تفسير سورة البقرة آية 9
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
9 - يُخَادِعُونَ اللَّهَ أَيْ: رَسُول اللَّهِ، فَحُذف الْمُضَافُ كَقَوْلِهِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفُ: 82] كَذَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَغَيْرُهُ، أَيْ: يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَالْخِدَاعُ: إِظْهَارُ غَيْرِ مَا فِي النَّفْسِ. وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ جَعَلَ خِدَاعَهُ خِداعه، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقيلَ: مَعْنَاهُ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ فِي زَعْمِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ مِمَّنْ يَصِحُّ خِدَاعُهُ (لسخافةِ عقولِهم) وَهَذَا الْمِثَالُ يَقَعُ كَثِيرًا لِغَيْرِ اثْنَيْنِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: عَاقَبْتُ اللِّصَّ. وَقَدْ قُرِئَ: (يَخْدَعُونَ اللهَ). وَهُوَ بَيَانٌ لِيَقُولَ، أَوْ مُسْتَأْنَفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِمَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ كَاذِبِينَ ؟ وَمَا مَنْفَعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَمَنْفَعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ: مُتَارَكَتُهُمْ عَنِ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَنَيْلُهُمْ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ "الْوُقُوفِ" [كتاب لهلال أبو يحيا]: الْوَقْفُ لَازِمٌ عَلَى بِمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ لَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ مُخَادِعِينَ، فَيْنَتَفِي الْوَصْفُ، كَقَوْلِكَ: مَا هُوَ بِرَجُلٍ كَاذِبٍ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَإِثْبَاتُ الْخِدَاعِ لَهُمْ. وَمَنْ جَعَلَ يُخَادِعُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي: يَقُولُ، وَالْعَامِلَ فِيهَا: يَقُولُ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ مُخَادِعِينَ، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِمُؤْمِنِينَ، وَالْعَامِل فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فِي حَالِ خِدَاعِهِمْ، لَا يَقِفُ. (عندهم الوقف هنا غير مطلوب) وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ (القول السّديد هو الأوّل) (في نسخة والأول الوجه) وَالَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ، وَإِضْمَارِ الْكُفْرِ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ أَيْ: وَمَا يُعَامِلُونَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ الْمُشبَّهةَ (في نسخة الشّبيهة) بِمُعَامَلَةِ الْمُخَادِعِينَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا يَلْحَقُهُمْ، وَحَاصِلُ خِدَاعِهِمْ -وَهُوَ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ- يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ خَدَعُوا أَنْفُسَهُمْ " وَمَا يُخَادِعُونَ " أَبُو عَمْرٌو وَنَافِعٌ وَمَكِّيٌّ لِلْمُطَابَقَةِ. (أولئك هكذا قراءتهم لمطابقةِ ما قبله) وَعُذْرُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ خَدَعَ وَخَادَعَ هُنَا- بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالنَّفْسُ: ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِلْقَلْبِ وَالرُّوحِ: النَّفْسُ لِأَنَّ النَّفْسَ بِهِمَا، وَيقال لِلدَّمِ نَفْسٌ ؛ لِأَنَّ قِوَامَهَا بِالدَّمِ، وَلِلْمَاءِ نَفْسٌ لِفَرْطِ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ (القلبُ يقالُ له النّفس والرّوحُ يقالُ لها النّفسُ ويقالُ للدّم نفس ويقالُ للماءِ نفس) (الرّوح بالقلب والنّفسُ بالقلبِ والرّوح) وَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ هَهُنَا-: ذَوَاتُهُمْ. وَالْمَعْنَى بِمُخَادَعَتِهِمْ ذَوَاتِهِمْ، أَنَّ الْخِدَاعَ لَاصِقٌ بِهِمْ، لَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ (وَمَا يَشْعُرُونَ) أَنَّ حَاصِلَ خِدَاعِهِمْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ. وَالشُّعُورُ: عِلْمُ الشَّيْءِ عِلْمَ حِسٍّ، مِنَ الشِّعَارِ، وَهُوَ: ثَوْبٌ يَلِي الْجَسَدَ. وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ: حَوَاسُّهُ ؛ لِأَنَّهَا آلَاتُ الشُّعُورِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ بِهِمْ كَالْمَحْسُوسِ، وَهُمْ لِتَمَادِي غَفْلَتِهِمْ كَالَّذِي لَا حِسَّ لَهُ.
https://www.islam.ms/ar/?p=898