تفسير سورة البقرة من آية 44 إلى 45
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
والهمزة في {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ} للتّقرِيرِ معَ التّوبِيخِ والتَّعَجُّبِ مِن حَالِهم. (اللهُ تَعالى لا يتَعَجَّبُ إنّما العِبَادُ يَتعَجَّبُونَ)
{بِالْبِرِّ} أيْ سَعَةِ الخَيرِ والمعرُوفِ ومِنهُ البَرُّ لِسَعَتِه (البِرُّ والبَرُّ مِن مَادَّةٍ واحِدَةٍ والْمُنَاسَبَةُ بَينَهُمَا السَّعَةُ في الكُلّ)، ويَتنَاوَلُ كُلَّ خَيرٍ ومِنهُ قَولُهم " صَدَقْتَ وبَرِرْتَ " .
وكانَ الأحبَارُ يَأمُرُونَ مَن نَصَحُوهُ في السّرِّ مِن أقَارِبِهم وغَيرِهِم باتّبَاعِ محَمَّدٍ علَيهِ السّلامُ وَلا يَتْبَعُونَهُ (حتى لا تَذهَبَ علَيهِمُ الرّئاسَة،ُ لَكِن أَحْيَانًا يَقُولُونَ لأَتْبَاعِهِم هذَا محَمَّدٌ صَادِقٌ اتَّبِعُوهُ).
وقِيلَ: كَانُوا يَأمُرُونَ بالصَّدَقَةِ ولا يَتصَدَّقُونَ وإذَا أُتُوا بالصَّدَقاتِ لِيُفَرّقُوهَا خَانُوا فِيهَا. (فيَأكُلُونَها لأَنفُسِهِم)
{وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وتَتركُونَها مِنَ البِرّ كالْمَنْسِيَّاتِ. (النّسيَانُ هُنَا مَعنَاهُ التَّرْكُ كالشَّىءِ الذي نُسِيَ)
{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تَبكِيتٌ أي تَتلُونَ التّورَاةَ وفِيهَا نَعتُ محَمّدٍ علَيهِ السّلامُ أو فِيهَا الوَعِيدُ على الخِيَانَةِ وتَركِ البِرِّ ومُخَالَفَةِ القَولِ العَملَ. (هَذا تَجِدُونَهُ في التّورَاةِ انتَهُوا عن ذَلكَ)
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} أفَلَا تَفطِنُونَ لِقُبحِ مَا أَقْدَمتُم علَيهِ حتى يَصُدَّكُمُ اسْتِقبَاحُه عن ارتِكَابِهِ وهوَ تَوبِيخٌ عَظِيمٌ.
{وَاسْتَعِينُوا} على حَوائِجِكُم إلى اللهِ
{بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} أي بالجَمْعِ بَينَهُما وأنْ تُصَلُّوا صَابِرِينَ على تَكَالِيفِ الصّلاةِ مُحتَمِلِينَ لِمَشَاقِّهَا ومَا يَجِبُ فِيها مِن إخْلاصِ القَلْبِ ودَفْعِ الوَسَاوِسِ الشّيطَانيّةِ والهَوَاجِسِ النَّفسَانِيّةِ ومُرَاعَاةِ الآدَابِ والخُشُوعِ واسْتِحضَارِ العِلْمِ بأَنّهُ انتِصَابٌ بَينَ يَدَي جَبّارِ السّمَواتِ والأرض ، أو استَعِينُوا على البَلايا والنّوائِبِ بالصَّبْرِ علَيهَا والالْتِجَاءِ إلى الصَّلاةِ عِندَ وُقُوعِهَا ، وكانَ رَسولُ الله صَلّى الله عليهِ وسَلَّمَ إذَا حَزَبَه أَمرٌ فَزِعَ إلى الصّلاةِ. (ومعنى حَزَبَهُ أَمرٌ كَرَبَه،ُ أيْ لَمّا تُصِيبُه مُصِيبَةٌ يَفْزَعُ إلى الصّلاةِ أي يتَطَوَّعُ للهِ تَبارَك وتَعالى، فَزِعَ إلى الصّلاةِ أي يُصَلّيْ تَطَوُّعًا للهِ تَبارَكَ وتَعالى لِيَكْشِفَ الكَرْبَ عَنهُ ، فَالمطلُوبُ مِنّا أنْ نَقتَدِيَ برَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم ، فيَنبَغِي للمُسلِم والمسلِمَةِ أنْ يَفْزَعُوا إلى اللهِ تَبارك وتعالى إذَا كَرَبَهُم أمرٌ أي إذَا أصَابَتْهُم شِدّةٌ ومُصِيبَةٌ، لا يَنبَغِي أن يُسرِعُوا إلى الأطبّاءِ مِن غَيرِ ضَرُورَةٍ)
وعَن ابنِ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما أنّهُ نُعِيَ إلَيهِ أَخُوه قُثَمُ وهوَ في سَفَرٍ فَاسْتَرجَعَ (وقَالَ إنّا للهِ وإنّا إلَيهِ رَاجِعُونَ) وصَلّى ركعتَينِ ثم قالَ : "واستَعِينُوا بالصَّبرِ والصَّلاةِ" .
وقِيلَ : الصَّبرُ الصَّومُ لأنّهُ حَبسٌ عن المفَطّراتِ ومِنهُ قِيلَ لشَهرِ رَمضَانَ شَهرُ الصَّبرِ.
وقِيلَ: الصّلاةُ الدُّعَاءُ أي استَعِينُوا على البَلايا بالصَّبرِ والالْتِجَاءِ إلى الدُّعَاءِ والابْتِهَالِ إلى اللهِ في دَفْعِهِ.
{وَإِنَّهَا} الضَّمِيرُ للصّلاةِ أو للاستِعَانَةِ.
{لَكَبِيرَةٌ} لَشَاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ مِن قَولِكَ " كَبُرَ عَلَيَّ هَذا الأمرُ
{إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} لأنّهم يتَوقَّعُونَ مَا ادُّخِرَ لِلصَّابِرِينَ على مَتَاعِبِها فتَهُونُ علَيهِم
https://www.islam.ms/ar/?p=483