شرح حديث إذا اقتتَل المسلمانِ على الدّنيا فالقاتلُ والمقتولُ في النار
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا رحمه الله: الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين
أما بعدُ فقد رُوّينا بالإسناد المتّصل مِن صحيح الإمام البخاري وغيرِه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تَواجَه المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ والمَقْتُول في النّار".
هذا الحديثُ بهذا اللفظ رواه البخاري ولهُ لفظٌ آخَرُ في مسند البزّار وغيره وهو صَريحٌ في المراد وهو "إذا اقتتَل المسلمانِ على الدّنيا فالقاتلُ والمقتولُ في النار". هذه الروايةُ الثّانيةُ فَسّرت الروايةَ الأولى لأنّ الأولى قد يفهَمُها بعضُ الناس القَاصِرِي الفَهم على غيرِ المعنى المرادِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بَيّنَت مُراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فالمعنى المقصودُ لرسولِ الله بهذا الحديث أنّه إذا اقتَتَل المسلمانِ أي إذا قصَد هذا أن يَقتُلَ هذا وقَصَد هذا أن يَقتُلَ هذا قَصد كُلّ وعزَم وحمَلَ السّلاح كلٌّ منهُما بقَصد أن يَقتُلَ الآخَر للدّنيا أي كلٌّ منهُما كانَ طَالبًا حَظًّا دُنيَويًّا فكِلا الفَريقَين يَستَحقّانِ النّار وليسَ المعنى أنّ كلَّ واحدٍ حصَل منهُ هذه المعصيَة مُحتَّمٌ لهُ دخُولُ النّار، إنما المعنى أنّ هذا جزاءُ الفَريقَين جزاءُ الطّائِفتَين وقد يَغفرُ اللهُ لمن يشاءُ لكن لا يُضيّع حقّ المظلُوم إلا أن كانَ هناكَ أحَدُ الفَريقَين طالب دنيا والفريقُ الآخَر ليسَ مُقاتِلا للدّنيا إنما هو مَظلُوم قُصدَ بالقَتل ظُلمًا فقاتَل فقُتل أو قاتَل فسَلِم هو وقتلَ المعتَدي لا يعني رسول الله تَعميم هؤلاء كلّهم بأنهم مستَحقُّون النار.
أمّا إذا كانَ قتالُ إحدَى الطّائفتَين للدِّين وقتالُ الطّائفة الأخرَى للدّنيا أي حُبّ الرئاسةِ والاستِبداد ونحو ذلك منَ الأغراض الفاسِدة فالطّائفة التي قصْدُها الدّين ليسَ عليها حرَجٌ. مِثالُ ذلكَ قِتالُ سيّدنا عليّ وجيشه للّذين بغَوا واستَعصَوا عليهِ وكانَ عليّ رضي الله عنه في تلكَ المعَارك الثّلاث وقْعَةِ الجمَل ووقعَةِ صِفّين ووقعةِ النّهرَوَان كان هو وجيشه مأجُورين عندَ الله وأمّا الطّائفةُ الأخرى التي قاتَلتْه في واحِدةٍ مِن هذه المعارك فإنّهم آثمُون.
روينا في سُنَن البيهقي الكبرى بإسنادِه إلى عبدِ اللهِ بنِ رَباح عن سَلمان عن عمّار بنِ ياسِر رضي الله عنه أنّه قال: " لاَ تَقُولُوا كفَرَ أهْلُ الشّام ولكن قُولُوا فَسَقُوا وظَلَمُوا " رواه البيهقي. وذلكَ لأنّ أهلَ الشّام ليسَ أهل سوريا فقط بل المراد ما يشمَلُهم ومَن سِواهم مِن أهل بلادِ الشّام كانوا متَمرّدين على الخليفةِ الرَّاشِد عليّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، وَصَفَهُم عمَّارٌ رضي الله عنه الذي شهِد لهُ الرّسولُ بالجنّة بقوله : " إنّ الجَنّة تَشْتَاقُ إلى ثَلاثةٍ عمّارٍ وبلالٍ وعليّ " وأخرجه الترمذي بلفظ "وسَلمان" بدل "بلال" رضي الله عنهم. هذا عمَّار رضي الله عنه كان مع جيش عليٍّ رضي الله عنه فقال لا تقولوا كَفَر أهل الشام، أي أنّ معاويةَ ومَن معَه لا تقُولوا كفرُوا لكنّهم ظلَموا وبغَوا أي أنهم ظالمون معتَدُون في تمرُّدِهم على الخليفةِ عليّ بنِ أبي طالب ولم يخرجوا منَ الإسلام بقتالهم لعليٍّ فلا يُسمّون كافرين إنما يقال عنهم ظلَموا فسَقوا وبغَوا وذلك لأنّ الله تبارك وتعالى أوجَب طاعةَ الخليفة عليّ بنِ أبي طالبٍ وغيرِه مِن الخلفاءِ الرّاشدِين المهتَدين المهدِيّين، الله تعالى فرَض على المؤمنين طاعتَه بقوله تعالى {يا أيُّهَا الذينَ آمنوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرّسول وأُولي الأمرِ منكُم}. فعلي بن أبي طالب بلا شك ولا رَيب مِن أولي الأمر الذين فرَض الله على المؤمنين طاعتَه، والذين قاتَلوه إن كانوا أهلَ وَقعة الجمل وإنْ كانوا أهلَ وَقعة صِفّين أي معاوية وجماعته وإن كانوا أهل النّهروان أي وقعة الخَوارج كلّهم ظالمون باغُون فالمأجور هناك هو من كانَ مع الخليفة أي علي بنِ أبي طالب وجيشه هؤلاء لهم أَجرٌ لِقتالهم في المعاركِ الثّلاثة لأنّ الله أمَر الخليفةَ إذا تَمَرَّدَ علَيه أُناسٌ أن يُسعَى للصُّلح فإن أبَوا أن يُقاتلوا فعليّ بنُ أبي طالب نَصَحَهم قدَّم لهم النّصيحة قبل أن يقاتلَهم فلم يأخذوا بنصيحتِه فقاتلهم فهو له أجرٌ لأنّه دخَل في قوله تعالى "فقاتلوا" والآخَرون دخَلوا تحت قوله "التي تَبغِي".
ولا يجُوز أن يُقال عن جيش عليّ والجيش المقاتل لهُ أن كلاًّ مِن الفريقين لهم أجرٌ عندَ الله.
وقوله عليه الصلاة والسلام " إذا اقتَتَل المسلِمان للدّنيا فالقاتلُ والمقتُول في النار " بعدَ حمل الحديث على هذا المعنى يذكر التّفصيل الذي ورَد وهو أنّهُ قال بعضُ الحاضِرين يا رسولَ الله هذا القاتِل فما بالُ المقتُول قال " إنّه كانَ حَريصًا على قَتْلِ صَاحبِه ". المعنى أنّ هذين المسلمين اللذَيْن تواجها للقتال بسَيفَيهِما وكان كلّ منهما يقاتِل على الدّنيا ليس على أمرٍ دِينِيٍّ فالقاتلُ في ذلكَ أَمرُه ظاهرٌ لأنّه قتَل نفسًا مسلمةً، وأمّا المقتولُ فسبَبُ استِحقاقه النار أي عذابِ الله بالنّار في الآخرة هو أنّه كان حريصًا على أن يَقتُل صاحبَه فنِيّتُه وعمَله وهو أنّه حمَل السّيف وجاء ليُقاتل الطّائفة الأخرى أو الشّخص الآخر استَحقّ عَذاب الله فكونُه مقتولا لا يَرفع عنه استحقاقَ العذاب ولا يَلتبِس هذا بحديث " مَن قُتِل دُوْنَ دَمِهِ فهو شَهِيد " وهوَ حديث رواه مسلم في الصّحيح. هذا ظاهرٌ لا لَبْسَ في معناهُ وذلك لأنّ الإنسانَ الذي يُقتَلُ لدِينِه فشَهادَتُه ظَاهرةٌ لا خَفاءَ فيها، لا خَفاءَ في هذا الحُكم، وكذلك ذكر مع هذا في ذلك الحديث الذي رواه مسلم ثلاثةٌ آخَرون أحدُهم مَن قاتَل دونَ أهلِه فقُتل، والثالثُ مَن قُتل دونَ دَمِه، والرابعُ مَن قُتِل دونَ مالِه.
فأمّا مَن قُتِل دونَ أهلِه فمعناه أنّه أرادَ إنسانٌ التّعدِّيَ على زوجتِه لفعْل الفاحِشة بها فدافَع عنها فقُتل أي قَتَله ذلكَ المعتدي الذي يُريد الفاحشةَ بزَوجتِه فإنّ هذا الزّوج المقتول شَهيد يُقالُ لهُ شَهيدُ الآخِرَة لأنّهُ ليسَ في حُكم شَهيد المعركة هذا يُغسَّل ويُكفَّن ويُصَلّى عليه كغيرِه مِن أمواتِ المسلِمين وأمّا المقتولُ دونَ دمِه فهو الذي أرادَ شَخص أن يقتُلَه لأنّه يحقِدُ عليه ويُضمِر لهُ عدَاوةً فأرادَ أن يَشفيَ غَيظَه بقَتلِه ظُلمًا فقاتَل دُونَ دَمِه فقُتِل فهو شهِيد.
وأمّا الذي يُقتَل دونَ مالِه فهو الذي قُصدَ أَخذ مالِه ظلمًا، قَصَد شخصٌ أخذَ مالِه ظلمًا فدافَع عن مالِه فقُتل فهو شهيد.
القَتلُ الذي يكونُ بغيرِ طَريق الحاكِم قد يؤدّي إلى انتِشار القَتل وتعَدُّده وكثرَته لذلك جَعل الشّرعُ الطّريقَ في استيفاءِ الحقّ الإثبات عندَ الحاكم إمّا بالبَيّنة وإمّا بالاعتراف.
وأمّا ما يَجرِي بينَ كثيرٍ منَ النّاس مِن الانتِقام وأَخْذ الثّأر بقَتل قَريبِ القاتِل أو أخِيه أو ابنِه فإنّ ذلك منَ العصبيّة التي نهى اللهُ تبارك وتعالى عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيّة " أي أنّ الذي يَدعُو إلى العصبيّة فهو بعِيدٌ مِنَ الكمَال في الدِّين أي لا يكون منَ الكاملِينَ في دِين الله تعالى بل بَعِيد مِن ذلك لأنّ العصبيّة تبعُد مِن الله.
وكذلك العصبيّة فيما دونَ القَتل وهو أن يُساعِد الشّخص قريبه على دَعوى قامَت على الظّلم ما قامَت على الاستحقاق فإذا ناصَر شَخصٌ قَريبَه على دعوى ادّعاها على شخص بغَير حقّ ظُلمًا كانَ منَ الذين ذمّهم رسولُ الله، العصبيّة هي منَ الكبائر ومَعناها هي أن يُعينَ الشخصُ قَريبَه أو صَديقه أو عَشِيرتَه على الظّلم.
إنما ينبَغي للمؤمن أن يُعين المظلوم وأن يمنَع الظّالم لو كان قريبه يقولُ له اتّق الله. واجبٌ عليه أن يَنهاهُ عن الظّلم.
ووَردَ في سُنَن أبي داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال " مَن أعانَ إنسانًا في خُصُومَةٍ بِبَاطِلٍ لم يَزل في سَخَطِ الله حتّى يَرْجِع " رواه الطبراني.
المعنى أنّ الإنسانَ الذي يُعِين غَيرَه لقَرابةٍ أو لصَداقةٍ على الظُّلم والباطِل فإنّهُ لا يزالُ في سخَط الله حتى يترك هذا الأمر، حتى فيما بينَ الأبَوين، مَن وجَد أباه ظالمًا لأمّه فلا يُناصِر أباه بظُلْمه أمَّه وكذلك العَكس فإن وجَد أمَّه مُعتَديةً ظالمةً لأبيه فلا يُناصرها لا يتَعصّب لها في ظُلمها أباه بل على الابن أن ينهَى مَن هو الظّالم منهما. إن كانَ هو الظّالم ينهاه وإن كانت الأمّ هي الظّالمة يَنهَاها فمَن لم يفعل ذلك وتحَزّب للأب الذي هو ظَالم أو الأم التي هي ظَالمة فقد استحَقّ عذابَ الله وليسَ هذا مِن بِرّ الأبَوين إنما بِرُّ الأبوين الإحسانُ إليهما وطاعتُهما فيما ليسَ فيه معصيةٌ للهِ تعالى.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=143