لا بد يوما أن يتم العدد
لا بد من يوم بلا ليلة وليلة تأتي بلا يوم غد
راع شرع الله من دون انتصار إلى نفسك، آخذا بالإخلاص ، متجرداً من غرض نفسك ومرض قلبك ، وقبح ما قبحه الشرع ، وحسن ما حسنه الشرع، ولا يكن قولك وفعلك إلا لله.
وإذا لم تقم لك حجة شرعية على الرجل لا تأخذ الخلق أو تؤاخذهم بالشبهات ، عليك بحسن الظن ، فإن لله مع الخلق مضمرات أسرار لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
(ولكل وجهة هو موليها) فلتكن وجهتك المحجة البيضاء، شريعة سيد الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه: (وكفى بربك هادياً ونصيراً).
أبى العقل إلا إعقال ما بلغه بواسطة الفهم ، وأبى القلب إلا الترقي إلى ما فوق الفهم ، فاجعل همتك قلبية، وحكمتك عقلية تفلح.
في الكف عرق متصل بالقلب ، إذا أخذ به شيء من الدنيا تسري آفتها إلى القلب ! وهذه آفة عظيمة مخفية ، لا يطلع عليه الخلائق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حب الدنيا رأس كل خطيئة " ازهد في الدنيا ، وتباعد عن لذائذها. وإياك ونوم الليل كالدابة ، فإن لله في الليل تجليات ونفحات ، يغتنمها أهل القيام ، ويحرم ثمرتها أهل التلذذ بالمنام.
قل للمغرور بأمنه، المتلذذ بنومه، المشغول عن ربه:
يا نؤوم الليل في لذته إن هذا النوم رهن بسهر
ليس ينساك وإن نسيته طالع الدهر وتصريف الغير
إن ذا الدهر سريع مكره إن علا حط، وإن أوفى غدر
أوثق الناس به في أمنه خائف يقرع أبواب الحــذر
فأدب نفسك بالتقرب إليه بما يرضيه ، تُحسب من أهل تلك الحضرة ، بنص: " لا يزال عبدي يتقرب إليه بالنوافل " الحديث. هدى الله هو الهدى ، وكفى بالله وليا.
من تمشيخ عليك تتلمذ له ، ومن مد لك يده لتقبلها فقبل رجلة ، وكن آخر شعرة في الذنب ، فإن الضربة أول ما تقع في الرأس
إذا بغى عليك ظالم، وانقطعت حيلتك عن دفاعه، فاعلم أنك حينئذ وصلت بطبعك إلى صحة الالتجاء إلى الله تعالى، فاصرف وجهة قلبك عن غيره واسقط مرادك في بابه ، واترك الأمر إليه تنصرف إليك مادة المدد ، فتفعل لك ما لا يخطر ببالك ، وهذا سر التسليم وصدق الالتجاء إلى الله.
وإن ارتفعت همتك إلى الرضا بالقدر ، كما وقع للأمام موسى الكاظم ، سلام الله عليه ورضوانه حين اعتقله الرشيد – غفر الله له – وحمله من المدينة إلى بغداد مقيداً ، وحبسه ، فبقى في حبسه ، فلم يفرج عنه حتى مات رضي الله عنه ، وأخرج ميتا مسموما ، وقيده فيه، وما انحرف عن قبلة الرضا حتى مات راضيا عن الله .
فتلك مرتبة الفوز العظيم التي درجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر : (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقد اندرج أئمة أهل البيت – عليهم سلام الله ورضوانه – على الرضا الخالص، مع قوة الكرامة ورفعة القدر عند الله.
فقد صح أن عبد الملك بن مروان الأموي حمل الإمام علياً زين العابدين سلام الله عليه ورضوانه – من المدينة مقيداً مغلولا في أثقل قيود وأغلظ أغلال ! فدخل عليه الزهري – رحمه الله – يودعه ، فبكى ، وقال : وددت أني مكانك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : تظن أن ذلك يكربني ؟ لو شئت لما كان ، وإنه ليذكرني عذاب الله تعالى ، ثم أخرج يديه ورجليه من القيد ثم أعادها ، فعلم الزهري - رحمه الله – أن الإمام حل منزلة الرضا، ووصل مقام التسليم المحض، ودخل حضرة الفوز العظيم ، فطاب صدره ، وسلا حزنه.
فزن نفسك، فإن قدرت على المرتبة العليا- وهي رتبة الرضا – فافعل ، وإلا فانزل إلى المرتبة الثانية التي هي مرتبة صدق الالتجاء إلى الله مع قطع النظر عن تدبيرك ، وحولك وقوتك ، وكلك وجزئك ، وهو تعالى يفعل بك بنصره وقدرته فوق إرادتك وتدبيرك: (وكفى بالله نصيراً).
إذا هرعت إلى طاعة الله، والتجأت إليه، فاجعل وسيلتك حبيبه صلى الله عليه وسلم تسليماً ، وأكثر من الصلاة والسلام عليه مهما أمكنك ، وقف في باب الله بالعمل بسنته عليه الصلاة والسلام ، واسأل الله سبحانه معتمداً عليه تعالى ، مستعينا به متوكلاً عليه.
وإذا أُغلقت عليك الأبواب، فترقب من الفتاح فتح الباب، فما سد الخلق طريقا إلا فتحه الخالق، انفراداً بربويته، وتعززاً بألوهيته، فلا تقنط من رحمته، ولا تيأس من روحه، وعليك به (وكفى بالله وليا).
التوفيق في جميع الأحوال إنما هو من الله سبحانه وتعالى.
دع هم الحسود، فهمه بك فوق همك به، خل جانب الأحمق فكدرك به فوق كدره بنفسه.
لازم مجالس العقلاء، وخذ الحكمة أين رأيتها، فإن العاقل يأخذ الحكمة لا يبالي على أي حائط كتبت وعن أي رجل نقلت، ومن أي كافر سمعت. هذه الدنيا خلقت للعبرة ، والعبرة بكل ما فيها عقل ، فخذ بقوة عقلك العبرة من كل مأخذ ، واصرف نظرك عن محلها.
إياك والتقرب من أهل الدنيا ، فإن التقرب منهم يقسي القلب ، والتواضع لهم موجب لغضب الرب، وتعظيمهم يزيد في الذنوب.
اتخذ الفقراء أصحابا وأحبابا ، وعظمهم ، وكن مشغولا بخدمتهم ، وإذا جاءك واحد منهم فانتصب له على أقدامك وتذلل له.
وإذا وقعت خدمتك لدى الفقراء موقع القبول فاسألهم الدعاء الصالح ، واجتهد أن تعمر لك مقاما في قلوبهم، فإن قلوب الفقراء مواطن الرحمة، ومواقع النظر القدسي، وصف خاطرك من الرعونات البشرية.
ومن كان لك عليه حق أو له عليك حق، فداره حتى يعطيك حقك ، أو إلى أن تعطيه حقه ، وإن قدرت فسامح من لك عليه حق يعوض الله عليك. وكن مع الخلق بالأدب.
تب بكليتك من رؤية نفسك، ونسبك ، وأهلك ، فإن " من أبطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه".
قم بصلة رحم رسول صلى الله عليه وسلم ، عظم ذوي قرابته ، فإن طوق منته في أعناقنا، قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى).
خف الله، خف الله. رأس الحكمة مخافة الله. عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير هذه نصيحتي لك.
أي أخي ، أخذتني سكرة التعليم إلا أني جربت الزمان وأهله ، وعاركت النفس ، وخدمت الشرع ، وانتفعت بصحبة أهل الصفا. فاقبل نصيحتي، فإنه إن شاء الله نشأت بإخلاص عن حب لك. رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
أي عبد السميع ، اعمل بنصيحتي ولا ترني رجلا إن قال لك قائل : إن في مملكة الرحمن مخلوقا هو أضعف من هذا اللاش أحيمد فلا تصدقه ، بل أقول: يسر الله عليّ وعليك الطريق، وجعلنا وإياك من المصطفين الأخيار والمخلصين الأبرار ، أحباب الله ورسوله (وكفى بالله وليا) والحمد لله رب العالمين.
https://www.islam.ms/ar/?p=359