شرح حديث: مَنْ نَفَّسَ عن مؤمنٍ كُرْبَةً. خطبة جمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكمل لنا الدّين وجعل أمتنا خيرَ أمة* وبعث فينا سيدنا محمدا رسولا منا يتلو علينا ءاياته ويزكّينا ويعلّمنا الكتاب والحكمة. صلى الله وسلم عليه وعلى ءاله وأصحابه أولي الفضل والهمة. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ، فإني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم القائل فى كتابه الكريم: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ (البقرة)
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "مَن نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامة. ومَن يسَّرَ على مُعْسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة. ومَن سَترَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدنيا والآخرة. واللهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عَوْنِ أخيهِ. ومَن سلَكَ طريقًا يلتمِسُ فيهِ علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة. وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينهم إلاَّ نَزَلَتْ عليهمُ السكينةُ، وغَشِيَتْهُم الرحمةُ، وحَفَّتْهُم الملائكةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فيمن عندهُ. ومَن بطَّأَ بهِ عملُهُ لم يُسْرِعْ بهِ نسبُهُ." (الحديث ٣٦ من الأربعين النووية)
فقولُهُ ﷺ: "مَن نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامة." وفى روايةٍ: "من فرَّج عن أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة." والكربةُ هي الشدة العظيمة التي توقعُ صاحبها في الكرْبِ (الحُزْنُ والغَمُّ الذي يأْخذُ بالنَّفْس). وتنفيسُها أنْ يخفِّفَ عنهُ منها. والتفريجُ أعظمُ من ذلكَ وهو أنْ تزالَ عنهُ الكربةُ فيزول همُّهُ وغمُّهُ. فجزاءُ التنفيسِ التنفيسُ، وجزاءُ التفريجِ التفريجُ. وهذا يرجعُ إلى أنَّ الجزاءَ من جنسِ العمل. وقد تكاثرتِ النُّصوص بهذا المعنى كحديث: "إنَّما يَرحَم اللهُ مِن عبادِهِ الرُّحماءَ." رواه البخاري، وحديث: "إنَّ اللهَ يُعذِّبُ الذينَ يُعذِّبونَ الناسَ في الدنيا." رواه مسلم.
وقولهُ عليه السلام: "كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة" ذلكَ لأنَّ كُرَبَ الدنيا بالنسبةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ كَلَا شىءٍ. ففي مسلمٍ عن المقدادِ بن الأسود قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: " تُدْنَى الشمسُ يوم القيامة من الخلق حتى تكونَ منهم كمقدار مِيلِ. فيكون الناس على قدرِ أعمالهم في العرَقِ. فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيهِ، ومنهم من يكون إلى حَقْوَيهِ، ومنهم من يُلجِمهُ العرقُ إلجامًا." قال: وأشار رسول الله ﷺ إلى فِيهِ.
وقولُهُ ﷺ : "ومَن يسَّرَ على مُعسرٍ يسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة." هذا أيضًا يدلُّ على أنَّ الإعسارَ يحصلُ في الآخرة. وقد وصفَ اللهُ يوم القيامةِ بأنَّهُ يومٌ عسيرٌ على الكُفَّار غيرُ يسيرٍ. قالَ تعالى: ﴿وَكَانَ يَوۡمًا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ عَسِيرٗا ٢٦﴾ (الفرقان). فدَلَّ أنَّ يُسراهُ على غيرهم.
التيسيرُ على المُعْسِرِ في الدنيا من جهةِ المالِ يكونُ بأحدِ أمرينِ: إمَّا بإنظارِهِ إلى الميسرة. وذلكَ واجبٌ لقولِهِ تعالى: ﴿ (البقرة). وتارةً بالوضعِ عنهُ إنْ كانَ المُيَسِّرُ غريمًا، وإلاَّ بإعطائِهِ ما يزولُ بهِ إعسارهُ. وكلاهما لهُ فضلٌ عظيمٌ. ففي الصحيحينِ قال رسولُ الله ﷺ: "كانَ تاجرٌ يُداينُ الناسَ. فإذا رأى مُعسِرًا قالَ لفتيانِهِ: تجاوزوا عنهُ لعلَّ اللهَ يتجاوز عنَّا. فتجاوزَ اللهُ عنهُ." وفيهما عن رسولِ الله ﷺ أنه قال: "ماتَ رجلٌ. فقيلَ لهُ: بِمَ غفرَ اللهُ لكَ ؟ فقالَ: كنتُ أُبايعُ الناسَ فأتجوَّزُ عن الموسِر وأخفِّفُ عن المُعْسِرِ." وفي المُسنَدِ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ ﷺ: " من أرادَ أن تستجاب دعوتُه وأن تُكشَفَ كربتُه فليفرِّجْ عن معسِر."
ومثل قوله ﷺ: "ومن سترَ مُسلِمًا سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة" ما أخرجَه ابن ماجه عن النبيِّ ﷺ أنه قال: "من ستر عورةَ أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة. ومن كشف عورة أخيهِ المسلم كشف الله عورته حتى يفضحَه بها في بيتهِ." وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عيوبٌ. فذكروا عيوبَ الناس، فذَكر الناسُ لهم عيوبًا. وأدركتُ قومًا كانت لهم عيوبٌ. فكفُّوا عن عيوب الناس، فنسينَا عيوبَهم. اهـ واعلموا إخوة الإيمان أنَّ الناس على ضربين: أحدهما مستور فوقعت منه زَلة فلا يجوز هتكه ولا كشفها لأن هذا غيبة محرمة. قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ ... ١٩﴾ (النور). والثاني المعلنُ للفجور والفسوقِ المجاهرُ بها فهذا لا غيبةُ له كما قال الحسَنُ. ولكن لا يُتخَذ ذكره بالسوء وِردًا أو تشفِّيا. وإنما يُذكر لزجرهِ وليقامَ عليهِ الحدُّ وليرتدعَ بهِ أمثالُهُ. ومَن فعل ما يوجب الحدَّ ثم تاب قبل أن يُطَّلعَ عليه، فالأوْلى له أن يستر على نفسهِ، ولا يأتِيَ إلى الإمام ليخبره بما فَرَّطَ فيه وقد تاب منه.
وأما قوله ﷺ: "واللهُ في عوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عوْنِ أخيهِ." فقد أخرج الطبراني من حديث عمر مرفوعًا: "أفضل الأعمالِ إدخالُ السرورِ على المؤمن: كَسَوتَ عورتَهُ، أو أشبعتَ جَوْعَتَه، أو قضيتَ حاجَتَه." وكانَ عمر رَضِىَ اللهُ عَنْه يتعاهد الأرامل يستقي لهنَّ الماءَ بالليل. وقد حصل أن رءاهُ طلحةُ بالليلِ يدخل بيت امرأة. فدخلَ إليها طلحةُ نهارًا فإذا هي عجوزٌ عمياء مُقعَدة. فسألها: ماذا يصنعُ هذا الرجل عندكِ ؟ فقالت: هذا مِن كذا وكذا يتعاهدني. يأتيني بما يُصلِحُني، ويُخرجُ عني الأذى. فقال طلحة: ثَكِلَتْكَ أمُّك يا طلحة ! أعوراتِ عمرَ تتبَّع ؟ وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم. فقد صحب رجل قومًا في الجهادِ فاشترط عليهم أن يخدمهم. وكان إذا أرادَ واحدٌ منهم أن يغسل رأسهُ أو ثوبهُ قام هو ففعل لهم ذلك. ثمَّ لما ماتَ جرَّدوهُ للغسلِ. فرأوا على يدهِ مكتوبًا (من أهل الجنة). فنظروا فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحمِ.
وقوله ﷺ: "ومن سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة." وسلوكُ الطريقِ لالتماسِ العلمِ يدخل فيه سلوكُ الطريق الحقيقي بالمشي بالأقدامِ ونحوها. ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوي، مثلُ حفظِهِ ودرسِهِ ومُذاكرتِهِ وكتابتِهِ ونحوِ ذلك. فقد يكونُ المرادُ أنَّ اللهَ يسهِّل له العلمَ الذي طلبهُ وسلك طريقه وييسره له. وعلم الدين طريق يوصل إلى الجنة. وقد يراد به أيضًا أنَّ اللهَ ييسر لطالب العلم المخلص سبلَ الهداية لسلوك طريق الجنة. فيكون طلبه للعلم سببًا لهدايتهِ ولدخول الجنة. فمن سلك طريق العلم ولم يَعوجَّ عنه وصل إلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها. فلا طريق إلى معرفةِ اللهِ وإلى الوصولِ إلى رضوانِهِ إلاَّ بالعلم النافع الذي بعثَ اللهُ بهِ رسلهُ وأنزل به كتبه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله* والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله* وعلى ءاله وصحبه ومَن والاه* أما بعد، عباد الله اتقوا الله.
ثم إن قوله ﷺ: "وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينهم إلاَّ نزلتْ عليهمُ السكينةُ، وغشيتهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكة، وذَكرَهمُ اللهُ فيمن عندهُ ." يدل على استحبابِ الجلوسِ في المساجدِ لتلاوةِ القرءانِ ومدارستهِ. وإن حُمِلَ على تعلُّمَ القرءانِ وتعليمِهِ فلا خلافَ في استحبابِهِ. ففي البخاريّ أن النبيَّ ﷺ قال: "خيرُكُم من تعلَّمَ القرءانَ وعلَّمَهُ." وعن أبي سعيدٍ الخُدريّ رضي الله عنهُ أنه ﷺ قال: "ما مِن قومٍ صلُّوا صلاةَ الغداةِ ثم قعدوا في مُصلَّاهم يتعاطَونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونهُ إلَّا وكَّلَ اللهُ بهم ملائكةً يستغفرونَ لهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرهِ."
وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ الله ﷺ خرَجَ على حلقةِ من أصحابِهِ فقالَ: "ما أَجلسَكم ؟ قالوا: جلسْنا نذكر اللهَ ونحمَدُهُ على ما هدانا للإسلامِ ومنَّ بهِ علينا. قالَ: ءآللهِ ما أجلَسَكُم إلاَّ ذاكَ ؟ قالوا: واللهِ ما أجلَسَنا إلاَّ ذاك. قال: أما إني لم أستحلفْكم تُهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريلُ فأخبرني أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة." قال النووي: "إن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة معناه يُظهر فضلَكم لهم، ويُرِيهم حسنَ عملِكم، ويثني عليكم عندهم." اللهم اجعلنا منهم.
وقوله ﷺ: "ومَن بطَّأَ بهِ عملُهُ لم يُسْرِعْ بهِ نسبُهُ" أي من أخَّره عمله عن بلوغ درجة الأتقياء لم يُسرعْ به نسبُه إلى بلوغها.
اللَّهُمَّ اغفِر للمؤمنينَ والمؤمناتِ.
https://www.islam.ms/ar/?p=595