شرح العقيدة الطحاوية عقيدة السلف الصالح
بسم الله الرحمن الرحيم
الطحاوي (238 - 321هـ) هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر. ولد ونشأ في قرية طحا في المنيا بصعيد مصر، وتفقه على مذهب الشافعيّ، ثم تحول حنفيا، من أشهر كتبه العقيدة الطحاوية
قالَ العلاَّمةُ حُجَّةُ الإِسلامِ أبو جعفرٍ الوَرَّاقُ الطَّحاوِيُّ بمصرَ رحمَهُ اللهُ: هذا ذكْرُ بَيَان عَقِيدَة أَهل السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ المِلَّةِ: أَبي حَنيفَةَ النُّعْمانِ بنِ ثَابِتٍ الكُوفِي، وأَبي يوسُف يَعْقوبَ بنِ إبْراهيمَ الأنْصاريّ، وأَبي عبْدِ الله محمدِ بنِ الحسَنِ الشَّيبانيّ، رضْوانُ الله عَليهم أجمعينَ وما يعتقِدُونَ من أصُولِ الدّينِ ويدينُون به لربّ العَالمين.
الشرح: يقول الطحاوي إن هذه الرسالة هي ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة على حسب ما قرره أبو حنيفة وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، أي من حيث سبك العبارات أضع هذه الرسالة على أسلوب هؤلاء الأئمة الثلاثة، أما من حيث المعنى فهو مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة كلهم بلا استثناء، وأهل السنة والجماعة هم الصحابة ومن تبعهم في المعتقد ولو كان من حيث الأعمال مقصراً إلى حد كبير. ونص الطحاوي على ذكر هؤلاء الفقهاء لأنه كان في الفروع على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وليست هذه العقيدة خاصة بهؤلاء بل هي مُعتقد أهل السنة والجماعة. وقوله في افتتاح هذه العقيدة: "هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة" إنما قال ذلك لقوله تعالى لنبيه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف:108)، فالسنة عبارة عن الطريقة، ومعنى "عَلَى بَصِيرَةٍ" أي أن كل ما جاء به الإسلام لا يردُّه العقل الصحيح، وأما الجماعة فهم الذين اتبعوه على ملته
قال المؤلف رحمه الله: نَقُولُ في تَوحِيدِ الله مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفيقِ الله: إنَّ الله واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ
الشرح: قوله: "نقول في توحيد الله" ابتدأ بالتوحيد لأنه أول خطاب يجب على المكلفين، وإليه دعت الأنبياء والرسل، وبه نزلت الكتب السماوية، أما الرسل والأنبياء الذين قامت على أيديهم المعجزات الخارجة عن وُسع الخلائق كصيرورة النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وانقلاب عصا موسى ثعباناً يسعى، وتسخير الريح والجن والطير لسليمان، وتسبيح الجبال وتليين الحديد لداود، وخروج الناقة من الصخرة لصالح، وإحياء الموتى لعيسى، وانشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع وكلام الشاة المسمومة وشهادة الضبّ والذئب، وتسبيح الطعام في الكف لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين، كلهم دعوا إلى توحيد الله بدليل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25).
وقوله: "معتقدين" فيه نفي للنفاق وتحقيق للإيمان، لأنّ النفاق يجتمع مع الاعتراف اللفظي لكن لا يكون مقترناً بالاعتراف القلبي على وجه الجزم، فالإيمان والتصديق والاعتقاد يكون كل ذلك بالقلب، قال تعالى فيمن أقرّ باللسان دون القلب: (قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (المائدة:41) وفي قوله "معتقدين" بيان أن القول وحده لا يكفي عند الله بدون اعتقاد، فمن نطق بالشهادتين ولم يذعن في نفسه بمعناهما فهو عندنا مسلم أما عند الله فليس بمسلم. وقوله: "بتوفيق الله" لأن الوصول إلى توفيق الله يكون بتوفيق الله وهدايته وهو مذهب أهل السنة والجماعة على ما قال ربنا عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت:69) أي إلى توفيقنا وهدايتنا. ومعنى: "الواحد" في حق الله تعالى فُسر بأنه الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
قال المؤلف رحمه الله: ولا شَيءَ مِثلُهُ
الشرح: أي لا يوجد شيء يماثله من جميع الوجوه أو بعض الوجوه. لأن المماثلة إما أن تكون من جميع الوجوه وهي المرادة عند الإطلاق، وإما من بعض الوجوه وهي المرادة ببعض العبارات، وهي أن يقال فلان مثل فلان إذا أريد به أنه يماثله في بعض الوجوه وهذه مماثلة جزئية، أما الإطلاق الوارد بحيث يسد مسده يقال فلان مثل فلان وهذه مماثلة مطلقة. وقد تطلق المماثلة على ما هو أقل من ذلك وهذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا يقال الله يماثل كذا في كذا. أما الاتفاق باللفظ فليس ذلك مماثلة، فليس من المماثلة أن يقال عن الله حي وعن المخلوق حي، أو الله موجود وفلان موجود، فالله تعالى وجوده ليس كوجودنا الحادث، وجوده بذاته لا يحتاج إلى شيء، وكل شيء يحتاج إليه. فالمثلية المنفية عن الله المثلية في المعنى، فبطل قول الفلاسفة إنه لا يقال عن الله حيّ ولا دائم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، وإن زعم بعضهم أن هذا يقتضي المماثلة لأن هذا ليس مماثلة بل اتفاق باللفظ، فالله تعالى يطلق عليه هذه العبارة: موجود، حيّ، سميع، بصير، متكلم، مريد، عالِم، ويطلق هذا اللفظ على غيره لأن هذا اتفاق في اللفظ لا في المعنى فلا يقتضي المماثلة والمشاركة. تنبيه: المثلان هما الأمران الذي يسد كل واحد منهما مسدّ الآخر، وهذا في الإطلاق الغالب، إذا كان هناك عالمان وكل منهما يقوم مقام الآخر يقال عنهما مثلان. فائدة: علم التوحيد يقال له علم الكلام وذلك لأن أكثر ما يُبحث فيه في الماضي مسئلة الكلام لأنه صارت معارك كبيرة بين أهل السنة وبين المعتزلة، حتى إن بعض الخلفاء العباسيين أخذ بكلامهم فصار يقول القرءان مخلوق ومن لم يقل القرءان مخلوق يُعذبه وذلك مما أخذه من المعتزلة ولم يأخذ عنهم غيرها كالقول بخلق الأفعال. المعتزلة كانوا يقولون بنفي الكلام الذاتي، والحشوية وهو المجسمة كابن تيمية وأسلافه ومن تبعه بعد ذلك، هؤلاء يقولون الله له كلام وكلامه حروف وأصوات تحدث ثم تنقضي ولا يزال على هذا الحال، فبزعمهم هذا جعلوه مثل البشر، تعالى الله عن ذلك. وأهل الحق ثبتوا على معتقدهم وهو أن الله متكلم بكلام هو صفة أزلية أبدية ليس بحرف ولا صوت، وأنزل كتباً على بعض أنبيائه تُقرأ بحروف هي عبارات عن كلامه الذاتي الذي ليس حرفاً ولا صوتاً، لأنه لولا هذا الفرق بين الكلام الذي هو عبارة عن هذا اللفظ المنزل والكلام الذي هو صفة أزلية القائم بذات الله لكان من سمع هذا اللفظ كليم
قال المؤلف رحمه الله: ولا شيء يُعجزه
الشرح: هذا فيه رد على قول المعتزلة إن الله لا يستطيع أن يخلق مقدور العبد لأن الله أعطاه القدرة عليه فصار عاجزاً أما قبل ذلك فكان قادراً عليه، والقائلون بهذا لا يجوز الاختلاف في تكفيرهم. وقد التبس على كثير من الناس هذا فيقولون المعتزلة لا يكفرون على القول الأصح، فليس المقصود بترك بعض العلماء تكفير بعض المعتزلة هؤلاء ومن كان على شاكلتهم
قال المؤلف رحمه الله: ولا إله غيره
الشرح: الإله من له الإلهية وهي قدرة الإبداع والاختراع، فلا يُطلق لفظ الإله بحسب الأصل على غير الله تعالى إنما المشركون استعاروا هذا اللفظ وأطلقوا على معبوداتهم كلمة الإله هكذا ذكر الفيومي اللغوي في كتابه المصباح المنير حيث قال: "الإله المعبود وهو الله سبحانه وتعالى، ثم استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى" اهـ، وأما المبرِّد فقال: "الإله من له الإلهية، والإلهية قدرة الإبداع والاختراع" اهـ. فلا يجوز أن يقال الإله هو مَن يُعبد بحق أو بباطل. وقد عدّ الإمام أبو منصور البغدادي الإله من أسماء الله. وكل هذا حجّة على هؤلاء الذين يزعمون أن الإله معناه المعبود إن كان بحق أو بباطل. أما إذا قُيّد فلا إشكال فإذا قيل للكفار هذا إلههم بمعنى هذا معبودهم لا بمعنى الموافقة لهم بل بمعنى الذم لهم
قال المؤلف رحمه الله: قديمٌ بلا ابتداء
الشرح: القديم معناه الذي ليس لوجوده ابتداء هذا بمعنى القديم إذا أطلق على الله ويرادفه الأزلي، أما إذا أطلق على غير الله فهو ما توالت عليه السّنون الطوال، وقد يقال ما تقادم عهده فيقال بناءٌ قديم
قال المؤلف رحمه الله: دائمٌ بلا انتهاء
الشرح: هذه عبارة عن بقائه تعالى وهو بقاء لذاته ليس بقاء بغيره كالجنة والنار، فلا يلحقه عدم. قال المؤلف رحمه الله: لا يفنَى ولا يَبيد: الشرح: هذا تفسير لقوله باقٍ، فلا يلحق القديم فناء
قال المؤلف رحمه الله: ولا يكون إلا ما يريد
الشرح: أي لا يدخل في الوجود من الأعيان مهما صغرت والحركات والسكون والخواطر وغير ذلك مما سوى الله إلا بإرادته ومشيئته، فلا فرق بين ما كان خيراً من أعمال العباد وما كان منها شراً لأن الكل داخل في الإمكان، ولو كانت إرادة الله خاصة بالخير منها لاقتضى ذلك مخصِّصاً خصَّص إرادته بالخير، والله منزّه عن المخصِّص لأن الخير والشر مستويان في الإمكان. والإرادة هنا بمعنى المشيئة ليس بمعنى المحبة، فإرادة المحبة كقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:185) أي يحب لكم اليسر لأنه ما جعل في دينكم من حرج.
قال المؤلف رحمه الله: لا تبلغه الأوهام
الشرح: الأوهام جمع وهم، أي لا تتصوره أوهام الخلائق أي تصوراتهم، فالإنسان وهمه يدور حول ما ألِفه من الشيء المحسوس الذي له حد وشكل ولون والله تعالى ليس كذلك.
قال المؤلف رحمه الله: ولا تُدركُه الأفهام
الشرح: أي لا تدركه العقول أي لا تحيط به لأن ذلك يقتضي الحدوث والحدوثُ محالٌ عليه وهو كما قال ذو النون المصري: "مهما تصورت ببالك بالله بخلاف ذلك"، روى ذلك عنه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بالإسناد، وروى ذلك أيضاً أبو الفضل عبد الواحد بن عبد الغني التميمي عن الإمام أحمد بن حنبل، وكان ذو النون المصري وأحمد بن حنبل، وكان ذو النون المصري وأحمد بن حنبل متعاصرين
قال المؤلف رحمه الله: ولا يُشبه الأنام
الشرح: الأنام الخلق، والشبيه ما يشارك غيره ولو في وجه واحد، فنفي المثل عنه يقتضي نفي الشبيه فقولنا الله لا مثل له أبلغ في التنزيه من قولنا الله لا شبيه له
قال المؤلف رحمه الله: حيٌّ لا يموت قيّوم لا ينام
الشرح: الحي في حق الله تعالى يفسر بأنه المتصف بالحياة التي هي أزلية أبدية، والقيوم معناه الدائم الذي لا يزول، وقيل القائم بتدبير خلقه لأن تدبير جميع الأشياء لا يكون إلا لله، أما الملائكة الذين وصفهم الله بقوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً) (النازعـات:5) فإنما يدبرون في أمور خاصة كالمطر والريح والنبات وأشياء أخرى وليس في كل شيء، والتسمية بالقيّوم لا تجوز إلا لله. وليحذر من طائفة تنتسب للتصوف تسمى الشاذلية اليشرطية تقول: القيوم معناه القائم فينا، فيقول احدهم للآخر أنت الله وهذا الجدار الله، فكفرهم هذا من أشنع الكفر، وأما الشيخ علي نور الدين اليشرطي الذين ينتسبون إليه فهو بريء مما يقولون بل هو كان على التنزيه
قال المؤلف رحمه الله: خالقٌ بلا حاجة
الشرح: أي خلق العالم وأحدثه من غير أن يكون له احتياج إليه لجلب منفعة لنفسه أو دفْع مضرة عن نفسه إنما خلقه إظهارا لقدرت
قال المؤلف رحمه الله: رازقٌ بلا مُؤنَة
الشرح: أي أنه تعالى يوصل إلى العباد أرزاقهم من غير أن تلحقه كُلفة ومشقة، فالله لا يفعل شيئاً بالمباشرة والحركة بل بمجرد تعلق إرادته الأزلية وتكوينه الأزلي يوجد الشيء.
قال المؤلف رحمه الله: مُميتٌ بلا مخافة
الشرح: أي أن الله تعالى يميت الأحياء من عباده بلا مخافة أي لا لخوف من أن يلحقه ضرر إنما يميت من شاء منهم بمقتضى حكمته وإظهاراً لكمال قدرته كما قال تعالى: (وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) الشمس:15
قال المؤلف رحمه الله: باعثٌ بلا مشقة
الشرح: أي أن الله تعالى يبعث الأموات بلا مشقّة تلحقه بل بمجرد تعلق إرادته، كما أن تكوينهم كذلك، قال تعالى تنبيهاً لذلك: (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) لقمان:28
قال المؤلف رحمه الله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته وكما كان بصفاته أزليّاً كذلك لا يزال عليها أبديّاً
الشرح: يجب لله تعالى القِدم ووجوبه بالشرع والعقل، أي لو لم يكن قديماً أي أزلياً لكان حادثاً ولو كان حادثاً لاحتاج إلى محدِث وذلك ينافي الألوهية، ثم الحدوث مستحيل عليه شرعاً أيضاً لأن الله تعالى قال: (هُوَ الْأَوَّلُ) (الحديد:3) أي الموجود الذي ليس له ابتداء، فالأول في هذه الآية الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء لأن الأوليّة النسبية يقترن بها الحدوث الذي هو مستحيل على الله، فلا معنى للأوليّة في حق الله إلا الأولية المطلقة. ويجب القِدم أيضاً لصفاته لأنه لو لم تكن صفاته ازلية بل كانت تحدث في الذات لكان ذلك موجباً لحدوث الذات، فتغيُّر الأحداث على الذات هو أكبر أدلة الحدوث، فصفاته أزلية بأزلية الذات أي لا يجوز أن تختلف الصفات عن الذات القديم الأزلي. فنعلم من ذلك أنه لا يطرأ على الله صفة لم تكن في الأزل، ولا يتجدد لله علم ولا إرادة ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر. ثم الصفات التي يجب لها القِدم اختلف فيها طائفة أهل السنة فمنهم من قال صفات ازلية أي صفات الذات فعند هؤلاء صفات الأفعال حادثة لأنها لا تقوم بالذات إنما هي آثار القدرة الأزلية هؤلاء هم الأشاعرة أي الطائفة المنسوبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، وليس ذلك قول جميع الأشاعرة بل هو قول بعضهم، وغلب ذلك على أكثر الأشاعرة المتأخرين، أما المتقدمون فكان كثير منهم يقول بأزلية صفات الأفعال أيضاً، وصفات الأفعال هي إحياؤه لمن شاء حياته من المخلوقات وإماتَتُه لمن يميته، والإسعاد والإشقاء وغير ذلك مما لا يحصى، ويعبّر عن ذلك عند الماتريدية بالتكوين، فالتكوين عندهم صفة من الصفات القديمة الأزلية. ولا يلزم من قِدم التكوين قِدَم المُكوّن، قالوا كما لا يلزم من قِدم القدرة الإلهية قِدم المقدورات فهذا العالم مقدورات الله أحدثه الله بقدرته الأزلية، فالقدرة أزلية ومتعلَّقها وهو العالم حادث قالوا كذلك التكوين أزلي والمكوِّنات حادثة ويعبّر عن ذلك أيضاً بالفعل، فيقال فعل الله أزلي ومفعوله حادث، فإذا كان كذلك تبيّن وظهر أنه تبارك وتعالى لم يزدد بإحداثه الخلق صفة حادثة
قال المؤلف رحمه الله: ليس بعد خَلق الخَلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البريّة استفاد اسم البارئ
الشرح: أي أنه لم يتجدد لله تعالى صفة بإحداثه البرية، والبرية الخلق، فهو تبارك وتعالى خالق قبل حدوث الخلق، وبارئ قبل حدوث البرية كما أنه قادر قبل وجود المقدورات أي العالم
قال المؤلف رحمه الله: له معنى الربوبيّة ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق
الشرح: يعني أن الله تعالى كان متّصفاً بالخالقية والربوبية قبل وجود المخلوقين والمربوبين، نحن العالم مربوبون لله أي مخلوقون له،فقبل وجودنا كان تعالى متصفاً بالربوبية وبصفة الخالقية لم تحدث له صفة الربوبية بوجودنا ولا الخالقية بوجود المخلوقين. صفات الأفعال عند الماتريدية كصفات الذات في الأزلية، وحجتهم ظاهرة ما فيها إشكال، فإذا قيل أحيا الله كذا أو أمات كذا المعنى المقصود عندهم أن الله أحيا هذا المخلوق الجائز العقلي بصفته التي هي أزلية وهي صفة الإحياء، فالمُحْيا حادث أما إحياء الله له فهو أزلي، وكذلك يقال عندهم في إماتة الله لمن يميت من خلقه: إماتة الله لهذه الأشياء التي يميتها صفة أزلية أبدية له، لكن هذه الأشياء التي تتصف بالموت هي المحدَثة، وهذا لا إشكال فيه لمن فهم المعنى المقصود وهذا الأمر يضطرد فيما أشبه ذلك، فإذا قيل الله تعالى أسعد السعداء من خلقه أو أشقى الأشقياء من خلقه فالإسعاد والإشقاء اللذان هما صفتان أزليتان لله من غير لزوم أزلية المُشقَى أو المُسعَد، فالعباد اللذين يشقيهم الله مُحدثون وشقاوتهم حادثة، وكذلك العباد اللذين أسعدهم الله تعالى هم مُحدثون وسعادتهم حادثة، أما إشقاء الله للذين أشقاهم وإسعاد الذين أسعدهم أزلي. وهذا الاعتقاد كان هو اعتقاد السلف ولو لم يُشهر هذا التعبير عنهم لكن المعنى كان موجوداً، وقد صرّح الإمام أبو حنيفة في بعض رسائله أن فعل الله صفة له في الأزل ومفعوله حادث، وهو في النصف الأول من عصر السلف، فلا يقال لو كان هذا معتقد السلف كان يسمع من فلان وفلان من الصحابة ومن التابعين ومن أتباع التابعين. فلا يضرّ مُثبِتَ القِدم لصفات الأفعال عدم ظهور هذا التعبير عنهم أي القول بأن صفات الأفعال قديمة فاشتهار هذا ليس شرطاً في ثبوت اعتقاد السلف لذلك. أما الأشاعرة أكثرهم يقولون يُحيي من شاء أي يُحدث فيه الحياة بقدرته، فالإحياء عندهم أثر القدرة ليس قائماً بذات الله لذلك تجرأوا على قولهم الإحياء صفة فعل حادثة، عندهم هكذا ليس قائماً به وحادث فليس من معتقدهم، فلا يلزمهم من ذلك أن يكونوا وصفوا الله بالحدوث ولا أن يكونوا نسبوا إليه صفة حادثة قائمة بذاته، وكذلك في الإماتة وكذلك في الإسعاد والإشقاء، وقد ناقش كثير من الأشاعرة الماتريدية في هذه المسألة فقالوا: بأنه يلزمكم على ما ذهبتم إليه جعل المكوَّن أزليّاً قديماً. فبعد اتفاق الفريقين أنه لا يقوم بذات الله صفة لم تكن له في الأزل ليس في اختلافهم هذا ما يضر في أصل الاعتقاد بل هذا اختلاف لفظي، اختلاف في التعبير، وكلا الفريقين على هدى، إنما الضرر الأعظم والكفر والإلحاد هو أن يقول القائل: الله تعالى يقوم به صفة حادثة كابن تيمية
قال المؤلف رحمه الله: وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا استحقّ هذا الاسم قبل إحيائهم
الشرح: المعنى أن الله تبارك وتعالى كان متصفاً بالإحياء قبل حدوث الخلق ثم أجرى عليهم الحياة التي هي حادثة، وكذلك يقال في كونه تعالى مميتاً أي أنه تبارك وتعالى كان محيي الموتى في الأزل قبل حدوث الموتى، وحدوث الموتى لا ينافي قِدم إماتته لهم، وكذلك إحياء العباد الذين أجرى عليهم صفة الحياة الحادثة لا يقتضي حدوث كونه مُحيياً لهم
قال المؤلف رحمه الله: كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم
الشرح: أي أنه مستحق للاتصاف بمعنى الخالق قبل إنشاء الخلق، والمراد بالإنشاء هنا أثره لأن الإنشاء إذا أريد به صفة الله فهو من الصفات الأزلية. وأزلية خالقيته وربوبيته يستلزم بأن لا يحدث له بإنشاء الخلق صفة حادثة وهو بصفته الأزلية أنشأ ما أنشأ من المحدَثات، فثبوت قدرته على كل شيء يفهم منه حدوث منشآته ومخلوقاته وأزلية إحيائه وإماتته لما أحياه وأماته من المخلوقات، هذا الحكم ينطبق على الإجمال وعلى التفصيل، فإذا قلنا أنشأ الله تعالى المحدَثات التي شاء لها الحياة بإحداثه الأزلي وإحيائه الأزلي فهو كقولنا عند التفصيل: أحيا الله تعالى فلاناً بصفة الإحياء التي هي ثابتة له في الأزل، وهذا المذهب الذي قررنا والذي هو مذهب السلف أنسب وأقوى لإبطال القول بحوادث لا أول لها لأنه عليه فعله للحوادث أزلي فلا يحتاج إلى فعل آخر
قال المؤلف رحمه الله: ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
الشرح: قوله: "ذلك" إشارة إلى جميع ما تقدم مما ذكر من صفاته، والله تعالى قدرته مؤثرة في كل شيء أي في كل ما يقبل الدخول في الوجود، وكل ما هو كذلك فهو فقير إليه أي محتاج إليه، وكل ما هو كذلك فهو عليه يسير، والمراد بنفي المماثلة عن الله تعالى المماثلة من جميع الوجوه والمماثلة من وجه واحد، فكل ذلك مستحيل
قال المؤلف رحمه الله: خلَق الخلْق بعلمه وقدّر لهم أقداراً وضرب لهم آجالاً ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم
الشرح: المعنى أن الله تبارك وتعالى خلق الخلق على حسب علمه الأزلي وتقديره الأزلي، وقدّر سبحانه مقادير الخلق من الخير والشر والطاعة والمعصية والرزق والسعادة والشقاوة ونحو ذلك، وقدّر آجال الخلائق، ولم يخف عليه شيء مما حدث، ومما يحدث إلى ما لا نهاية له، فالمخلوقات التي خلقها فدخلت في الوجود والتي ستخلق ولم تدخل في الوجود بعد كلٌّ بعلمه الأزلي الذي هو علمٌ واحدٌ شاملٌ يتعلق بسائر الممكنات العقلية وبالواجب العقلي وبالمستحيل العقلي، به هو عالم كل ما حدث وكل ما سيحدث إجمالاً وتفصيلاً، ولا يلزم من ذلك تغير العلم
قال المؤلف رحمه الله: وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته
الشرح: أي أن الله تعالى أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية تحقيقاً لمعنى الابتلاء، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) أي لآمرهم بعبادتي وأنهاهم عن معصيتي
قال المؤلف رحمه الله: وكلُّ شيء يجري بتقديره ومشيئته
الشرح: شرع المؤلف هنا بشرح المشيئة التي هي إحدى الصفات الأزلية التي معرفتها لها أهمية كبيرة في أصول الدين، وتفسيرها تخصيص الممكن العقلي ببعض ما يجوز عليه دون بعض، فالشر الذي دخل في الوجود بتخصيص الله تعالى دخل، وفي العقل كان جائزاً أن يبقى في العدم وإنما الله تعالى أخرجه من العدم لتعلّق مشيئته الأزلية في وجوده فدخل في الوجود
قال المؤلف رحمه الله: ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن
الشرح: يُعلم من ذلك أنه لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، والمعنى أن مشيئة العباد من جملة الحادثات أي لا تحدث إلا بمشيئته فلا مشيئة للعباد إلا أن يشاء دخولها في الوجود، فمشيئتنا حادثة لم تحدث إلا بمشيئة الله تعالى في الأزل حدوثها، وقبل أن تحدث مشيئتنا شاء الله في الأزل حدوثها، أما أن يشاء العباد شيئاً لم يشأ الله تعالى في الأزل حدوثه فلا يكون ذلك بل هو مستحيل، والدليل السمعي على ذلك قوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) التكوير:29
قال المؤلف رحمه الله: يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويُضل من يشاء ويخذُل ويبتلي عدلاً
الشرح: أي أن الله يخلق الاهتداء فيمن يشاء من عباده بفضله وكرمه، هو هداهم فضلاً منه وكرماً، فلو لم يخلق فيهم الاهتداء لم يكن هو ظالماً لأنه لا يجب عليه شيء فلا حاكم له وليس له آمر ولا ناه، لم يخلق سبحانه في الكفار الاهتداء، خذلهم عدلاً منه أي ليس ظلماً منه لأن الظلم لا يتصور منه لأنه لا يتصرف إلا فيما هو ملك له حقيقة ليس ملكه مجازياً عقلاً كملكنا، وأما ملكنا فهو ملك مجازي عقلاً لأن العباد وما يملكون كلٌّ ملك لله تعالى لا فرق بينك وبين ما تملكه بالنظر إلى كون كل ملكاً لله تعالى، أنت خلقك وأحدثك من العدم وكذلك ما تملكه هو خلقه وأحدثه من العدم، له سبحانه الحاكمية على العباد فما منعهم ونهاهم عنه فإن لم ينتهوا توجه اللوم عليهم واستحقوا العقوبة والعذاب
قال المؤلف رحمه الله: وكلّهم يتقلّبون في مشيئته بين فضله وعدله
الشرح: يعني أن العباد يتصرفون بمشيئة الله تبارك وتعالى، فإن تصرفوا بالخير فبفضل الله تعالى، وإن تصرفوا في المعاصي والشرور فبعدل الله تبارك وتعالى، وهذا فيه إبطال ما ذهبت إليه المعتزلة من أن العباد تصرفهم في الشر ليس بإرادة الله أما تصرفهم في الخير فبإرادة الله، فهذه التفرقة باطلة، والحق خلاف ذلك فالعباد مهما فعلوا من فعل خيراً كان أو شراً فبمشيئة الله، وفي ذلك بيان أنه ليس واجباً على الله أن يفعل لعباده ما فيه صلاحهم أو ما هو أصلح لهم
قال المؤلف رحمه الله: وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد
الشرح: يعني أن الله تبارك وتعالى منزه عن أن يكون له أنداد أي أمثال وأضداد أي مضادون له، ومعنى المضاد: أن يتصرف تصرفاً يريد أن يغلب الله به على زعمه ،والله تبارك وتعالى ليس له مغالب لأن كل شيء في قبضته، وكل شيء ملكه، فلا يكون له أضداد أي يتصرفون على خلاف إرادته، والأنداد جمع ندّ وهو المثل، والأضداد جمع ضد.
قال المؤلف رحمه الله: لا رادّ لقضائه
الشرح: أي لا أحد يرد قضاء الله تبارك وتعالى، والقضاء هو على قول بعض الفقهاء من أهل السنة: إرادة الله المتعلقة بالحادثات، وهو عند بعضهم: قضاء الله أي خلق الله للأشياء أي إبرازه إياها من العدم قال تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) (فصلت:12)، فالتفسير الأول للقضاء هو مشهور عند الأشاعرة قال قائلهم:
إرادة الله مع التعلق في أزل قضاؤه فحقق
قال المؤلف رحمه الله: ولا معقِّب لحكمه، ولا غالب لأمره
الشرح: أي لا معقب لحكم الله تبارك وتعالى أي لا يجعله باطلاً، فإن أريد بالحكم الخطاب التكليفي للعباد كان هذا تفسيره، وإن أريد بالحكم الحكم التكويني وهو بمعنى أن لا أحد يستطيع أن يمنع نفاذ إرادة الله، فما أراده تمّ لا محالة أي نفذ. وقوله: "ولا غالب لأمره" أي لا يغلب أمر الله غالب.
قال المؤلف رحمه الله: آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده
الشرح: المعنى أننا صدقنا وأيقنا أن كلاً من عنده، أي أن كل شيء دخل في الوجود فإنما حصل بعلم الله الأزلي وتقديره وقضائه
قال المؤلف رحمه الله: وأن محمداً صلّى الله عليه وسلم عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى وإنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين
الشرح: المصطفى والمجتبى معناهما واحد، وفيهما زيادة مدح على المرتضى، فيجب الإيمان بأنه صلّى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، وأنه آخر الأنبياء وأفضلهم. وقوله: "خاتم" يقال بالفتح ويقال بالكسر والمعنى واحد أي آخر النبيين قال تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب:40)، وقد تأول القاديانية الخاتم بمعنى الزينة وذلك لأن رئيسهم غلام أحمد ادعى أنه نبي رسول وهذا كفر وضلال
قال المؤلف رحمه الله: وكل دعوة نبوّة بعد نبوّته فغيٌّ وهوىً
الشرح: أي أن من ادعى النبوة بعده صلّى الله عليه وسلم فدعواه باطلة، لقوله صلّى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي" رواه البخاري والحاكم في المستدرك، وهذا حديث ثابت، فالقاديانية يقولون: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (الحج:75)، (يَصْطَفِي) فعل مضارع، فيقال لهم يصطفي فعل مضارع وُضع موضع الماضي بالنسبة للمصطفين أما بالنسبة لله تعالى الفعل يتجرد عن الزمان الماضي والمضارع والحال لأن فعله أزلي لا محالة، لا يقال عن الأزلي مضى وانقطع، ويقال لهم ولذلك نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى: (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة:87) تقتلون أي قتلتم.
قال المؤلف رحمه الله: وهو المبعوث إلى عامة الجنّ وكافة الورى بالحق والهدى وبالنور والضياء
الشرح: يعني أن سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم مرسل إلى الإنس والجن وليس إلى جميع الخلق من ملائكة وبهائم وجن وإنس، وبعضهم يقولون: مرسل إلى الملائكة رسالة تشريف
قال المؤلف رحمه الله: وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً
الشرح: معناه أن القرآن من الله بدا أي ظهر أي إنزالاً على نبيه، وليس المراد من كلمة "بدا" أنه خرج منه تلفظاً كما يخرج كلام أحدنا من لسانه تلفظاً كما تقول المشبهة، وليس معنى "منه بدا" أنه نطق به كما ينطق الواحد منا بكلامه بعد أن كان ساكتاً، بدليل قوله: "بلا كيفية" أي ليس بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت كيفية من الكيفيات
قال المؤلف رحمه الله: وأنزَلَه على رسوله وحياً، وصدّقه المؤمنين على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البريّة، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمّه الله وعابه وأوعده سقر حيث قال تعالى: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) المدثر:26
الشرح: أنزله على سيدنا محمد وحياً، والوحي يطلق على ما يأتي به الملَك من الخبر عن الله تبارك وتعالى إلى النبي، ويطلق على ما ينزله الله تعالى على قلب النبي بلا واسطة ملَك وهو الكلام الذاتي كما سمع موسى وكما سمع سيدنا محمد ليلة المعراج بعد أن وصل إلى المستوى الذي كان يسمع فيه صريف الأقلام، كل ذلك يقال له وحي. وأما قوله: "وإن القرآن كلام الله" إلى قوله: "أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية" ظاهره يوهم أن كلام الله تعالى حادث لأن كلمة: "منه بدا" توهم ذلك، وليس مراده عقيدة الصوتيين الذين يقولون كلام الله بصوت وحرف ولا يعتقدون لله تعالى كلاماً غير ذلك، هؤلاء مشبهة، لكن الطحاوي نفى ذلك بقوله: "بلا كيفية قولاً" فنفى أن يكون كلام الله الذاتي حرفاً و صوتاً لأن الحرف والصوت كيفية من الكيفيات. فإن قيل: ما معنى قوله: "منه بدا" ؟ قيل معناه أن الله أظهره لمن شاء من خلقه بأن أسمعه من غير أن يكون الكلام حادثاً، وإنما الحدوث لسماع من شاء الله من خلقه فسماع أولئك حادث أما مسموعهم ليس حادثاً، كما أنه يري المؤمنين يوم القيامة ذاته الأزلي الأبدي ورؤيتهم له حادثة، أما الوهابية حين يقرءون هذا الكتاب يعجبهم منه قوله: "منه بدا"، ولا يفهمون معنى "بلا كيفية" على حسب مراد المؤلف، ويعجبهم أيضاً قوله: "بالحقيقة"، فيقال لهم: مراده بالحقيقة أن القرآن يطلق على الكلام الذاتي وعلى اللفظ المنزل لأن قول الله يطلق على هذا وعلى هذا إطلاقاً من باب الحقيقة لأن كلا الإطلاقين حقيقة شرعية، وليس مراده أن اللفظ المنزل قائم بذات الله لأن ذلك ينافي قوله السابق: "بلا كيفية"، فهذه العبارة فيها غموض، الوهابي يتعلق بها لجهته، والسني يتعلق بها لجهته، الوهابي يقول: "منه بدا بلا كيفية قولاً" هذا هو اللفظ، ويقول الإنزال لا نعرف كيفيته ولكنه هو الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت، أما أهل السنة فيقولون: "بلا كيفية قولاً" يعني تكلمه به بلا حرف وصوت لأن الحرف والصوت كيفية، وهو مراد المؤلف وهو مذهب أهل الحق، لأن أبا حنيفة ذكر في بعض رسائله أن الله يتكلم لا كتكلمنا، يتكلم بلا حرف ولا صوت، والطحاوي من أهل مذهبه، أليس قال في ابتداء الكتاب: على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان.
قال المؤلف رحمه الله: فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (المدثر:25)، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر
الشرح: يقول المؤلف إن من سمع القرآن وقال أنه من تأليف بشر فقد كفر والله أوعد من قال بذلك بسقر. فاللفظ لا يستطيع الإنسان أن يأتي بمثله، وأما الكلام الذاتي فهو صفة ذاتية لله كسائر صفاته لا يجوز عقلاً أن يكون له شبيه
قال المؤلف رحمه الله: ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر
الشرح: أي أن من وصف الله بوصف من أوصاف البشر المحدَثة بمعنى من معاني البشر قولاً أو اعتقاداً فهو كافر لأنه كذب قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى:11)، فمن صفات البشر الحدوث والتطور والانفعال والتأثر واللون والحركة والسكون والتحيز بالمكان وما أشبه ذلك، كل هذا من صفات البشر فمن اعتقد هذا أو قاله بلسانه فقد كفر. فصفات الله لا تشبه صفات البشر، لأن صفاته قديمة وصفاتهم محدثة، ولا مشابهة بين القديم والحادث. وقوله: "أبصر" كأنه أراد بصر القلب لا بصر العين إذ المعاني لا تبصر بالعين عادة
قال المؤلف رحمه الله: والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية
الشرح: أي أن المؤمنين يرونه سبحانه في الآخرة من غير أن يحيطوا به لأن الإحاطة به مستحيلة، وهذا حق يجب الإيمان به. أما المعتزلة والفلاسفة فقد خالفوا أهل السنة حيث أنهم نفوا رؤية الله في الآخرة واحتجّوا أنه يلزم القول بالرؤية تشبيهه بالخلق وقالوا أن الذي يُرى لا بد أن يكون في جهة، أما نحن معاشر أهل السنة فنقول هذا بالنسبة للمخلوق مسلّم أما بالنسبة لله فغير مسلّم، كما صح علمهم به من غير جهة صح أن يُرى بلا جهة، وليس واجباً عقلاً أن تكون رؤية المؤمنين له كرؤيتهم للمخلوق في استلزام الجهة
قال المؤلف رحمه الله: كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (22 - 23 سورة القيامة)
الشرح: قال أهل الحق: رؤية الله بالأبصار للمؤمنين في الآخرة بعد دخولهم الجنة جائزة عقلاً وسمعاً، واحتجوا بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (22 - 23 سورة القيامة)، وقوله: "ناظرة" معناه ترى ربها ذلك اليوم، وهذه الوجوه عبارة عن المؤمنين، والأحاديث الثابتة ليس فيها تحديد أوقات الرؤية وتفصيلها، لكن ورد حديث في إسناده ضعيف بأن المقرّبين يرونه غدوّا وعشياً وأما غيرهم ففي الجمعة مرة
قال المؤلف رحمه الله: وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه
الشرح: يعني إن تفسير هذه الآية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (22 - 23 سورة القيامة) أي على حسب ما علم الله تعالى وأراده معنىً بكلامه هذا
قال المؤلف رحمه الله: وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلّى الله عليه وسلم فهو كما قال ومعناه على ما أراد
الشرح: أي أن كل ما جاء في الحديث الثابت الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلم فهو على حسب ما أراده صلّى الله عليه وسلم أما المشبهة من وهابية وأسلافهم فالرؤية عندهم تكون بالكيفية والجهة وإن كانوا يقولون لفظاً بلا كيفية، لكنهم يعتقدون الكيفية لأنهم يثبتون الجهة لله، فالرؤية عندهم لا بد أن تكون بكيفية بالمقابلة لأنهم يفسرون الحديث: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون" رواه مسلم، معناه عندهم ترونه مواجهة كما ترون القمر مواجهة، وأجاب أهل السنة على هذه الشبهة بقولهم: التشبيه هنا وارد على غير ذلك المعنى الذي تدعون، أي أن العباد يرونه رؤية لا شك فيها كما أن القمر ليلة البدر إذا لم يكن سحاب يُرى رؤية لا شك فيها
قال المؤلف رحمه الله: لا ندخُلُ في ذلك متأوّلين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا
الشرح: يعني أنه لا يدخل في ذلك متأوّلاً برأيه تأوّلاً بلا دليل عقلي قطعي ولا دليل سمعي ثابت كتأويل المعتزلة للآية المذكورة، وأنه لا يدخل في ذلك متصوراً بوهمه، يعني لا كما ذهبت المعتزلة في نفيهم للرؤية وتحريفهم للآية، ولا كما ذهبت المشبهة في جعلهم الرؤية بكيفية حيث أثبتوا لله تعالى الجهة، فهم حيث أثبتوا للذات المقدس الجهة فلا بد أنهم يثبتون الرؤية في جهة، أما أهل السنة فبعيدون من ذلك، يعتقدون أنه يُرى بلا مقابلة ولا مدابرة من دون أن يكون الرائي في جهة من الله لا يمنى ولا يسرى ولا فوق ولا أسفل ولا قدام ولا خلف. ولا يعني كلام الطحاوي رد تأويل أهل السنة الإجمالي والتفصيلي لآيات الصفات وأحاديثها المتشابهة، فقد ثبت ذلك عن الإمام أحمد وغيره من السلف، فإن ترك التأويلين عين التشبيه والتجسيم المنفيين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11)
قال المؤلف رحمه الله: فإنه ما سلِم في دينه إلا من سلّم لله عز جل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وردّ عِلم ما اشتبه عليه إلى عالِمِه
الشرح: يعني أن السلامة في التسليم لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم أي اعتقاد أن ما جاء في الشرع من أمور الدين فهو على حسب ما أراد الله تعالى ورسوله، ليس مبنيّاً على التوهم والتصور المعتمد على الرأي أو على ما جرت به العادة بين المخلوقات. فالمعتزلة رجعوا إلى الرأي الذي هم اتخذوه أصلاً، والمشبهة رجعوا إلى ما هو مألوف بين المخلوق وفتنهم أنهم قاسوا الله على الخلق فقالوا كما أنه لا يُرى الشيء إلا في جهة من الرائي فالله يُرى في جهة، وكلا المذهبين باطل. وقوله: "عالمه" المراد بذلك أن الذي اشتبه عليه فهم شيء من الأمور المتعلقة بالآخرة وغيرها يرجع به إلى أهل العلم الراسخين، فإما أن يستفيد منهم السائل التأويل التفصيلي أو التأويل الإجمالي وهو أن يعتقد الإنسان أن ما يضاف إلى الله من الصفات هي منزهة عن الهيئة والشكل وآثار الحدوث
قال المؤلف رحمه الله: ولا تثبُتُ قدم في الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام
الشرح: التسليم هو الرضى بما جاء عن الله تعالى، وأما الاستسلام فهو الانقياد للشرع أي قَبول ما جاء فيه من العقائد والأحكام، فلا يصح الثبات على الإسلام إلا لمن سلّم لله تعالى، ولم يعترض عليه، ولم يصفه بما لا يليق به.
قال المؤلف رحمه الله: فَمَنْ رامَ عِلمَ ما حُظِر عنه عِلْمُهُ ولم يقنع بالتسليم فهمُهُ حَجَبَهُ مَرَامُهُ عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوساً تائهاً شاكاً لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً
الشرح: معناه أن من طلب أن يعلم ما منع عنه علمه ولم يقنع بتسليمه إلى عالمه حجبه مطلوبه عن خالص التوحيد، فيكون مضطرباً مؤمناً ببعض وكافراً ببعض، لا كالكافر المعلن كفره ولا كالمؤمن الذي صدَق في الإيمان وآمن عن حقيقة
قال المؤلف رحمه الله: ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم
الشرح: أنه من اعتبر الرؤية على غير الوجه المشروح المتقدم ذكره الذي هو معتقد أهل السنة والجماعة فهو غير مُصدق به كما أُمر، فالمشبهة ظاهراً يقولون: آمنا بالرؤية، أما في الحقيقة فلم يؤمنوا، وأما المعتزلة فقد نفوا نفياً صريحاً حيث إنهم قالوا لا يُرى وهم يفسرون قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة:23) يقولون نعمة ربها ناظرة أي منتظرة، وأما الحديث فيزعمون أنه غير ثابت، فالمعتزلة والمشبهة على طرفي نقيض. وقوله: "دار السلام" إسم للجنة، وجميع طبقاتها يشمله هذا الاسم
قال المؤلف رحمه الله: إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين
الشرح: يريد الطحاوي بترك التأويل، التأويل الذي هو بعيد عن الحق والإصابة، ولا يعني التأويل الذي يفعله أهل السنة إن كان إجمالياً أو كان تفصيلياً، وهذا الذي ينبغي حمل كلام المؤلف عليه، أما ظاهره فمنع الذهاب إلى التأويل أي التفصيلي، أما التأويل الإجمالي فلا ينفيه لأن من نفى التأويل الإجمالي وقع في التشبيه لا محالة. ويقوي كون مراد الطحاوي بنفي التأويل ليس مطلق التأويل قوله في مسألة الكلام: "منه بدا بلا كيفية قولاً" لأن هذا تأويل.
قال المؤلف رحمه الله: ومن لم يتوَقَّ النفي والتشبيه زلَّ ولم يُصب التنزيه
الشرح: يريد بالنفي التعطيل، ويريد بالتشبيه إثبات الجهة لله تعالى أو شيء من أمارات الحدوث كالحركة والسكون وكالانتقال من علو إلى سفل أو من سفل إلى علو، وهذان الفريقان "زلَّ" أي ضلّ عن الطريق "ولم يصبه التنزيه" أي فَقَد وحُرم التنزيه أي تنزيه الله عن مشابهة خلقه، ويصح أن يُفسَّر قوله "زل ولم يصب التنزيه" بأن يقال: زلّ راجع إلى النافي أي المعطل، وقوله: "ولم يصب التنزيه" راجع إلى من شبه، فيكون المعنى أن المعطل الذي نفى ما أثبته الله تعالى زلّ أي حاد عن الحق وضلّ، وأن الذي أثبت لفظاً ولم ينزه معنىً بل شبه لم يصب التنزيه أي لم ينزه الله عما يجب تنزيهه عنه فيكون هذا التفسير مطابقاً لما عليه الفريقان فريق التعطيل وفريق التشبيه، كالوهابية فإن إثبات أصل الجلوس عندهم ليس تشبيهاً، ويراد بالمعطلة المعتزلة والفلاسفة
قال المؤلف رحمه الله: فإن ربنا جلّ وعلا موصوفٌ بصفات الوَحْدانية.
الشرح: أي موصوف بالصفات التي تنفي عن الله تعالى المشابهة لغيره
قال المؤلف رحمه الله: منعوتٌ بنعوت الفَرْدانية
الشرح: هذا بمعنى ما قبله، وإنما عبّر بالعبارة الثانية لتأكيد العبارة الأولى، والنعت والصفة بمعنى واحد، والوحدانية والفردانية مترادفان
قال المؤلف رحمه الله: ليس في معناه أحدٌ من البريّة
الشرح: أي ليس في صفاته تعالى أحد من الخلق، أي لا يصح عقلاً ولا شرعاً أن يتصف العبد أو أي شيء من الأشياء الحادثة بشيء من صفات الله تعالى. ولقد أساء التعبير من قال في تفسير الحديث الذي رواه البخاري: "إن الله خلق آدم على صورته": إن الله جعل آدم متصفاً بصفاته من سمع وبصر ونحو ذلك، وهذا التعبير فاسد. ومعنى: "على صورته" أي على الصورة التي خلقها الله وشرّفها كما هو المعنى في قوله تعالى في حق عيسى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} التحريم:12
قال المؤلف رحمه الله: وتعالى عن الحدود والغايات والأعضاء والأركان والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات
الشرح: أي أن الله تعالى ليس له حد والحد معناه نهاية الشيء، فلا يجوز عليه الحدود والمساحة والمقدار، فنفيُ الحد عنه عبارة عن نفي الحجم. ومعنى "الغايات": النهايات وهذا من صفات الأجسام. ومعنى "الأركان": الجوانب، ومعنى "الأعضاء": جمع عضو وذلك من خصائص الجسم، ومعنى "الأدوات": أي الأجزاء الصغيرة كاللهاة. ومعنى قوله: "لا تحويه الجهات الست"، أي لا تحيط به الجهات الست وهي فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف، لأن هذه لا تصح إلا لمن هو جرم، وفي هذا رد على ابن تيمية حيث قال إن لله حدّاً يعلمه هو، وأما إثبات الحد لله فلم يصح عن أحد من السلف كما أوهم ذلك ابن تيمية بل نقْل الطحاوي هذا فيه أن السلف كانوا على تنزيه الله عن الحد. والله سبحانه وتعالى ليس داخل العَالم وليس خارجه وليس متصلاً به أو منفصلاً عنه، لأنه لو كان كذلك لكان له أمثال لا تحصى، وهو سبحانه نفى عن نفسه المماثلة لشيء بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11)، وقد نص على نفي التحيز في المكان والاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق عن الله تعالى خلق كثير من علماء المذاهب الأربعة، فلتراجع نصوصهم
قال المؤلف رحمه الله: والمِعْراج حقٌّ
الشرح: المعراج هو الصعود إلى السموات السبع وما شاء الله من العلى، وهذا حق يجب الإيمان به في حق رسول الله ومن نفاه فهو فاسق، والمعراج حصل بعد الإسراء أي بعد وصوله إلى المسجد الأقصى خارجاً من المسجد الحرام عُرج به إلى السموات وما فوقها إلى حيث شاء الله، فالإسراء مصرّح به في القرآن بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (الإسراء:1)، فلذلك يكفر منكره، والمعراج يكاد يكون نصاً صريحاً لقوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (13) (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (14) (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (15) (سورة النجم)، وإنما لم يكن ذلك صريحاً لأنه لم يثبت بنص قطعي كون سدرة المنتهى فوق السموات السبع.
قال المؤلف رحمه الله: وقد أُسري بالنبي صلّى الله عليه وسلم
الشرح: أي ذُهب به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما تقدم
قال المؤلف رحمه الله: وعُرج بشخصه في اليقظة إلى السماء ثم إلى حيث شاء الله من العُلى
الشرح: أي عُرج به عقيب الإسراء، فالإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة متعاقبين، وهما عند أهل الحق في اليقظة بشخصه بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (لنجم:11)، فصلّى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى
الشرح: استدل الجمهور من أهل الحق بقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (لنجم:11) على أن النبي رأى ربه بقلبه تلك الليلة لا بعينه ،والمراد بالفؤاد فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلم ليس جبريل
قال المؤلف رحمه الله: والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غِياثاً لأمته حقٌّ
الشرح: يجب الإيمان بالحوض الذي يشرب منه المؤمنون يوم القيامة، أي أن الله تبارك وتعالى أعد الحوض لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم إنقاذاً لمن كان عطشاً من أمته في القيامة، فإن من شرب منه لا يظمأ بعد ذلك، وأما من لم يكن أصابه عطش وهم الأتقياء يشربون تلذذاً
قال المؤلف رحمه الله: والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما رُوي في الأخبار
الشرح: يجب الإيمان بالشفاعة التي ادخرها النبي لأمته، ومعنى الشفاعة سؤال الخير من الله تبارك وتعالى للأمة، أي أن الرسول يطلب يوم القيامة من ربه إنقاذ خلق كثير من أمته من النار بعد أن دخلوها لبعضهم وبعدم دخولها لبعض آخر. والذين خصّ به نبينا صلّى الله عليه وسلم من الشفاعة هو الكثرة التي لا تحصل لغيره من الأنبياء، وليس المراد أن من سواه من الأنبياء لا يشفعون بل الشفاعة لهم ثابتة
قال المؤلف رحمه الله: والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حقٌّ
الشرح: الميثاق الذي أخذه الله على آدم هو الميثاق الذي شمل الأنبياء، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب:7). أما الميثاق الذي أُخذ من ذرية آدم فهو ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (لأعراف : 172). وهذا الميثاق -أي العهد- هو اعترافهم بعد أن استخرجهم من ظهر آدم بعدما نزل إلى الأرض فصورهم وخلق فيهم المعرفة والإدراك بأنه لا إله لهم إلا الله، فجميع ذرية آدم اعترفوا ذلك اليوم.
قال المؤلف رحمه الله: وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جُملة واحدة، فلا يُزاد في ذلك العدد ولا يُنقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكلٌّ ميسر لما خُلق له
الشرح: الجملة الأولى التي فيها بيان إحاطة علم الله بمن يدخل الجنة تفصيلاً وبعدد من يدخل النار تفصيلاً، وأراد المؤلف بها أن يبين ما قرر من أزلية صفات الله الذاتية والفعلية كما قال فيما تقدم: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه" بياناً لسعة علم الله وأن علمه لا يقدَّر بمعلوم الخلائق، وحسماً لمادة الشك في القضاء والقدر من الضَّعفة أي ضعاف الأفهام ودفعاً لتلبيس أوهام القدرية أي المعتزلة على العوام، حيث زعموا: "كيف يعذب الله على ما قضاه وقدّره" فبيّن الطحاوي ما يؤيد ذلك، ومعنى ذلك أن الله علم من يدخل عدد الجنة أنهم يؤمنون ويطيعون عن اختيار وإيثار، وعلم عدد من يدخل النار أنهم يكفرون ويخالفون أوامره عن اختيار منهم عند وجودهم وكونهم بصفة البلوغ والعقل لا عن جبر واضطرار يستوجبون النار، ويستحيل أن لا يعلم ما يكون من مخلوقاته قبل وجودهم إذ ذاك جهل والجهل في حق القديم محال، فثبت سبق علمه في الأزل بما يكون من مخلوقاته. أما قول المؤلف: "وكل ميسر لما خلق له" هذا لفظ حديث مشهور صحيح الإسناد رواه أصحاب الكتب الستة، والمعنى أنه من قُدِّر أنه من أهل الجنة قُدِّر له ما يقرّبه إليها من قول وعلم ووُفق لذلك، ومن قُدِّر أنه من أهل النار قُدِّر له خلاف ذلك فأتى بأعمال أهل النار وأصر عليها حتى طوى عليه صحيفة عمره.
قال المؤلف رحمه الله: والأعمال بالخواتيم
الشرح: معنى "الأعمال بالخواتيم" أي أن الجزاء يكون على ما يُختم به للعبد من العمل، فمن خُتم له بعمل أهل السعادة فهو سعيد، ومن خُتم له بعمل الشقاوة فهو شقي، وليس بما يجري على الإنسان قبل ذلك فمن عاش كافراً ثم أسلم ومات على عمل أهل الجنة فهو يُجازى بما خُتم له به، ومن كان على عكس ذلك فيجازى بحسب ما خُتم له به
قال المؤلف رحمه الله: والسعيد من سعد بقضاء الله تعالى والشقي من شقي بقضاء الله تعالى
الشرح: أي أن السعيد من خلق الله تبارك وتعالى فيه الإيمان والطاعة فجرى ذلك على يده ومات عليه والشقي من خلق الله تبارك وتعالى فيه الشر فأجراه على يديه ومات عليه
قال المؤلف رحمه الله: وأصل القَدَر سرُّ الله تعالى في خَلقه لم يطلع على ذلك ملَكٌ مقرّب ولا نبيّ مُرسل
الشرح: أي أن ذلك مستور عن العباد، فلذلك نُهينا عن الخوض فيه، وإنما الأمر الذي ينبغي في أمر القدر معرفة معناه وتفسيره، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "إذا ذُكر القدَر فأمسكوا" رواه البيهقي، هذا القدَر هو الذي صح، أما زيادة ذكر الصحابة فلم يثبت
قال المؤلف رحمه الله: والتعمّق والنّظر في ذلك ذريعة الخِذلان وسلّم الحرمان ودرجة الطغيان فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة
الشرح: أي احذروا من حيث التفكير والوسوسة في ذلك، وادفعوا عن أنفسكم محاولة الاطلاع على ذلك حتى من طريق الوسوسة، فليشغل الإنسان قلبه بما يحجزه عن ذلك. والخذلان ضد التوفيق، لأنه من يتتبع ذلك فهو علامة أنه مخذول أي محروم
قال المؤلف رحمه الله: فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه
الشرح: أي نهاهم عن طلبه
قال المؤلف رحمه الله: كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23)، فمن سأل لم فعل فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين
الشرح: هذا معنى قول بعضهم: وردُّ النصوص كفر، فمن عرف نصاً من النصوص القرآنية أو الحديثية فردَّه فهو كافر، أما من لم يعلم بالنص فردّ معناه ففي ذلك تفصيل: فإن كان شيئاً معلوماً بين المسلمين علماً ضرورياً فإنكار ذلك كفر، وكذلك الشك فيه، أما ما لم يكن كذلك فإنكاره ليس كفراً
قال المؤلف رحمه الله: فهذه جملة ما يحتاج إليه من هو منوّرٌ قلبه من أولياء الله تعالى
الشرح: أي أن عقد القلب على تصديق ما جاء عن الله تعالى ورسوله هو أصل يتمسك المؤمنون به
قال المؤلف رحمه الله: وهي درجة الراسخين في العلم
الشرح: أي المتمكنين في العلم، وهم الذين ثبتوا فيه وتمكنوا
قال المؤلف رحمه الله: لأن العلم علمان: علم في الخَلْق موجود وعلم في الخَلْق مفقود
الشرح: العلم الموجود في الخلق هو ما جعل الله سبيلاً للعباد إليه، أما العلم المفقود بالنسبة لهم فهو ما استأثر الله به ولم يجعل للخلق سبيلاً إليه. فعِلم العقائد والأحكام وعلم ما ينتفع به في المعيشة هو مما جعل الله للخلق سبيلاً إليه، وأما ما استأثر الله به كعلم وجبة القيامة فذلك هو العلم المفقود للعباد، فاكتساب العلم الأول مطلوب ومحمود، وأما محاولة اكتساب العلم الثاني فهو ضلال
قال المؤلف رحمه الله: فإنكار العلم الموجود كفرٌ وادعاء العلم المفقود كفر ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود
الشرح: من هنا يُعلم كفر من ينكر العلم الموجود كإنكار السوفسطائية وجود الأشياء، ويُعلم كفر من يدعي من الخلق الإحاطة بكل شيء علماً، فمن ادعى ذلك لنفسه أو لغيره من العباد فقد كفر، لأن الله تعالى هو المنفرد بالإحاطة بالغيب علماً، لا أحد من خلقه يحيط علماً بالغيب، ومن اعتقد أن أحداً غير الله يحيط بالغيب علماً فقد كذّب القرآن قال الله تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) (النمل:65). وقد ألف بعد الغلاة رسالة ذكر فيها أن الله أطلع الرسول على كل ما يعلمه بلا استثناء وهذا غلو قبيح
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم
الشرح: يجب على المكلفين الإيمان باللوح والقلم، واللوح هو عبارة عن جرم علوي قيل هو تحت العرش وقيل فوقه وأما القلم فهو جرم علوي خُلق قبل اللوح ثم خُلق اللوح فأُمر بأن يجري على اللوح، فجرى بأمر الله تعالى فكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّـس:12)، فعِلم الله غير متناه، أما المكتوب في اللوح المحفوظ شيء متناه، واللوح ليس فيه تفاصيل ما يقع في الآخرة لأن هذا الشيء لا نهاية له
قال المؤلف رحمه الله: فلو اجتمع الخلْق كلهم على شيء كتبه الله فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه
الشرح: الألفاظ التي ذكرها المؤلف هنا وردت فيما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه، بعضها بعين اللفظ المروي، وذلك مما يشهد العقل بصحته لأنه قامت البراهين العقلية على أزلية علم الله بما يكون أبداً فوجب الاعتقاد بمضمون ما ذكر
قال المؤلف رحمه الله: جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة
الشرح: أي أن القلم قد فرغ من كتابة ذلك. وهناك أقلام أخرى غير ذلك القلم تستنسخ بها الملائكة من اللوح المحفوظ ما أُمروا به، بدليل الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال: "حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" رواه البخاري
ومسلم
قال المؤلف رحمه الله: وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه
الشرح: أي ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، لأن علم الله سبق بذلك ولا يتغير علم الله، لأن تغير العلم جهل والجهل مستحيل على الله، وكذلك ما سبق في علم الله أنه لا يصيب العبد فمحال أن يصيبه ذلك
قال المؤلف رحمه الله: وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدّر ذلك تقديراً مُحكماً مُبرماً ليس فيه ناقضٌ ولا مُعَقبٌ ولا مزيلٌ ولا مغيّرٌ ولا محوّلٌ ولا ناقصٌ ولا زائدٌ من خلْقه في سماواته وأرضه
الشرح: يجب على العبد أن يعلم أن ما سبق في علم الله أنه يكون فقد شاء أن يكون، والمراد بهذا أنه لا يحصل شيء إلا بعلم الله الأزلي، وكل ما جرى ويجري للعالم السفلي والعلوي فهو مما سبق في علم الله الأزلي
قال المؤلف رحمه الله: وذلك من عَقدِ الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته كما قال تعالى في كتابه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان:2)، وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الأحزاب:38
الشرح: هذا زيادة بيان لما قبل، والمراد بالعقد الاعتقاد، والمراد بالأمر هنا ليس الأمر التكليفي إنما ما شاء الله تعالى حصوله ووقوعه في الوجود من أعيان المخلوقات أو من صفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وليس المراد الأمر التكليفي كالصلاة والصيام
قال المؤلف رحمه الله: فويلٌ لمن صار لله تعالى في القدَر خصيماً، وأحضر للنَظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً
الشرح: هذا تصريح بذم من أنكر القدر، هؤلاء المعتزلة يقولون: ما شئت لم يكن وكان ما لم تشأ، فيزعمون أن الله تعالى شاء من الكفار أن يؤمنوا لكن ما كان وما وُجد، وأما قولهم فكان ما لم تشأ فهو الشر من العباد هذا عندهم لم يشأه الله تعالى، فيقولون ومع ذلك وُجد بخلق العباد والله ما شاءه وما خلقه، فهؤلاء خصماء الله. والأفاك هو الكذاب، والأثيم هو الفاجر
قال المؤلف رحمه الله: والعرش والكرسيّ حقٌّ
الشرح: يجب الإيمان بوجود العرش والكرسي لأن الله نص عليهما في القرآن، والعرش هو أعظم الأجسام من حيث المساحة وأما الكرسي فهو تحته وهو بمثابة ما يضع راكب السرير قدمه، وهو صغير جداً بالنسبة للسرير
قال المؤلف رحمه الله: وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه
الشرح: أي أن الله تعالى مستغن عن العرش وما سواه فالله تعالى ليس محمولاً بالعرش لأن الله لا يَمَسّ ولا يُمَسّ يستحيل عليه ذلك، لما سبق ذكره من البراهين القطعية المحكمة الموجبة للعلم القطعي في إثبات تعاليه عن الحاجات وعن مشابهة الخلق كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15)، فقد أثبت الفقر والحاجة لعباده ونفى ذلك عن نفسه بقوله: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُُّ) فاطر:15
وقول المؤلف: "وهو مستغن عن العرش" ردّ على اليهود ومجسمة هذه الأمة حيث وصفوه بالجسم والاستقرار على العرش. وقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) العرش يُذكر ويُراد به السرير المحفوف بالملائكة، وهو ظاهر في الشريعة، ويذكر ويراد به الملك كقول الشاعر: إذا ما بنوا مروان ثُلَّتْ عروشهم أي ذهب ملكهم وزال. وقوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) ليس حجة لإثبات الاستقرار لله على العرش كما تقول المشبهة المجسمة بل الترجيح لمعنى الاستيلاء، لأن الله تبارك وتعالى تمدّح بقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5)، ولو استُعمل هذا اللفظ على سبيل المدح في حق من جاز عليه الاستقرار فلا يحمل على الاستقرار ولا يُفهم منه، كقول الشاعر في بشر بن مروان: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودمٍ مهراق فليس مدح بشر بن مروان في هذا البيت من حيث إنه جالس في هذا البلد، إنما المدح له لأنه استوى أي قهر وهيمن وسيطر على العراق، لأن الجلوس في العراق يشترك فيه الإنسان الشريف والقوي والإنسان الدنيء والضعيف، فالمدح إنما يكون بصفة يمتاز بها الممدوح عما لا يكاد يدانيه ولا يساويه ولا يكافئه غيره، فلا بد أن يُفهم من الاسواء القهر والاستيلاء إذ هو أشرف معاني الاستواء وهو مما يليق بالله تعالى، لأنه وصف نفسه بأنه قهار، فلا يجوز أن يترك ما هو لائق بالله تعالى إلى ما هو غير لائق بالله تعالى، وهو الجلوس والاتصال والاستقرار
قال المؤلف رحمه الله: محيطٌ بكل شيء
الشرح: معناه أن الله محيط بكل شيء بالعلم والغلبة والسلطان
قال المؤلف رحمه الله: وفَوَقه
الشرح: المعنى أن كل شيء تحت علمه وقدرته، لقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (الأنعام:18)، وهذا معنى العلو الذي وصف الله به نفسه بقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1) وبقوله: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255) ،لأن علو الجهة مستحيل عليه لأنه من صفات الخلق، وكيف يصح ذلك في حقه وهو القديم المتعال عن التناهي والحدوث، فالعالم لا بد له من مكان. وأما دعوى بعض الجهال أن الله فوق العرش حيث لا مكان فهذه دعوى بلا دليل لأن فوق العرش مكان بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي". فلا يمتنع شرعاً ولا عقلاً أن يكون فوق العرش مكان، فلولا أن فوق العرش مكاناً لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك الكتاب: "فهو موضوع عنده فوق العرش". والمقصود بعند هنا عندية التشريف، كما في قوله تعالى حكاية عن قول آسية: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) التحريم:11
قال المؤلف رحمه الله: وقد أَعجَزَ عن الإحاطة خَلقَه
الشرح: الخلق لا يحيط أحد منهم بكل شيء من المخلوقات، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو) (المدثر:31) فالملائكة لا يعلم عددهم إلا الله حتى رؤساء الملائكة لا يحيطون بعدد الملائكة، فإذا كان الملائكة لا يحصيهم عدداً إلا الله فكيف بجميع الخلائق
قال المؤلف رحمه الله: ونقول إن الله اتّخذ إبراهيم خليلاً، وكلّم موسى تكليماً إيماناً وتصديقاً وتسليماً
الشرح: معناه أن نؤمن بذلك ونصدّق ونسلّم، وليست الخلة كالولادة لأن الولادة توجب البعضية والجزئية وهذا محال في حق القديم
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزّلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين
الشرح: يجب الإيمان بوجود الملائكة وهم عباد الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم كما أخبر سبحانه. وأما الإيمان بالنبيين فهو أن يؤمن بأن الله ارتضاهم للنبوة واصطفاهم وأكرمهم بالسفارة بينه وبين عباده بما يوحى إليهم. وأما الإيمان بالكتب السماوية فهو أن يؤمن بأنها من عند الله تعالى، ويدل كلام المؤلف على أن الكتب لا تنزل إلا على الرسول ومن كان من الأنبياء غير المرسلين يتبع كتاباً أنزل على الرسول
قال المؤلف رحمه الله: ونسمّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم معترفين وله بكل ما قاله وأخبر مصدّقين غير منكرين
الشرح: أي نطلق عليهم اسم المسلمين والمؤمنين، ولا نقول كما تقول الخوارج: "من ارتكب معصية فهو كافر" حتى الصغائر عندهم، ولا نقول كما تقول المعتزلة: من ارتكب كبيرة لا يسمى مسلماً ولا كافراً
قال المؤلف رحمه الله: ولا نخوض في الله
الشرح: أي لا نفكر في ذات الله، لأن التفكر في ذات الله يؤدي إلى الحيرة والضلال ويؤدي إلى تشبيه الله بخلق ولذلك منعنا من التفكر في ذات الله، وليس من التفكر في ذات الله والخوض فيه تنزيهه عن مشابهة الخلق بقول: إن الله موجود أزلي أبدي، كان قبل الزمان والمكان، لا يتصف بشيء من صفات البشر، وإنه يرى بلا حدقة، ويسمع بلا صماخ وأذن، ويتكلم كلاماً ذاتياً ليس حرفاً ولا صوتاً، ونحو ذلك من مقالات علماء أهل السنة من السلف والخلف، إنما هذا تنزيه لله عملاً بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى:11)، إنما هلك من هلك في تشبيه الله تعالى بخلقه كقولهم: بأنه مستقر على العرش، وأنه ينزل بذاته من فوق إلى أسفل ويصعد بذاته من أسفل إلى أعلى لأنهم قاسوا الخالق على المخلوق فكذبوا بذلك قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى:11
قال المؤلف رحمه الله: ولا نُماري في دين الله
الشرح: أي لا نجادل في دين الله جدالاً نهى الله تبارك وتعالى عنه وهو الجدال فيما لا يعلم، فمن عرف الحق يجادل لإحقاق الحق أما من لم يعرفه فلا يماري. قال المؤلف رحمه الله: ولا نجادل في القرآن: الشرح: المعنى أنه لا نحكم في القرآن بنفي شيء يحتمل أن يكون منه ولا بإثبات شيء من غير علم أنه منه فنقرأ ما علمنا أنه منه ولا ننفي شيئاً ولا نثبت شيئاً أنه منه بدون علم لأن القرآن نزل على عدة وجوه، فقد ينكر الشخص قراءة هي ثابتة عن رسول الله وهو لم يعرفها
قال المؤلف رحمه الله: ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلّمه سيّد المرسلين محمداً صلّى الله عليه وسلم وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه
الشرح: أي لا نقول القرآن مخلوق، فإن القرآن إذا أريد به الصفة الذاتية التي ليست حرفاً ولا صوتاً فظاهر أنه غير مخلوق، أما إن أريد به اللفظ المنزل فيجب اعتقاد أنه مخلوق لله تعالى، لكن لفظاً لا يقال إلا لحاجة التعليم. والروح الأمين هو جبريل قال الله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (193) (عَلَى قَلْبِكَ) (194) الشعراء
قال المؤلف رحمه الله: ولا نخالف جماعة المسلمين
الشرح: المراد بالجماعة أهل السنة والجماعة وهم من كان على ما كان عليه الرسول صلّى الله عليه وسلم والصحابة من العقائد. ومعنى كلامه لا نخالف إجماع المجتهدين فقد ثبت عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه: "لا يجمع الله أمة محمد على ضلالة" رواه الحافظ ابن حجر في أماليه وصححه
قال المؤلف رحمه الله: ولا نُكفّر أحداً من أهل القِبلة بذنب ما لم يستحلّه
الشرح: المراد بأهل القبلة المؤمنون، فمن كان على الإيمان لا يجوز تكفيره من أجل الذنب إلا إذا استحل الذنب وكان ذلك الذنب معلوماً من الدين بالضرورة أنه ذنب فهذا الذي يكفر
قال المؤلف رحمه الله: ولا نقول لا يضُرُّ مع الإيمان ذنب لمن عمله
الشرح: هذا فيه رد على المرجئة في قولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع الطاعة مع الكفر، عندهم مهما عمل المؤمن من المعاصي لا يعاقب، وهذا خلاف مذهب أهل السنة وفيه رد للنصوص وهو كفر
قال المؤلف رحمه الله: نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم
الشرح: أي أن من رأيناه ظاهراً محسناً أي طائعاً نقول نرجو الله أن يعفو عنه ويدخله الجنة بلا عذاب، ولا نقطع بالحكم على الواحد منهم بأنه لا يصيبه العذاب في الآخرة البتة، لكن نقول إن كان هذا الإنسان تقيّاً فإنه يدخل الجنة من غير
عذاب
قال المؤلف رحمه الله: ولا نشهد لهم بالجنة
الشرح: معناه لا نشهد من تلقاء أنفسنا أن فلاناً من أهل الجنة، أما من ورد فيه النص أنه من أهل الجنة فنشهد له كأهل بدر وأهل أحد وأناس آخرين بشرهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بالجنة
قال المؤلف رحمه الله: ونستغفر لمسيئيهم ونخاف عليهم ولا نقنّطهم
الشرح: نستغفر للمسيء من المسلمين ونخاف عليه أن يعذب بذنوبه إذا لم يتب منها، أما من تاب منها على تقدير أن توبته عند الله ثابتة كما هي في ظاهر الأمر عندنا نقول أنه آمن من عذاب الله قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر:53). ومعنى: "ولا نقنّطهم" أي المذنبين العصاة لا نجعلهم آيسين من رحمة الله، فنقول يجوز أن يسامحهم الله ويجوز أن يعذبهم
قال المؤلف رحمه الله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القِبلة
الشرح: الأمن من مكر الله والإياس من رحمة الله كلٌّ منهما يخرج الإنسان من دين الله، هذا على تفسير الحنفية فعندهم يعتبرونهما كفراً، أما عند الشافعية فإنهم يعتبرون هذين من الكبائر ولا يعتبرونهما من الكفريات، وسبيل الحق بين الأمن والإياس، نقول إن متنا ونحن بحالة التوبة نجونا من عذاب الله في القبر والآخرة، وإلا فيجوز أن يسامحنا الله ولا يعذبنا بذنوبنا، ويجوز أن يعذبنا بها. وتفسير الأمن من مكر الله أن الذي نفى عذاب الله للعصاة فهذا أمن من مكر الله وكان من الكافرين، وكذلك الإياس من رحمة الله أي الذي يعتقد أن الله لا يغفر الذنب للمسلم التائب فهو كافر، هذا تفسيرهما عند الحنفية، وأما الأمن من مكر الله عند الشافعية المعدود من الكبائر فهو أن يسترسل في المعاصي اتكالاً على رحمة الله، وأما اليأس من رحمة الله عندهم فهو أن يجزم الشخص أن الله لا يرحمه لذنوبه بل يعذبه فهو أيضاً عندهم كبيرة وليسا عندهم من نوع الردة، وعلى هذا المعنى عدّهما كثير من الشافعية في كتاب الشهادة من الكبائر التي تمنع قبول الشهادة
قال المؤلف رحمه الله: ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيها
الشرح: العبد لا يخرج من الإيمان بالذنب إلا أن ينكر ما أدخله في الإيمان وهو التكذيب بدين الله صريحاً أو ضمناً، فإذا قال قولاً يكون تكذيباً لشرع الله بعبارة صريحة هذا نعتبره خارجاً من دين الله، أو فعل فعلاً هو في معنى التكذيب هذا أيضاً نعتبره خارجاً من الإيمان، وكذا إن اعتقد اعتقاداً يخالف عقيدة الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله: والإيمان هو الإقرار باللسان والتّصديق بالجنان:
الشرح: الإيمان هو الإقرار بالشهادتين مع التصديق القلبي، قال النووي: من صدّق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو كافر مخلد في النار بالإجماع
قال المؤلف رحمه الله: وجميع ما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق
الشرح: قال الشيخ أحمد المرزوقي: وكلُّ ما أتى به الرسول فحقُّه التسليم والقبول
قال المؤلف رحمه الله: والإيمان واحد وأهله في أصله سواء والتّفاضل بينهم بالخشية والتُّقى ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى
الشرح: أي أن الإيمان باعتبار أصله شيء واحد بين المؤمنين كلهم لا يفضل هذا على هذا، لكن باعتبار صفته يكون التفاضل، فمن كان خاشياً لله تعالى تقياً مخالفاً لهواه ملازماً للأولى أي سالكاً مسلك الورع هذا يزيد على غيره أي يزيد
إيمانه على إيمان غيره من حيث الوصف، أما من حيث الأصل فلا يزيد إيمان على إيمان
قال المؤلف رحمه الله: والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن
الشرح: المؤمنون كلهم يدخلون في الولاية العامة أما الولاية الخاصة فهي لأهل الاستقامة فقط
قال المؤلف رحمه الله: وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن
الشرح: اي أشدهم طاعة هو أكرمهم عند الله الذي هو أتبعهم للقرآن أي أشدهم عملاً بالقرآن
قال المؤلف رحمه الله: والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومرّه من الله تعالى
الشرح: أي هذه المذكورات أهم الأمور وأعظمها فيجب الإيمان بها، والقدر هنا معناه المقدور أي أن تؤمن بالمقدور خيره وشره وحلوه ومره أنه من الله أي أنه حصل من الله بمشيئته وعلمه، أما صفة الله التقدير فلا توصف بذلك، فلا يقال هذا
منه خير أو منه شر لأن صفات الله كلها كمال ليس فيها نقص، والقدر إذا أريد به تقدير الله الذي هو صفته لا يقال شر القدر، والحلو ما يلائم الطبع، والمرّ ما لا يلائم الطبع
قال المؤلف رحمه الله: ونحن مؤمنون بذلك كله لا نُفرّق بين أحد من رسله ونُصدقهم كلهم على ما جاءوا به
الشرح: معناه نؤمن بجميع رسله وأنبيائه ونصدقهم جميعهم
قال المؤلف رحمه الله: وأهل الكبائر من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين
الشرح: أهل الكبائر إن ماتوا مؤمنين لكنهم لم يتوبوا لا يخلدون في النار، لذلك قال: "وإن لم يكونوا تائبين" أي لو لم يتوبوا لا يخلدون خلاف ما تقوله المعتزلة
قال المؤلف رحمه الله: بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين
الشرح: معنى قوله: "لقوا الله عارفين" أي عارفين بالله ورسوله، وقوله: "مؤمنين" أي مذعنين في قلوبهم بذلك، هؤلاء لو ماتوا بلا توبة لا يخلدون في النار، ومن عُذب منهم لا بد أن يخرج من النار ويدخل الجنة
قال المؤلف رحمه الله: وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء:48)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته وذلك بأن الله تعالى تولّى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نُكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته اللهم يا وليّ الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به
الشرح: معنى: "ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين أي أنه من عقائد أهل السنة أن عصاة المؤمنين الذين ماتوا بلا توبة وكانوا من أهل الكبائر إذا عذبهم الله أي عذب من شاء منهم لا بد أن يخرجهم من النار برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، وهؤلاء الشافعون إما ان يكونوا أنبياء، وإما ان يكونوا علماء أتقياء، أو يكونون بصفة أخرى كالشهداء. وقوله: "وذلك بأن الله تولى أهل معرفته"، معناه أن الله حافظ أهل معرفته المؤمنين به. ومعنى: "نكرته" أي كذبوا به إما بنفي وجود الله كالدهرية وإما بعبادة غيره وإما بتكذيب رسوله أو نحو ذلك. ومعنى: "ولم ينالوا من ولايته" أي ما صار لهم حظ من ولاية الله تعالى يعني الولاية العامة وهو الإسلام. وقوله: "ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به" أي ثبتنا على الإيمان حتى نموت، وهذا هو المراد بلقاء الله
قال المؤلف رحمه الله: ونرى الصلاة خلف كل برّ وفاجر من أهل القِبلة
الشرح: المعنى أنه يجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة مع الكراهة خلف الفاجر، والمعروف في مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه لا تصح الجماعة خلف الفاجر إلا في الجمعة والعيد. وقوله: "نرى" أي نعتقد
قال المؤلف رحمه الله: وعلى من مات منهم
الشرح: أي نعتقد وجوب الصلاة على من مات من المسلمين برّهم وفاجرهم، والبرّ هو التقي، والفاجر هو من كان من أهل الكبائر
قال المؤلف رحمه الله: ولا نُنَزِّلُ أحداً منهم جنة ولا ناراً
الشرح: أي لا نحكم من تلقاء أنفسنا بأن فلاناً من أهل الجنة وأن فلاناً من أهل النار، ولو كان منغمساً في الذنوب فما يدرينا إن كان الله كتب له الموت على التوبة، وكذلك لا ندري إن كان هذا الإنسان الذي ظاهره الآن الخير ممن كتب عليهم الشقاوة فإنه لا بد أن يختم له بعمل أهل النار، لذلك لا نقول فلان من أهل الجنة أو فلان من أهل النار من تلقاء أنفسنا إلا من شهد له الشرع. أبو لهب نقول عنه من أهل النار لأن القرآن شهد عليه، أما أهل بيعة الرضوان وأشباههم نشهد لهم بالجنة لأن الشرع شهد لهم
قال المؤلف رحمه الله: ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك
الشرح: أي لا نكفر أحداً بدون دليل، ولا نحكم على أحد بالشرك بدون دليل، ولا بالنفاق بدون دليل شرعي، أما النفاق فهو اعتقاد خلاف ما يظهره الشخص عن نفسه
قال المؤلف رحمه الله: ونذر سرائرهم إلى الله تعالى
الشرح: أي أن نقول: الله أعلم بما في قلوبهم، لأن الله هو المطّلع عليها دون العباد فوجب تفويض ذلك إليه
قال المؤلف رحمه الله: ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف
الشرح: أي لا يجوز قتل المسلم البر والفاجر إلا من ثبت عليه القتل، النفس بالنفس والثيّب الزاني، كذلك يجوز قتال البغاة حتى يرجعوا إلى طاعة الخليفة
قال المؤلف رحمه الله: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا
الشرح: أي يحرم الخروج على السلطان الذي انعقدت بيعته الشرعية، ولا نحاربهم ولا نخلعهم من الخلافة وإن ظلموا، وإنما يُخرج عليهم إن كفروا
قال المؤلف رحمه الله: ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم
الشرح: يعني أنه لا ندعو عليهم دعاء يؤدي إلى تحريك فتنه، أما قوله "ولا ننزع يداً من طاعتهم" فمعناه نطيعهم وإن كانوا جائرين فيما لا معصية فيه
قال المؤلف رحمه الله: ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية
الشرح: أي الطاعة التي أمر الله بها المؤمنين لأولي الأمر هي الطاعة في طاعة الله، نعتبر فرضاً من الله تعالى طاعة أولي الأمر
قال المؤلف رحمه الله: وندعو لهم بالصلاح والمعافاة
الشرح: أي ندعو لهم أن يصلحهم الله، وقوله: "المعافاة" أي أن يزيل عنهم ما بهم من الجوْر والظلم بأن يتوب عليهم
قال المؤلف رحمه الله: ونتْبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة
الشرح: قوله: "السنة والجماعة" هم الذين يعتقدون عقيدة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وإنما سمّوا أهل السنة لأنهم على سنة رسول الله ، لأن الرسول أمر باتباع ما كان عليه أصحابه، وأما تسميتهم بالجماعة فلأنهم لم يخرجوا عن جمهور الأمة في الاعتقاد الحق، أما الشراذم المفترقة عنهم إلى اثنتين وسبعين فرقة هذه خالفت اعتقاد الصحابة. ويعني بالشذوذ الخروج عن الإجماع في المسائل الاجتهادية التي اجتهد فيها أهل الاجتهاد، وبالخلاف مخالفة من خالف ذلك بفراقهم
قال المؤلف رحمه الله: ونحب أهل العدل والأمانة ونُبغض أهل الجور والخيانة
الشرح: هذا يؤكد تضمن حرمة الخروج عن الإجماع، وأراد المؤلف بأهل العدل والأمانة أهل السنة المتمسكين بالعدل من ولاة الأمور، وأراد بأهل الجور والخيانة أهل الخلاف والعصيان
قال المؤلف رحمه الله: ونقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه
الشرح: أي الشيء الذي لا نعلمه نقول نفوّض فيه العلم إلى الله، والمعنى أن الإنسان قد يتشكك عندما يشتبه عليه الأمر، فعندئذ يلجأ إلى التفويض إلى الله ويعتقد الحقية في كل ما ثبت عن الله وعن رسوله، ويعرف يقيناً أن عقول الخلق قاصرة
عن الحِكَم البشرية فكيف تُدرك جميع الحكم الربوبية، كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "يا أيها الناس اتهموا آراءكم، وأحسنوا الظن برسول الله فيما يُروى لكم عنه
قال المؤلف رحمه الله: ونرى المسح على الخفين في السفر والحَضَر كما جاء في الأثر
الشرح: لا مخالف في هذه المسألة بين الصحابة ولا من بعدهم من أهل الحق، فحديث المسح على الخفين متواتر رواه عدد لا يحصى من المحدثين في مؤلفاتهم عن سبعين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برّهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يُبطلهما شيء ولا ينقضهما
الشرح: يعني أنه يجب الجهاد مع الإمام البر والفاجر، فإذا استنفر الإمام المسلمين للجهاد وجب عليهم طاعته إن كان براً وإن كان فاجراً والمراد جهاد الكفار، وكذلك يطاع للحج أن يقتدي به ولا يتمرد عليه لأنه أدرى بمصلحة العبادات كما هو أدرى بمصلحة الجهاد أي قتال الكفار
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بالكرام الكاتبين فإن الله قد جعلهم علينا حافظين
الشرح: الكرام الكاتبون هم الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بكتابة أعمال العباد فإن الله جعلهم علينا حافظين، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (11) (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (12) سورة الانفطار
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بملك الموت الموكّل بقبض أرواح العالمين
الشرح: العالمون هم الإنس والجن، وملك الموت المراد به عزرائيل وعند بعضهم عزرائيل وأعوانه، وقد جاء الإسناد إسناد التوفي إلى الملائكة بلفظ الجمع وجاء بلفظ الإفراد، ففي الموضع الذي جاء اللفظ بالإفراد يكون المعنى أن الذي يقبض الأرواح مباشرة هو عزرائيل ثم يستلم منه الأرواح غيره من الملائكة الذين يكونون معه وهم قسمان ملائكة رحمة وملائكة عذاب، وحيث جاء بصيغة الجمع فالمراد عزرائيل وأعوانه لأن كلّاً منهم له دخل في قبض الروح
قال المؤلف رحمه الله: وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً
الشرح: يجب الإيمان بعذاب القبر للكفار وأهل الكبائر إلا من رحمه الله تعالى منهم -أي من أهل الكبائر-، ومن أكبر أسبابه ترك الاستنزاه من البول والغيبة والنميمة. والدليل على وجود عذاب القبر قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:46)، وأحاديث منها قوله عليه السلام: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" رواه الدارقطني
قال المؤلف رحمه الله: وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم
الشرح: أي ونؤمن بذلك أيضاً، والسؤال للبالغين المكلفين من هذه الأمة فقط، ويستثنى الأنبياء وشهداء المعركة والأطفال فإنهم لا يسألون ،ولا يجب معرفة كيفية السؤال، ولكن يجب اعتقاد أن الميت يعود إليه عقله وإحساسه بعود الروح إلى الجسم
قال المؤلف رحمه الله: والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
الشرح: قوله: "روضة من رياض الجنة" ليس المراد به أن القبر يصير مثل الجنة سواء، وكذلك قوله: "أو حفرة من حفر النيران" معناه أن فيه نكداً، والنكد أنواع كثيرة، وهذا تشبيه مجازي، والتقدير القبر كروضة من رياض الجنة أو كحفرة من حفر النيران
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان
الشرح: أي يجب الإيمان بما ذكر لأن كلاً ورد به النص الشرعي، والبعث هو بعث الله تعالى الموتى من القبور، وقوله: "وجزاء الأعمال" دلت الدلائل أن يكون الإيمان واجباً على التأبيد والكفر حراماً على التأبيد، ودلت الدلائل على أن يكون جزاؤهما على التأبيد، وجعلت الحياة الدنيا للعمل إلى الموت، وجعل الموت للنقل إلى الآخرة التي فيها يبعثون جميعاً للجزاء الوفاق، ولو كان وقوع ابتداء الجزاء المؤبد في الدنيا لبطلت المحنة عن اختيار وكان الإيمان اضطرارياً بالمعاينة للعذاب، وقد قام الدليل القطعي على أن الإيمان لا ينفع عند معاينة البأس، وجعل الجزاء في دار البقاء قال تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4) أي يوم الجزاء. وقوله: "يوم القيامة" لأن الدنيا لا تصلح أن تكون دار الجزاء العام لأنها جعلت دار العمل والآخرة جعلت دار الجزاء. وقوله: "والعرض" أي العرض على أسرع الحاسبين. وقوله: "وقراءة الكتاب" أي يعرض كتاب المرء يوم القيامة الذي كتبته الملائكة فيقال له اقرأ كتابك، فيرى فيه أعماله. وقوله: "والثواب والعقاب" فقد تضمن ذلك قوله: "وجزاء الأعمال" وأعيد تأكيداً ومبالغة. وأما قوله: "والصراط" فلقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) (مريم:71)، ولما ثبت عن رسول الله أنه يُضرب الصراط على متن جهنم، وقد اختلف في تفسير الورود، والصواب أن الورود على وجهين: ورود دخول وورود عبور، فورود الدخول للكفار ولبعض عصاة المسلمين، وورود العبور للأتقياء. وأما الإيمان بالميزان والوزن فلقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (الانبياء:47) وللأخبار الواردة في ذلك
قال المؤلف رحمه الله: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان
الشرح: يفهم من كلامه هذا ضلال من قال بفناء الجنة والنار وهم الجهمية وكذلك من قال بفناء جهنم وهو ابن تيمية وكلا الفريقين كافر
قال المؤلف رحمه الله: وإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخَلق
الشرح: أي يجب أن نؤمن بأن الجنة والنار خُلقتا قبل البشر وهم المرادون بقوله: "قبل الخلق" أي قبل البشر، وليس معناه قبل كل شيء خلق الله الجنة والنار
قال المؤلف رحمه الله: وخلق لهما أهلاً فمن شاء منهم الجنة فضلاً منه ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه وكل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خُلق له
الشرح: يجب الإيمان بأن الله خلق للجنة والنار أهلاً فمن أدخله الجنة فبفضله ومن أدخله النار فبعدله. وقوله: "وكل يعمل لما قد فرغ له وصائر إلى ما خلق له" أي أن كلاً من العباد يعمل لما قد كتبه الله تبارك وتعالى له في اللوح، ومما يدل على أن الثواب في الجنة من الله تعالى قوله صلّى الله عليه وسلم: "لا يُنجي أحدكم عمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة" رواه الإمام أحمد. وقوله: "عدلاً" ذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو تعالى يتصرف في ملكه ولم يتصرف في ملك غيره، فيعذب على ترك الأوامر وارتكاب النواهي فكان تعذيبه لهم عدلاً وحكمة، وهذا مفهوم من قوله صلّى الله عليه وسلم: "لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم" رواه أبو داود، فطاعة الطائع فضل من الله فالعبد وعمله ملك لله قال تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) النور:21
قال المؤلف رحمه الله: والخير والشر مُقدّران على العباد
الشرح: أي أن الله قدّر الخير والشر على العباد أي قدّر بعلمه ومشيئته مع ما جعله الله في العبد من الاختيار هذا معناه، قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان:2
قال المؤلف رحمه الله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوُسع والتّمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهي كما قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة:286
الشرح: الاستطاعة عند أهل الحق نوعان: استطاعة تكون مع الفعل تقارنه، واستطاعة تكون من شأنها سابقة للفعل حتى يحصل الفعل بها، فالاستطاعة التي تكون مع الفعل هي التي يتحقق بها من العبد الفعل يحدثها الله مقرونة بالفعل ففي الطاعات تسمى توفيقاً وفي المعاصي تسمى خذلاناً، هذا عند أهل الحق، وأما البدعيون فيقولون تلك الاستطاعة التي هي عند أهل الحق مقارنة للفعل متقدمة للفعل عندهم، وهذا خلاف الصحيح، وأما الاستطاعة الثانية هي سلامة الأسباب والآلات اي كون الحواس التي يتأدى بها الفعل سالمة، هذه قبل الفعل ليس فيها خلاف، وهذه الاستطاعة الثانية هي التي يتعلق بها الخطاب يعني الخطاب التكليفي، أي أن الله تعالى خاطب عباده بأداء أوامره واجتناب نواهيه هذا هو الخطاب الذي يعنيه المؤلف
قال المؤلف رحمه الله: وأفعال العباد خلْق الله وكسْب العبد
الشرح: يعني أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله وهي بالنسبة للعباد كسب، فالأفعال الاختيارية تقع كسباً للعبد وخلقاً من الله تعالى، فهو سبحانه يخلقها والعبد لا يخلقها وإنما يكتسبها، ويقال يعملها، كل هذا عبارة عن أمر واحد، وهذا المذهب الحق وهو خارج عن الجبر، وعن مذهب المعتزلة الفاسدين
قال المؤلف رحمه الله: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يُطيقون، ولا يُطَيّقُون إلا ما كلّفهم
الشرح: الجملة الأولى معناها ظاهر، وأما الجملة الثانية فمعناها لا يُلزمون، أي ليس للعباد أن يلزموهم إلا ما كلفهم الله به، فيُطيقون في الجملة الأولى بضم الياء وكسر الطاء وأما في الثانية فيتعين قراءتها بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الياء التي بعدها، ولا يصح معنى هذه الجملة الثانية إلا على هذا الوجه لظهور فساده، لأن المعنى على ذلك ينحل إلى أن العباد لا يستطيعون أن يفعلوا سوى ما كلفهم الله به، والواقع أن العباد قادرون على أن يخالفوا ما كلفهم الله به وذلك حال أكثر البشر
قال المؤلف رحمه الله: وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله نقول: لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحُّل لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله
الشرح: قوله: "إلا بمعونة الله" أي إلا بعصمته، هنا عبّر المؤلف بالمعونة، أما في التفسير الذي رواه عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم فلفظه: إلا بعصمة الله، ولو عبّر بذلك كان أحسن، وهذا هو حقيقة العبودية أن يكون العبد مفتقراً إلى الله في العصمة عن المعاصي والتوفيق للطاعات، فالعبد محتاج إلى الله في الأمرين في التحفظ عن المعاصي والقدرة والتمكن على الطاعات، فلذلك سمّى رسول الله في الخبر الصحيح هذه الكلمة كنزاً من كنوز الجنة فإنه قال لأبي موسى الأشعري: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة" قال: وما هو؟ قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" رواه الإمام أحمد، وأجتمعت الأمة على كونها من أصول العقائد وهي كقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29)، والمعنى: أن العباد لا تكون لهم مشيئة إلا ان يشاء الله أن يشاؤا، فما شاء الله في الأزل أن يشاء العباد تحصل مشيئتهم وإلا فلا تحصل مشيئتهم
قال المؤلف رحمه الله: ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله
الشرح: أي لا يقوى أحد على عمل الخيرات إلا بتوفيق الله، كما أنه لا يعتصم عن السوء من المعاصي إلا بعصمة الله
قال المؤلف رحمه الله: وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره
الشرح: أي أن كل عمل يعمله ابن آدم وغير ذلك مما يدخل في الوجود من أعيان وأعراض لا يدخل في الوجود إلا بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره، فلا يحصل شيء من العالم إلا بهذه الصفات الأربع
قال المؤلف رحمه الله: غلبت مشيئته المشيئات كلها وغلب قضاؤه الحيل كلها
الشرح: أي لا يتنفذ شيء من مشيئات العباد إلا ان يشاء الله نفوذها، فهم يشاءون لكن لا تتنفذ مشيئاتهم إلا بمشيئة الله فما شاء الله نفوذها منها نفذ، وما لم يشأ نفوذه لم ينفذ، وذكر المؤلف أن حيل العباد لا توصل إلا إلى ما قضى الله تبارك وتعالى، فما لم يقض الله تبارك وتعالى، أي ما لم يخلقه لا تنفذ الحيل فيه
قال المؤلف رحمه الله: يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً تقدّس عن كل سوء وحيْن
الشرح: ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (هود:107) وقوله: "تقدّس" أي الله "عن كل سوء وحيْن" أي ظلم، فالله تبارك وتعالى منزه عن السوء والظلم لأن الخالق لا يُتصور منه الاتصاف بالظلم والجوْر، فالظلم يُتصور من الكاسب وهو العبد أما الخالق فلا يتصف بالظلم، لأن الخالق يتصرف في ملكه الذي هو مالكه الحقيقي، أما العبد فيتصرف في ملك غيره، فما تصرَّفه بإذن خالقه لا يكون ذلك ظلماً وما تصرَّفه بخلاف إذن خالقه أي الإذن الشرعي كان ذلك ظلماً منه أي من العبد
قال المؤلف رحمه الله: وتنزّه عن كل عيب وشيْن
الشرح: أي تنزه عن كل نقص
قال المؤلف رحمه الله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون
الشرح: أي أن العباد هم يسألون عما يفعلون
قال المؤلف رحمه الله: وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات
الشرح: الدعاء ينفع أموات المسلمين بالإجماع والصدقة كذلك تنفع بالإجماع، وكذلك قراءة القرآن على القبر تنفع الميت، وقد استدل على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقه النبي صلّى الله عليه وسلم اثنين ثم غرس على قبر نصفاً وعلى قبر نصفاً وقال: "لعله يخفف عنهما مالم ييبسا" رواه الشيخان. ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن، وقال النووي: "استحب العلماء قراءة القرآن عند القبر، واستأنسوا لذلك بحديث الجريدتين وقالوا: إذا وصل النفع إلى الميت بتسبيحهما حال رطوبتهما فانتفاع الميت بقراءة القرآن عند قبره أولى" اهـ، فإن قراءة القرآن من إنسان أعظم وأنفع من التسبيح من عود، وقد نفع القرآن بعض من حصل له ضرر في حال الحياة، فالميت كذلك
قال المؤلف رحمه الله: والله تعالى يستجيب الدّعوات ويقضي الحاجات
الشرح: الله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات فضلاً منه وكرماً لا وجوباً، فلو لم يستجب لم يكن ذلك ظلماً، لكنه أخبر بأنه يستجيب فلا يتخلف كلامه، لكنه يستجيب ما شاء أن يعطيه للعباد وليس كل ما يطلبون
قال المؤلف رحمه الله: ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غِنى عن الله طرفة عين، ومن (زعم أنه) استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين
الشرح: يعني أن الله مالك كل شيء، وأن كل شيء يحتاج إلى الله تعالى لأنه هو الذي أوجده، ومن اعتقد أنه يستغني عن الله طرفة عين فهو كافر وصار من أهل "الحيْن" وهو الهلاك
قال المؤلف رحمه الله: والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى
الشرح: يعني أنه يجب إثبات صفة الغضب وصفة الرضى لله مع تنزيهه تعالى من أن يكون غضبه ورضاه تأثّراً، بل هما صفتان أزليتان قديمتان أبديتان، أما ماورد في الحديث الذي رواه البخاري من أن آدم وغيره يقولون: "إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله"، فالمراد بذلك آثار الغضب وليس المراد الصفة، لأن الصفة أزلية أبدية ليست طارئة في ذات الله، معناه أن الله تعالى أعدّ في ذلك اليوم من آثار الغضب مالم يسبق قبل ذلك ولا يفعل بعد ذلك ما هو أشد منه لأن الله تعالى شاء أن يكون أن يحصل ذلك اليوم من آثار الغضب منتهى الآثار، لكن الله تعالى قادر على أن يخلق ما هو أشد من ذلك لكنه لا يفعل، فالعذاب الذي أعدّه لأعدائه شاء في الأزل أن يصيبهم في الآخرة لا يتجاوز ذلك الحد الذي شاء، هذا معنى ما ورد في حديث الشفاعة، ليس معناه أنه تأثر ذلك الوقت لأن التأثر مستحيل على الله لأن الذي يتأثر لا بد أن يكون حادثاً
قال المؤلف رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرّأ من أحد منهم ونُبغض من يُبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحُبُّهم دين وإيمان وإحسان
الشرح: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هم من لقوه مؤمنين به في حياته على الوجه المتعارف، ليس ما يكون بطريق خرق العادة، فالأنبياء الذين اجتمعوا به ليلة المعراج في المسجد الأقصى لا يعدّون صحابة لأن ذلك الاجتماع ليس على الوجه المتعارف، أما قوله: "ولا نفرط في حب أحد منهم" أي لا نتجاوز الحد في محبة أحد كما تجاوز بعض المبتدعة، ومعنى قوله "ولا نتبرأ من أحد منهم" أي لا نكفّر منهم أحداً، ومعنى "ولا نذكرهم إلا بخير" هذا من حيث الإجمال أما من حيث التفصيل فنمدح ونذم على حسب ما يقتضيه الشرع. أما قوله "ولا نتبرأ من أحد منهم" إلى قوله "وإحسان" ليس معناه أنه يساوي بين كل من ثبتت له الصحبة في المحبة والتعظيم والإجلال فذلك غير المراد إنما المراد أننا لا ننبذ أحداً ممن ثبتت له الصحبة وثبت على مقتضاها إلى آخر حياته أي لا نُخرج أحداً منهم من حكم الصحبة، هذا المقصود، لأن الصحبة إذا أخذت على معنى مطلق الاجتماع مع الإيمان به تشمل من قال الرسول فلان في النار، قال عن شخص من أهل الصفّة وُجد معه دينار أو ديناران: "كيّة أو كيّتان بالنار" فقد كان يتظاهر بالفقر ويخفي مالاً، وقال عن آخر كان مع الرسول في الغزو فغلّ شملة أي أخذها سرقة قبل أن تقسم المغانم: "رأيت شملته تشتعل عليه ناراً"، وقال عن شخص آخر كان يقاتل في بعض الغزوات الكفار قتالاً شديداً فأعجب بعض الصحابة لما رأوا من نشاطه ثم قال الرسول عنه: "إنه في النار" رواه البخاري. ولعل سبب تلك المقالة أنه كان يرائي، والحاصل أنه ليس كل فرد منهم كان تقيّاً صالحاً، ثم قوله صلّى الله عليه وسلم في أهل صفين الذين قاتلوا عليّاً "إنهم دعاة إلى النار" فهؤلاء الذين قاتلوا في صفين قسم قليل منهم من الصحابة والقسم الأكبر لم يكونوا من الصحابة إنما من الذين أسلموا من أهل الشام من الذين موّه عليهم معاوية وأوهمهم أن علياً كان له يد في قتل عثمان وعلي بريء من ذلك ، ثم هو -أي معاوية- بعد أن حصل على مطلوبه كفّ يده عن أولئك الذين قتلوا عثمان، فعُلم بذلك أنه كان يطلب الدنيا كما قال علي رضي الله عنه فيما رواه عنه مسدد في مسنده، فهؤلاء الذين نزلت مرتبتهم عن أكابر الصحابة نحبهم من جهة واحدة لاسم الصحبة ، نحبهم باعتبار هذه الناحية ونحبهم لأنهم خدموا الدين
قال المؤلف رحمه الله: وبُغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطُغيان
الشرح: المراد بهذا بغض جميعهم، فمن أبغض جميع الصحابة فهو كافر، ولا يعني من ذلك أن من أبغض واحداً يكون كافراً ولا سيما إن كان بغضه لبعض لسبب شرعي
قال المؤلف رحمه الله: ونُثبت الخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمربن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون
الشرح: يعلم من هذه العبارة أن أفضل أمة محمد عند الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، أما تفضيل أبي بكر وعمر على من بعدهما فبإجماع أهل الحق، وأما تفضيل عثمان على عليّ فهو على ما عليه أكثر أهل السنة، وقد خالف بعض أهل السنة في ذلك فقال لا نفضل هذا على هذا ولا هذا على هذا. والخلفاء الراشدون ليس معناه حصر الخلافة الراشدة وكذلك عمر بن عبد العزيز يسمى خليفة راشداً
قال المؤلف رحمه الله: وإن العشرة الذين سماهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقوله الحق وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين
الشرح: أي أنه نشهد بالجنة للعشرة الذين بشرهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنة كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره. وسعد بن أبي وقاص اسمه مالك، وأما سعيد فهو سعيد بن زيد، وأما أبو عبيدة فاسمه عامر
قال المؤلف رحمه الله: ومن أحْسَنَ القول في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق
الشرح: يعني أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم اللاتي فزن بعشرته يجب تعظيمهن ومحبتهن كما يجب محبة الصحابة، والرجس المذكور في قوله تعالى: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (الأحزاب:33) هو الشرك، والتقديس والتطهير، وهذا الفضل شامل لأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين والعباس ونحوهم، ولا يُتوهم أن أهل البيت خاص بالذكور بدليل قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (هود:73) والخطاب في هذه الآية إلى زوجة إبراهيم
قال المؤلف رحمه الله: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل
الشرح: ذلك لأن تعظيم هؤلاء وتوقيرهم من تعظيم دين الله، وهم خلفاء الرسول في تبليغ الشريعة إلى الناس فوجب توقيرهم وتعظيمهم واتباعهم، ولأن الله ندبنا إلى الدعاء والاستغفار لهم بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر:10) الآية، فهذا هو سبيل المؤمنين أن يوالي بعضهم بعضاً لحق الإيمان الذي جمعهم وقد قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71)، فمن ذكرهم بسوء فقد عدل عن سبيل الموالاة الدينية، وذلك من علامات النفاق والخذلان، وذلك لأنهم بصلاحهم صاروا أحباب الله
قال المؤلف رحمه الله: ولا نفضّل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء
الشرح: وذلك لقوله تعالى: (وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأنعام:86)، أي كلاً من الأنبياء الذين ذُكروا فضلناه على العالمين وذلك من مرتبة النبوة، ويشاركهم في ذلك غير المذكورين لأن الصفة التي فضلوا من أجلها موجودة في الجميع وهي النبوة. ولا يجوز تأويل الآية بأن المراد عالمو زمان أولئك المذكورين، لأن هذا تأويل بلا دليل وهو ممنوع
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصحّ عن الثقات من رواياتهم
الشرح: يجب الإيمان بكرامات الأولياء، وهم المؤمنون المستقيمون بطاعة الله، ثم الكرامة هي أمرخارق للعادة تظهر على يد المؤمن المستقيم بطاعة الله. ويحتمل أن يكون مراد المؤلف بقوله: "كراماتهم" ما يشمل معجزات الأنبياء لأنه من حيث المعنى اللغوي كرامة وإن كان يُخص باسم المعجزة ما يحصل للأنبياء مما يتحدّون به أممهم الكافرين، فلا يمنع ذلك من إطلاق مثل هذه العبارة في هذا الموضع بالمعنى الشامل للأمرين، ويحتمل أن يكون أراد بقوله: "كراماتهم" الأولياء دون الأنبياء
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدّجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء
الشرح: الأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، وأول هذه الأشراط على ظاهر ما ورد في مسلم خروج الدجال، ثم الأشراط قسمان : كبرى وهي عشرة ، وما سوى ذلك يقال لها الأشراط الصغرى، ونزول عيسى من السماء من الأشراط الكبرى، أما ما ذكر بعض كُتّاب القاديانية في منشور له أن ما جاء في الحديث من نزول عيسى لم يرد أن نزوله من السماء فهذا جهل منه بالحديث فقد وردت رواية في البيهقي وغيره: "من السماء"، هذا غرّه أنه لم يذكر في أكثر الروايات
قال المؤلف رحمه الله: ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها وخروج دابّة الأرض من موضعها
الشرح: أي يجب الإيمان بذلك، أما طلوع الشمس من مغربها فقد جاء ذكره في البخاري ومسلم، وأما موضع خروج الدابة على ما جاء في الأثر الصفا ولم يثبت ذلك بطريق صحيح فليس فرضاً علينا أن نؤمن بأن خروجها من هناك، وإنما الواجب أن نؤمن أنها ستخرج من حيث شاء الله
قال المؤلف رحمه الله: ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة
الشرح: الكاهن هو الذي يتعاطى الإخبار عما يحدث في المستقبل اعتماداً على صاحب له من الجن أو اعتماداً على النجم أو على مقدمات وأسباب اصطلحوا عليها، أما العراف فهو الذي يتحدث عن الأمور الخفية مما حصل كالسرقات والضائعات فلا يجوز تصديق هذا ولا هذا. ومعنى قوله: "وإجماع الأمة" هو اتفاق المجتهدين، فمن خالف ما اتفق عليه المجتهدون فقوله مردود، أما اتفاق مشايخ أهل بلد أو بلدين أو ثلاثة على أمر شرعي فلا يسمى إجماعاً. والدليل على تحريم إتيان العراف والكاهن أحاديث منها حديث مسلم: "من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة"، وحديث الحاكم في المستدرك: "من أتى عرّافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" أي إن اعتقد أنه يطلع على الغيب، وليس المراد من يظن أنه قد يوافق الواقع وقد لا يوافق الواقع فإنه لا يكفر بل يكون عاصياً لسؤاله إياهم، وممن يدخل في ذلك من يعتمد في إخباره على الضرب بالمندل والنظر في فنجان قهوة البن، والذي يعتمد على كتاب قرعة الأنبياء، وكتاب قرعة الطيور، وكتاب أبي معشر الفلكي الذي يدعي أن البشر كلهم أحوالهم مرتبطة بالبروج الاثني عشر وأن كل مولود يرجع أمره إلى أحد هذه الأبراج، وكذلك الذين يعتمدون على الرمل المعروف عند بعضهم والضرب بالحصى أو الحبوب لذلك، ومن الكهان من يسميهم بعض الناس الروحانيين يقولون: فلان روحاني، يعتمدون على كلامه ظناً منه أن له اتصالاً بالملائكة، وإنما هو معتمد على فسّاق الجن من كفارهم وغيرهم
قال المؤلف رحمه الله: ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفُرقة زيغاً وعذاباً
الشرح: مراده بالجماعة إجماع أهل الحق في مسألة دينية في الاعتقاد أو الفروع ويحتمل أن يكون مراده بالجماعة طاعة الإمام الذي بايعه المسلمون، لأن الخروج على الإمام الذي صحت بيعته من الكبائر، لقوله صلّى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعة لقي الله لا حجة له يوم القيامة، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية" رواه مسلم وغيره، وينطبق ذلك على الذين خرجوا على أمير المؤمينن علي رضي الله عنه وقاتلوه، ولا يصح أن يقال إنهم اجتهدوا فإن هذا ليس مبنياً على اجتهاد شرعي بدليل قول علي رضي الله عنه : "إن بني أمية يقاتلونني يزعمون أنني قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون الملك" رواه الحافظ مسدّد بن مسرهد في مسنده، وكذلك قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما فيما رواه البيهقي وابن أبي شيبة، وهذان أدرى بحال معاوية ممن قال: إنه اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، وقد نقل الفقيه المتكلم ابن فورك في كتاب مقالات الأشعري كلام الإمام أبي الحسن الأشعري في أمر المخالفين لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال ما نصه: "وكان -أي الأشعري- يقول في أمر الخارجين عليه والمنكرين لإمامته إنهم كلهم كانوا على الخطأ فيما فعلوا ولم يكن لهم أن يفعلوا ما فعلوا من إنكار إمامته والخروج عليه ، وكان يقول في أمر عائشة إنها إنما قصدت الخروج طلباً للإصلاح بين الطائفتين بها للتوسط في أمرهما، فأما طلحة والزبير فإنهما خرجا عليه وكانا في ذلك متأولين مجتهدين يريان ذلك صواباً بنوع من الاجتهاد، وإن ذلك كان منهما خطأ وأنهما رجعا عن ذلك وندما وأظهرا التوبة وماتا تائبين مما عملا، وكذلك كان يقول في حرب معاوية إنه كان باجتهاد منه وإن ذلك كان خطأ وباطلاً ومنكراً وبغياً على معنى أنه خروج عن إمام عادل، فأما خطأ طلحة والزبير فكان يقول إنه وقع مغفوراً للخبر الثابت عن النبي أنه حكم لهما بالجنة فيما رُوي في خبر بشارة عشرة من أصحابه بالجنة فذكر فيهم طلحة والزبير، وأما خطأ من لم يبشره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة في أمره فإنه مجوّز غفرانه والعفو عنه" اهـ. فهذا نص صريح من إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري بأن كل مقاتليه عصوا وأن طلحة والزبير تابا من ذلك جزماً وأن الآخرين تحت المشيئة يجوز أن يغفر الله لمن شاء منهم . فبعد هذا لا يسوغ لأشعري أن يخالف كلام الإمام فيقول : إن معاوية وجيشه غير آثمين مع الاعتراف بأنهم بغاة، وأما من يقول إنهم مأجورون فأبعد من الحق. وعنى المؤلف بالفرقة مخالفة الإجماع، والزيغ هو الميل، وقوله: "وعذاباً" أي أن الخروج من الجماعة سبب العذاب أي في الدنيا والآخرة
قال المؤلف رحمه الله: ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) (آل عمران:19) وقال تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة:3) وهو بين الغلوّ والتقصير وبين التشبيه والتعطيل
الشرح: أي أن الملائكة يدينون بالإسلام ، وأن المؤمنين من أهل الأرض من إنس وجن يدينون بالإسلام، ومعنى قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (آل عمران:19) أي أن الدين الصحيح المقبول عند الله هو الإسلام وما سواه من الأديان باطل، وفي هذا دليل على أن أول البشر كان على الإسلام لم يكن لهم دين غيره، قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) (البقرة:213)، قال ابن عباس: "كلهم على الإسلام" رواه أبو يعلى في مسنده وغيره. أما الغلو فهو مجاوزة الحد المجعول للعباد في الدين، أما التقصير فهو ترك الوصول إلى حد المأمور، وأما التشبيه فهو تشبيه الله بخلقه، وأما التعطيل فهو نفي وجود الله أو صفاته وكل واحد من المذكورات مذموم وباطل لخروجه عن العدل والحق
قال المؤلف رحمه الله: وبين الجبْر والقَدر
الشرح: يعني أن دين الله بين الجبر والقدر، والجبر هو اعتقاد أن الإنسان لا فعل له، وأما القدر فهو اعتقاد أن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية بقدرة خلقها الله فيه. وقد أفاد المؤلف بهذا أن المشبهة كفار ليسوا مسلمين وأن المعطلة كفار، وأن الجبرية كفار، وأن القدرية كفار وهم المعتزلة، وإنما أعاده ليبين ان المعتزلة كفروا بسبب الأمرين أمر التعطيل أي تعطيل الله عن الصفات وبسبب القول بأنهم يخلقون أفعالهم
قال المؤلف رحمه الله: وبين الأمن والإياس
الشرح: معنى قول المؤلف: "وبين الأمن والإياس": أن الإسلام الذي هو دين الله هو أن يكون العبد بين الخوف والرجاء، فهو حقيقة العبودية إذ في الأمن عما أوعد ظن العجز عن العقاب، وفي الإياس من رحمته ظن العجز عن العفو، وهما ينقلان عن الملة، أي أن ذلك كفر، هذا ظاهر على تفسير الماتريدية للأمن واليأس، وقد اشتهر عن الشافعية عدّهما من كبائر الذنوب غير المثبتة للردة
قال المؤلف رحمه الله: فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً ونحن بُرءاء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه
الشرح: أي أننا برءاء من هؤلاء كلهم
قال المؤلف رحمه الله: ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الرديّة مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة
الشرح: إنما سأل المؤلف الثبات على الدين لأن ذلك من أهم أمور الدين، قال تعالى خبراً عن يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف:101) . والأهواء جمع هوى وهو الأمر الباطل الذي تميل إليه النفوس، وقد يطلق الهوى بمعنى الحب، لكنه ليس المعنى المقصود هنا. وقد ذكر المؤلف المشبهة والجهمية والقدرية تأكيداً لما ذكره قبل هذا لأن التحذير من هذه المذاهب مما افترض الله. ثم المشبهة قد مرّ تفسيرها، أما الجهمية فهي طائفة منسوبة إلى جهم بن صفوان كان يقول: إن الله هو هذا الهواء مع كل شيء وعلى كل شيء، وهو يقول بفناء الجنة والنار، وتبعه ابن تيمية الحراني في القول بفناء النار، ومعنى قول المؤلف: "وحالفوا الضلالة" أي لزِموا
قال المؤلف رحمه الله: ونحن منهم براء
الشرح: هذا زيادة تأكيد لما تقدم
قال المؤلف رحمه الله: وهم عندنا ضُلّال وأردياء وبالله العصمة والتوفيق
الشرح: وهذا أيضاً فيه زيادة تأكيد لمزيد التنفير من هؤلاء كلهم. تم هذا الشرح بفضل الله تعالى وكرمه يوم الأحد تاسع شهر ذي الحجة سنة ألف وأربعمائة وخمس للهجرة المباركة في مدينة استانبول، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وأهل بيته الطاهرين الطيبين
https://www.islam.ms/ar/?p=355