تفسير سورة يس من الآية 76 إلى الآية 80
الحمدُ للهِ ربّ العالمين لهُ النِعْمَةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الحَسَن
صَلَوَاتُ اللهِ البَرّ الرَّحيم والملائِكَةِ الْمُقرَّبينَ عَلَى سَيِدِنَا مُحَمَّدٍ أشْرَفِ الـمُرسَلِين وحَبِيبِ رَبّ العَالمين
وعلى جميعِ إخوانِهِ مِنَ النّبيينَ والـمُرسَلِين وَءَالِ كُلٍ والصَّالِحين وسلامُ اللهِ عليهم أجمعين
يقولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى ﴿فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {76} أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ {77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِى العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِ خَلْقٍ عَلِيمٌ {79} الَّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مّنْهُ تُوقِدُونَ {80}﴾
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقولُ لِنَبِيِه
﴿فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ﴾ يعنِي فَلَا يَهُمُّكَ تَكذِيبُهُم وَأَذَاهُم وَجَفَاؤهُم
﴿إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ﴾ مِنْ عَداوَتِهِم
﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وَإِنَّا مُجَازُوهُم عَلَيْه فَحَقُّ مِثْلِكَ أَنْ يَتَسَلَّى بِهَذَا الوَعِيد وَيَسْتَحْضِرَ فِي نَفْسِه صُورَةَ حَالِهِ وَحَالِهِم فِي الآخِرَة حَتَّى يَنْقَشِعَ عَنْهُ الـهَمُّ وَلَا يُرهِقَهُ الحُزن. نَزَلَ فِي أُبَيِ بنِ خَلَف حِينَ أَخَذَ عَظْمًا بَالِيًا وَجَعَلَ يَفُتُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُول يَا مُحَمَّد أَتَرَى اللهَ يُحْيِي هَذا بَعْدَمَا رَمّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم "نَعَم وَيَبْعَثُكَ وَيُدْخِلُكَ جَهَنَّم" رَوَاهُ البَيْهَقِيّ.
﴿أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ﴾ مَذِرَة خَارِجَةٍ مِنَ الإحلِيل الذِي هُوَ قَنَاةُ النَّجَاسَة
﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ بَيّنُ الخُصُومَةِ، أيْ فَهُوَ عَلَى مَهَانَةِ أَصْلِهِ وَدَنَاءَةِ أَوَّلِه، يَتَصَدَّى لِمُخَاصَمَةِ رَبِهِ وَيُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى إِحْيَاءِ الـمَيِت بَعْدَمَا رَمَّتْ عِظَامُه ثُمَّ يَكُونُ خِصامُهُ فِي أَلزَمِ وَصْفٍ لَهُ وَأَلصَقِهِ بِه وَهُوَ كَوْنُهُ مُنْشَأً مِن مَوَاتٍ وَهُوَ يُنْكِرُ إِنْشَاءَهُ مِن مَوَاتٍ وَهُوَ غَايَةُ الـمُكَابَرَة
﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾ بِفَتِّهِ العَظْم
﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ مِنَ الـمَنِيّ فَهُوَ أَغْرَبُ مِن إِحْيَاءِ العَظْم، أيْ خَلْـــقَنَا إِيَّاهُ أَغْرَب
﴿قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ هُوَ اسْمٌ لِمَا بَلِيَ مِنَ العِظَام وَالـمُرَادُ بِــإحْيَاءِ العِظَامِ فِي الآيَةِ رَدُّهَا إلَى مَا كَانت عَلَيْه غَضَّةً رَطْبَةً فِي بَدَنٍ حَيّ حَسَّاس
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أَي الذِي خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ أَي ابْتِدَاءً
﴿وَهُوَ بِكُلِ خَلْقٍ﴾ أَيْ مَخْلُوق
﴿عَلِيمٌ﴾ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَجْزَاؤهُ وَإِنْ تَفَرَّقَت فِي البَرِ وَالبَحْر فَيَجْمَعُهُ وَيُعِيدُهُ كَمَا كَان
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ تَقْدَحُون، ثُمَّ ذَكَرَ مِن بَدَائِعِ خَلقِهِ انقِدَاحَ النَّارِ مِن الشَّجَرِ الأخضَر مَع مُضَادَّةِ النَّارِ الـمَاء وانطِفَائِهَا بِهَا وَهِيَ الزِنَادُ التِي تُورِي بِهَا الأعْرَاب وَأَكثَرُهَا مِنَ الـمَرْخِ وَالعَفَار. وفِي أَمْثَالِهِم فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ وَاستَمْجَدَ الـمَرْخُ وَالعَفَار، لِأنَّ الـمَرْخَ شَجَرٌ سَرِيعُ الوَرَى وَالعَفَارُ شَجَرٌ تُقْدَحُ مِنْهُ النَّار يَقْطَعُ الرَّجُلُ مِنْهُما غُصْنَيْنِ مِثْلَ السّوَاكَيْن وَهُمَا خَضْرَاوَان يَقْطُرُ مِنْهُمَا الـمَاء فَيَسْحَقُ الـمَرْخَ وَهُوَ ذَكَرٌ عَلَى العَفَارِ وَهِيَ أُنْثَى فَتَنْقَدِحُ النَّارُ بِإِذْنِ الله.
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا "لَيْسَ مِن شَجَرَةٍ إِلَّا وَفِيهَا النَّارُ إِلَّا العُنَّابُ لِمَصْلَحَةِ الدَّقّ لِلثّيَاب فَمَن قَدَرَ عَلَى جَمْعِ الـمَاءِ وَالنَّارِ فِي الشَّجَرِ قَدَرَ عَلَى الـمُعَاقَبَةِ بَيْنَ الـمَوْتِ وَالحَيَاةِ فِي البَشَر، وَإِجْرَاءُ أَحَدِ الضِدّيْنِ عَلَى الآخَر بِالتَّعقِيب أَسْهَلُ فِي العَقْلِ مِنَ الجَمْعِ مَعًا بِلَا تَرتِيب، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَن قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض مَع عِظَمِ شَأنِهِمَا فَهُوَ عَلَى خَلْقِ الأنَاسِيّ أَيْ الإنِسِ أَقْدَر"
وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالَمين، رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنيَا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة وَقِنَا عَذَابَ النَّار،
اللهُمَّ اجْعَلنَا هُدَاةً مَهْدِيين غَيْرَ ضَآلّينَ وَلَا مُضِلّين، اللهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِنَا وَءَامِن رَوْعَاتِنَا وَاكفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّف
وَاجْعَلنَا مِن عِبَادِكَ الـمَرضِيين يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين وَءَاخِرُ دَعْوَانَا أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ العَالمِين
https://www.islam.ms/ar/?p=619