تفسير سورة البلد
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةَ الْبَلَدِ مَكِّيَّةٌ بِاتِّفَاقٍ وَهِيَ عِشْرُونَ ءَايَةً
وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَّنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)
﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)﴾ مَعْنَاهُ عَلَى أَصَحِّ الْوُجُوهِ: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «والْبَلَدُ هِيَ مَكَّةُ، أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، أَيْ: أُقْسِمُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ لِكَرَامَتِكَ عَلَيَّ وَحُبِّي لَكَ» اهـ.
﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: «لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ»، وَفِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ فِيهِ مُعَظِّمٌ لَهُ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ فِيهِ مَا يَحْرُمُ مَعْرِفَةً مِنْهُ بِحَقِّ هَذَا الْبَيْتِ لا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ فِيهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ وَذَمٌّ لِلْمُشْرِكِينَ.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)﴾ هُوَ إِقْسَامٌ بِآدَمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَفِيهِمُ الأَنْبِيَاءُ وَالدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ أَوْلادُ إِبْرَاهِيمَ وَمَا وَلَدَ.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾ إِلَى هُنَا انْتَهَى الْقَسَمُ وَهَذَا جَوَابُهُ، وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِتَعْظِيمِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالإِنْسَانُ هُنَا اسْمُ جِنْسٍ أَيْ ءَادَمُ وَمَا وَلَدَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿فِي كَبَدٍ﴾: فِي شِدَّةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فِي كَبَدٍ﴾ أَيْ فِي نَصَبٍ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الآخِرَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَوَّلُ مَا يُكَابِدُ قَطْعُ سُرَّتِهِ، ثُمَّ إِذَا قُمِطَ قِمَاطًا وَشُدَّ رِبَاطًا يُكَابِدُ الضِّيقَ وَالتَّعَبَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الارْتِضَاعَ وَلَوْ فَاتَهُ لَضَاعَ، ثُمَّ يُكَابِدُ نَبْتَ أَسْنَانِهِ وَتَحَرُّكَ لِسَانِهِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْفِطَامَ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنَ اللِّطَامِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْخِتَانَ وَالأَوْجَاعَ وَالأَحْزَانَ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْمُعَلِّمَ وَصَوْلَتَهُ وَالْمُؤَدِّبَ وَسِيَاسَتَهُ وَالأُسْتَاذَ وَهَيْبَتَهُ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ التَّزْوِيجِ وَالتَّعْجِيلَ فِيهِ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الأَوْلادِ وَالْخَدَمِ وَالأَجْنَادِ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْلَ الدُّورِ وَبِنَاءَ الْقُصُورِ، ثُمَّ الْكِبَرَ وَالْهَرَمَ وَضَعْفَ الرُّكْبَةِ وَالْقَدَمِ، فِي مَصَائِبَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادُهَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَوَجَعِ الأَضْرَاسِ وَرَمَدِ الْعَيْنِ وَغَمِّ الدَّيْنِ وَوَجَعِ السِّنِ وَأَلَمِ الأُذُنِ، وَيُكَابِدُ مِحَنًا فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ مِثْلَ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَلا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ إلا وَيُقَاسِي فِيهِ شِدَّةً وَيُكَابِدُ فِيهِ مَشَقَّةً، ثُمَّ الْمَوْتُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ثُمَّ مُسَاءَلَةُ الْمَلَكِ وَضَغْطَةُ الْقَبْرِ وَظُلْمَتُهُ ثُمَّ الْبَعْثُ وَالْعَرْضُ عَلَى اللَّهِ إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ إِلَيْهِ لَمَا اخْتَارَ هَذِهِ الشَّدَائِدَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلإِنْسَانِ خَالِقًا دَبَّرَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الأَحْوَالِ فَلْيَمْتَثِلْ أَمْرَهُ اهـ.
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَّنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)﴾ قَالَ الرَّازِيُّ: قَوْلُهُ ﴿أَيَحْسَبُ﴾ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى أَيَظُنُّ الإِنْسَانُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُ لِشِدَّتِهِ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى بَعْثِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ.
﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا (6)﴾ أَيْ يَقُولُ أَنْفَقْتُ مَالا كَثِيرًا مُجْتَمِعًا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)﴾ أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَهُ، بَلْ عَلَيْهِ حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ فِي حَيَاتِهِ وَيُحْصُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ مَا حَكَى عَنْ أَقْوِيَاءِ قُرَيْشٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَرَدَّهَا أَقَامَ الدِّلالَةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ مُعَدِّدًا بَعْضَ نِعَمِهِ عَلَى الإِنْسَانِ فَقَالَ: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾ هَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ عَيْنَيْنِ يُبْصِرُ بِهِمَا.
﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)﴾ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ لِسَانًا يَنْطِقُ بِهِ وَشَفَتَيْنِ يُطْبِقُهُمَا عَلَى فِيهِ، وَيَسْتَعِينُ بِاللِّسَانِ وَالشَّفَتَيْنِ عَلَى الأَكْلِ وَالشُرْبِ وَالنَّفْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، قَالَهُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ﴿النَّجْدَيْنِ﴾ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: النَّجْدُ الْمَكَانُ الْغَلِيظُ الرَّفِيعُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ فَذَلِكَ مَثَلٌ لِطَرِيقَيِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي الاعْتِقَادِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْمَقَالِ وَالْجَمِيلِ وَالْقَبِيحِ فِي الْفِعَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان آية 3].
﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)﴾ أَيْ فَهَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيِ اجْتَازَهَا، وَالْعَقَبَةُ الأَمْرُ الشَّاقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ تَحَمُّلِ عِظَامِ الأُمُورِ مِنَ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِنْفَاقِ نَفَائِسِ الأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: «فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا».
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)﴾ أَيْ وَمَا أَعْلَمَكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا وَهَذَا تَعْظِيمٌ لالْتِزَامِ أَمْرِ الدِّينِ.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (13)﴾ أَيْ تَحْرِيرُهَا مِنَ الرِّقِّ بِأَنْ يُعْتِقَهَا.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)﴾ أَيْ مَجَاعَةٍ، وَالسَّغَبُ: الْجُوعُ، فَإِطْعَامُ الطَّعَامِ فَضِيلَةٌ وَهُوَ مَعَ السَّغَبِ الَّذِي هُوَ الْجُوعُ أَفْضَلُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ فَكَّ بِفَتْحِ الْكَافِ وَرَقَبَةَ بِالنَّصْبِ أَوْ أَطْعَمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَسُكُونِ الطَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ.
﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)﴾ أَيْ ذَا قَرَابَةٍ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ صِلَةِ الرَّحِمِ.
﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)﴾ وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ فَقْرِهِ.
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)﴾ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا، أَيْ عِنْدَ فَكِّ الرَّقَبَةِ وَعِنْدَ الإِطْعَامِ إِذْ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الطَّاعَاتِ هُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْخِيرَ الإِيـمَانِ عَنِ الإِطْعَامِ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ
قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: « وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ سِيَادَةُ أَبِيهِ وَسِيَادَةُ جَدِّهِ فِي الذِّكْرِ ».
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ سِيَادَةَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ قَدْ تَقَدَّمَتْ عَلَى سِيَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَنُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أَيْ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ أَيْ بِالتَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ » رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ تُفَسَّرُ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: « ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ » كَمَا قَالَ شَيْخُ الْحُفَّاظِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ: وَأَهْلُ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلائِكَةُ.
﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)﴾ أَيْ أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيـمَانِهِمِ.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْقُرْءَانِ يَأْخُذُونَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ.
﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)﴾ أَيْ أَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ وَمُغْلَقَةٌ لا يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مُوصَدَةٌ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=381