تفسير سورة الفجر
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ الْفَجْرِ مَكِّيَّةٌ بِالإِجْمَاعِ وَهِيَ ثَلاثُونَ ءَايَةً
وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
﴿وَالْفَجْرِ (1)﴾ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ مِنْ أُفُقِ الْمَشْرِقِ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى بِهِ كَمَا أَقْسَمَ بِالصُّبْحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير آية 18]، وَيُرَادُ بِالْفَجْرِ هُنَا الْجِنْسُ، أَيْ فَجْرِ كُلِّ يَوْمٍ.
﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ وَهذَا قَسَمٌ ثَانٍ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْليَالِ الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ لانَّ فِي الْغَالِبِ فِيهَا اللَّيْلَةَ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ عَشْرِ الأَضْحَى، وَهِيَ الْعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَّحِيحَيْ أَبِي عُوَانَةَ وَابْنِ حِبَّانَ: "مَا مِنْ أَيَامٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ".
﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)﴾ رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئَلَ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ: "هِيَ الصَّلاةُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ". وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَالْوِتْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)﴾ قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا سَارَ أَيْ مُقْبِلا ومُدْبِرًا، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ لَيْلَةً مَخْصُوصَةً بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ.
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5)﴾ أَيْ لِذِي حِجًى يَعْنِي الْعَقْلَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسَمَ بِهِ لِدِلالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)﴾ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، وَالْمُرَادُ أَوْلادُ عَادٍ وَهُمْ عَادٌ الأُولَى أَشَارَ اللَّهُ إِلَى مَصَارعِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ تَوَعُّدُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَنَصْبُ الْمَثَلِ لَهاَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَةً مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ يَعْمَر بِعَادِ إِرَمَ بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى الإِضَافَةِ.
﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: "قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)﴾ يَعْنِي الْقَدِيمَةَ، وَالْعِمَادُ أَهْلُ عَمُودٍ لا يُقِيمُونَ" اهـ. أَيْ كَانُوا أَهْلَ خِيَامٍ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَيَعْنِي بِالْقَدِيمَةِ عَادًا الأُولَى، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: "وَأَصَّحُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الأَوَّلُ أَنَّ إِرَمَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ وَهُمْ إِرَمُ بنُ سَامِ بنِ نُوحٍ، وَعَادٌ هُمْ بَنُو عَادِ بنِ عَوْصِ بنِ إِرَمَ، وَمُيِّزَتْ عَادٌ بِالإِضَافَةِ لإِرَمَ عَنْ عَادٍ الأَخِيرَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الأَحْقَافِ أَنَّ عَادًا قَبِيلَتَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم آية 50]" اهـ.
﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8)﴾ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الطُّولِ وَالْقُوَّةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو عِمْرَانَ لَمْ تَخْلُقْ بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَفْعِ اللامِ وَمِثْلَهَا بِنَصْبِ اللامِ.
﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)﴾ ثَمُودُ هُمْ قَوْمُ نَّبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ سُمُّو بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ بنِ عَابِرِ بنِ إِرَمَ ابْنِ سَامِ بنِ نُوحٍ، وَمَعْنَى ﴿جَابُوا الصَّخْرَ (9)﴾ خَرَقُوهُ وَنَحَتُوهُ فَاتَّخَذُوا فِي الصَّخْرِ الْبُيُوتَ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف]. وَكَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاقَةِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهَا ءَايَةً مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء آية 155] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: "فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ ءَاخِرَ النَّهَارِ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ كَانَ لأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَرْضِهِمْ، لَيْسَ لَهُمْ فِي يَوْمِ وُرُودِهَا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ شِرْبِهَا شَيْئًا وَلا لَهَا أَنْ تَشْرَبَ فِي يَوْمِهِمْ مِنْ مَائِهِمْ شَيْئًا"، وَالْمُرَادُ بِالْوَادِ هُنَا وَادِي الْقُرَى وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَكَانَتْ قَدِيمًا مَنَازِلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَبِهَا أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10)﴾ كَانَ فِرْعَوْنُ يَتِدُ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ يَشُدُّ إِلَيْهَا يَدَيْ وَرِجْلَيْ مَنْ يُعَذِبُهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَتَدَ فِرْعَوْنُ لامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَامْرَأَتُهُ اسْمُهَا ءَاسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا ءَاسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11)﴾ يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ طَغَوْا أَيْ تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَكَفَرُوا بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَتَجَبَّرُوا عَلَيْهِمْ.
﴿فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)﴾ أَيْ أَكْثَرُوا فِيهَا مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَالأَذَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ صُروفِ الْعُدْوَانِ.
﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)﴾ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِيقَاعِ الْعَذَابِ بِهِمْ عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ، إِذِ الصَّبُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ وَالسَّوْطُ بِزِيَادَةِ الإِيلامِ، أَيْ أَنَّهُمْ عُذِّبُوا عَذَابًا مُؤْلِمًا دَائِمًا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ السَّوْطَ لأَنَّهُ كَانَ فِيهِ عِنْدَ الْعَرَبِ غَايَةُ الْعَذَابِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ: "﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ"، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: "الْمِرْصَادُ: مِفْعَالٌ مِنَ الْمَرْصَدِ وَهُوَ مَكَانُ الرَّصَدِ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَاضِحٌ فَلا حَاجَةَ لِلتَّكَلُّفِ" اهـ إِذِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمِرْصَادِ أَعْمَالِ بَنِي ءَادَمَ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، فَلا يَفُوتُهُ تَعَالَى مِنْهَا شَىْءٌ لِيُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِي الآيَةِ رَدٌّ عَلَى مَانِعِي التَّأْوِيلِ لأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا هِيَ قَاعِدَتُهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَحْصُورًا وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ وَالآيَةُ مُتَأَوَّلَةٌ بِالإِجْمَاعِ، وَقَدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلا يَمْنَعُ مِنَ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا إلا الْمُجَسِّمَةُ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ، وَيَكْفِي لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ، فَهَذَا يُظْهِرُ أَنَّ انْتِسَابَهُمْ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ إِنَّمَا هُوَ مَحْضُ زُورٍ لِيُرَوِّجُوا كُفْرَهُمْ وَضَلالَهُمْ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَقَدْ أَلَّفَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْمَشْهُورُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابَ "دَفْعِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ" لِدَفْعِ شَرِّ هَذِهِ الْفِئَةِ الَّتِي انْتَشَرَ ضَرَرُهَا.
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ"، وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ السَّلَفِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 321هـ فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: "تَعَالَى - يَعْنِي اللَّه - عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ" اهـ. مَعْنَاهُ اللَّهُ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لأَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا إِذِ الْحَجْمُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ لِلْمَكَانِ واللَّهُ لا يُوصَفُ بِالْجِهَاتِ وَلا يُوصَفُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ.
وَلا شَكَّ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَائِمٌ عَلَى تَنَزُّهِ اللَّهِ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجِهَةِ وَالْمَكَانِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَاصِفًا نَفْسَهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى آية 11]، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ". فَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ الْمَكَانُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ قَبْلَهُ مَوْجُودًا، فَكَمَا صَحَّ فِي الْعَقْلِ وُجُودُ اللَّهِ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانَ بِلا مَكَانٍ، وَهَذَا لا يُعَدُّ نَفْيًا لِوُجُودِ اللَّهِ كَمَا تَزْعُمُ الْمُشَبِّهَةُ واللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "يَكْفُرُ بِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ"، وَهُوَ حَقٌّ لا مِرْيَةَ فِيهِ ولا شَكَّ لأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا لَهُ مَكَانٌ فَقَدْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَلا يَكُونُ الْمُشْرِكُ الْعَابِدُ غَيْرَ اللَّهِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا، فَلا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إلا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ.
﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ﴾ يَعْنِي الْكَافِرَ ﴿إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ أَيِ امْتَحَنَهُ وَاخْتَبَرَهُ ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ (15)﴾ أَيْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَبِمَا وَسَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الإِحْسَانِ وَالإِفْضَالِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ أَيْ فَضَّلَنِي بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ، فَيَظُنُ الْكَافِرُ لِشِدَّةِ غُرُورِهِ أَنَّ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِكَرَامَتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَدْرِ الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَناَحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ﴾ أَيْ إِذَا مَا ابْتَلَى اللَّهُ الْكَافِرَ ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ وَالتَّقْتِيرِ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ الدِّمَشْقِيُّ ﴿فَقَدَّرَ﴾ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ ضَيَّقَ، وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ أَيْ يَقُولُ الْكَافِرُ: اللَّهُ أَذَلَّنِي بِالْفَقْرِ، فَالْكَرَامَةُ عِنْدَ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ زِيَادَةُ الدُّنْيَا وَالْهَوَانُ قِلَّتُهَا، وَمَا ذَاكَ إلا لِقُصُورِ نَظَرِهِ وَسُوءِ فِكْرِهِ فَإِنَّ التَّقْتِيرَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، فَقَدْ بَلَغَ الْفَقْرُ بِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَشَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ فِي عَصْرِهِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَبْلَغَهُ حَتَّى كَانَ لا يَجِدُ قُوتًا وَلا مَلْبَسًا وَكَانَ يَقُومُ لِمَنْ يَزُورُهُ نِصْفَ قَوْمَةٍ لَيْسَ يَعْتَدِلُ قَائِمًا لِئَلا يَظْهَرَ مِنْهُ شَىْءٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فَلَيْسَ بِضَائِرِ
وَقَدْ تُفْضِي التَّوْسِعَةُ إِلَى قَصْدِ الأَعْدَاءِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَغَيْرِهِمْ وَالانْهِمَاكِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَالْمَلَذَّاتِ، وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الآخِرَةِ وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الآخِرَةِ" رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ" الْمَعْنَى يَبْتَلِيهِ.
﴿كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَلا﴾ رَدْعٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الإِكْرَامُ بِالْغِنَى وَلا الإِهَانَةُ بِالْفَقْرِ بَلِ الإِكْرَامُ فِي التَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ وَالإِهَانَةُ فِي الْخِذْلانِ وَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ أَيْ لا يُحْسِنُونَ إِلَيْهِ مَعَ غِنَاهُمْ، وَقِيلَ الْمُرَادُ: لا يُعْطُونَ الْيَتِيمَ حَقَّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْيَتِيمُ هُوَ الصَّغِيرُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ، وَإِنْ مَاتَ الأَبَوَانِ فَهُوَ لَطِيمٌ، وَإِنْ مَاتَتِ الأُمُ فَقَطْ فَهُوَ عَجِيٌّ، قَالَهُ فِي الْمِصْبَاحِ.
﴿وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)﴾ أَيْ لا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ.
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا (19)﴾ قَالَ اللَّيْثُ بنُ نَصْرٍ الْخُرَاسَانِيُّ تِلْمِيذُ الْخَلِيلِ بنِ أَحْمَدَ: اللَّمُّ: الْجَمْعُ الشَّدِيدُ، وَالتُّرَاثُ: الْمِيرَاثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لا يُورِثُونَ النِّسَاءَ وَلا الصِّبْيَانَ بَلْ يَأْكُلُونَ مِيرَاثَهُمْ مَعَ مِيرَاثِهِمْ.
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)﴾ أَيْ كَثِيرًا حَلالُهُ وَحَرَامُهُ مَعَ الْحِرصِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ، وَالبُخْلُ وَالبَخْلُ وَالبَخَلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا الْحِرصُ فَهُوَ شِدَّةُ تَعَلُقِ النَّفْسِ لاحْتِوَاءِ الْمَالِ وَجَمْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْمُومِ كَالتَّوَصُلِ بِهِ إِلَى التَّرَفُعِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّفَاخُرِ وَعَدَمِ بَذْلِهِ إلا فِي هَوَى النَّفْسِ، وَالشُّحُ يُرَادِفُ الْبُخْلَ إلا أَنَّهُ يُخَصُّ بِالْبُخْلِ الشَّدِيدِ، قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: "وَالْبُخْلُ فِي الشَّرْعِ مَنْعُ الْوَاجِبِ" اهـ. وَذَلِكَ كَالْبُخْلِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ وَسَدِّ ضَرُورَةِ أَهْلِ الضَّرُورَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا﴾ رَدْعٌ يَتَضَّمَنُ مَعْنَى الإِنْكَارِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَتَوَعُّدِهِمْ عَلَى مَا فَرَّطُوا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)﴾ أَيْ زُلْزِلَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَانْهَدَمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَانْعَدَمَ.
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ مَا نَصُّهُ: "وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي عَمْرِو بنِ السَّمَّاكِ عَنْ حَنْبِلٍ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ"، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "وَهَذَا إِسْنَادٌ لا غُبَارَ عَلَيْهِ". وَأَقَرَّهُ ابْنُ كَثِيرٍ. وَلا يَخْفَى أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ مِنْ أَجَلِّ السَّلَفِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِبُّي فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الآيَةِ: "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أَيْ أَمْرُهُ وَقَضَاؤُهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ التَّابِعِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ"، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَا نَصُّهُ: "وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لا يُوصَفُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَأَنَّى لَهُ التَّحَوُّلُ وَالانْتِقَالُ وَلا مَكَانَ لَهُ وَلا أَوَانَ وَلا يَجْرِي عَلَيْهِ وَقْتٌ وَلا زَمَانٌ" انْتَهَى كَلامُهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ "زَادُ الْمَسِيرِ" عِنْدَ ذِكْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة آية 210] إِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ، قَالَ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل آية 33]، وَقَدْ أَنْكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَجِيءَ إِنَّمَا هُوَ بِالذَّاتِ وَقَالُوا (أي المُشبهة) يَجِيءُ بِذَاتِهِ وَيَنْزِلُ بِذَاتِهِ، وَبَيَّنَ بَرَاءَةَ الإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ "دَفْعُ شُبَهِ التَّشْبِيهِ".
وَالْخُلاصَةُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالنُّقْلَةُ، وَإِنَّمَا نَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللائِقِ بِهِ تَعَالَى مَعَ التَّنْزِيهِ وَتَرْكِ التَّشْبِيهِ، وَالأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ قَالَ: "وَاللَّهُ تَعَالَى لا مَكَانَ لَهُ"، ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: "إِنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَالاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل آية 26] وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إِتْيَانًا مِنْ حَيْثُ النُّقْلَةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ إِحْدَاثَ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ خَرِبَ بُنْيَانُهُمُ" اهـ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَالْخُلاصَةُ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنِ السَّلَفِ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي يَدَّعُونَ الانْتِسَابَ إِلَيْهِ زُورًا وَبُهْتَانًا، وَقَدْ ثَبَتَ التَّأْوِيلُ كَذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات آية 47] قَالَ بِقُوَّةٍ، وَقَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم آية 42] قَالَ عَنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَلَوْ أَرَدْنَا الاسْتِقْصَاءَ لَطَالَ الْبَحْثُ، وَلَمْ نَزِدْ فِي الْبَيَانِ إلا مِنْ ضَرُورَةِ الرَّدِ عَلَى أَتْبَاعِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيِّ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّ مَنْ لَمْ يُجْرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَهُوَ ضَالٌّ فَكَفَّرُوا أَهْلَ الإِسْلامِ وَضَلَّلُوهُمْ وَهُمْ أَوْلَى بِمَا وَصَفُوا بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، حَيْثُ شَمَلَ تَضْلِيلُهُمْ وَتَكْفِيرُهُمُ الصَّحَابَةَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْيَانِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ الَّذِينَ ثَبَتَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ كَالإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنَ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)﴾ أَيْ يَنْزِلُ مَلائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ فَيَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحْدِقِينَ بِالإِنْسِ وَالْجِنِ.
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ (23)﴾ يُفَسِّرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُؤْتَى بَجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا" وَلَيْسَ كُلُّ النَّارِ يَأْتِي بَلْ جُزْءٌ مِنْهَا يُقَرِّبُهَا الْمَلائِكَةُ لِلنَّاسِ فَيَرَاهَا الْعِبَادُ، فَالأَتْقِيَاءُ لا يَفْزَعُونَ أَمَّا الْكُفَّارُ فَيَكَادُونَ يَمُوتُونَ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا. لَكِنْ هُنَاكَ لا مَوْت.
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)﴾ أَيْ أَنَّهُ يَوْمَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ يَتَذَكَّرُ الْكَافِرُ مَعَاصِيَهُ وَمَا فَرَّطَ فِيهِ. ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَذَكُّرَهُ ذَلِكَ لا يَنْفَعُهُ.
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾ أَيْ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ لِحَيَاتِي الْبَاقِيَةِ.
﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)﴾ أَيْ لا يُعَذِّبُ أَحَدٌ مِثْلَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ لا يُعَذَّبُ بِفَتْحِ الذَّالِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا.
﴿وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يُوثِقُ الْكُفَّارَ بِالسَّلاسِلِ وَالأَغْلالِ لا كَوَثَاقِ أَحَدٍ أَحَدًا.
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ، وَقِيلَ ﴿الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ أَيِ الآمِنَةُ وَهِيَ الْمُؤْمِنَةُ الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ.
﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ (28)﴾ قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)﴾ أَيْ رَاضِيَةً بِالثَّوَابِ مَّرْضِيَّةً عِنْدَ اللَّهِ.
﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)﴾ أَيِ ادْخُلِي فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِي.
﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾ أَيْ مَعَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ اهـ.
حِكَايَةٌ عَجِيبَةٌ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَشَهِدْتُ جِنَازَتَهُ فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَدَخَلَ فِي نَعْشِهِ فَنَظَرْنَا وَتَأَمَّلْنَاهُ هَلْ يَخْرُجُ، فَلَمْ يُرَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَعْشِهِ، فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ لا يُدْرَى مَنْ تَلاهَا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)﴾"، قَالَ الذَّهَبِيُّ: "فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عِلْمُهُ أَيِ الطَّائِرَ الأَبْيَضَ".
https://www.islam.ms/ar/?p=380