تفسير سورة البقرة آية 256

لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

256 - لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أَيْ: لَا إِجْبَارَ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.

(أي أنتَ يا محَمَّدُ لا تَستَطِيعُ أنْ تُكرِهَ القُلُوبَ على الإيمانِ، وقالَ بَعضُهُم أي ليسَ لكَ أنْ تُكرِهَ الذينَ يَدفَعُونَ الجِزيةَ مَا دَامُوا يَدفَعُونَ الجزيةَ ويَخضَعُونَ لِسُلطَةِ الإسلام أي يَلتَزِمُونَ الشّرُوطَ. وبعضهم قال هذه الآية نسخت بآيات القتال)

(قَوْلُهُ تَعَالَى {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فِيهِ أَقْوَالٌ مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَدْءِ الأَمْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ لأِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الرَّسُولُ مَمْنُوعًا مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَتْبَاعِهِ بِالْجِهَادِ لأِنَّهُمْ كَانُوا ضُعَفَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً جَاءَهُ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [سُورَةَ الْحَجّ / 39] فَنُسِخَتْ تِلْكَ الآيَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ وَآيَاتِ الْقِتَالِ الأُخْرَى فَمَعْنَى الآيَةِ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الإِذْنُ، ثُمَّ جَاءَهُمُ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي آيَةِ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكْرِهَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الإِيْمَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُكْرِهَ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ مَا دَامُوا يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ وَيَخْضَعُونَ لِسُلْطَةِ الإِسْلامِ أَيْ يَلْتَزِمُونَ الشُّرُوطَ.)

وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِأَنْصَارِيٍّ ابْنَانِ فَتَنَصَّرَا، فَلَزِمَهُمَا أَبُوهُمَا، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَدْعُكُمَا حَتَّى تُسْلِمَا، فَأَبَيَا، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَدْخُلُ بَعْضِي فِي النَّارِ وَأَنَا أَنْظُرُ ؟! فَنَزَلَتْ. فَخَلَّاهُمَا. (أي في ذلكَ الوقتِ على تِلكَ الحَادِثَةِ، أولادُ بَعضِ الأنصَار كَانُوا تنَصَّرُوا ثمّ لَمّا صَارَتِ الهُدنَةُ ءاباؤهُم أرَادُوا أنْ يَمنَعُوهُم ويُجبِرُوهُم على تَركِ النّصرَانيّةِ فلَم يَكُن في ذلكَ الوَقتِ مَصلحَةٌ في إجْبَارِهم فنَزلَتِ الآيةُ لأنْ لا يُكرَهُوا على الدُّخُولِ في الإسلَام)

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ: كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ. (كَثِيرٌ مِن هؤلاءِ الْمُلحِدِينَ هَذه الآيةُ يَستَدِلُّونَ بِها على أنّ الكُفّارَ لا يُقَاتَلُونَ على الإطلاقِ هؤلاء كُفّارٌ مُرتَدُّونَ. "قَاتِلُوا الذينَ لا يؤمنونَ باللهِ" الآيةَ، أمْرٌ بقِتَالِهم وءاياتٌ أُخَرُ نزَلَت بَعدَ "لا إكراهَ في الدّين" )

قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ قَدْ تَمَيَّزَ الْإِيمَانُ مِنَ الْكُفْرِ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ بِالشَّيْطَانِ، أَوِ الْأَصْنَامِ. وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ تَمَسَّكَ بِالْعُرْوَةِ أَيِ: الْمُعْتَصَمِ، وَالْمُتَعَلَّقِ. الْوُثْقَى تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ، أَيِ: الْأَشَدِّ مِنَ الْحَبْلِ الْوَثِيقِ، الْمُحْكَمِ، الْمَأْمُونِ. (قال ابن الجوزي في تفسيره: والمشَبَّهُ بالعُروَة الإيمان ، قالَه مجاهد . أو الإسلام قالَه السُّدّي، أو لا إله إلا الله ، قاله ابنُ عبّاسٍ  وابنُ جُبَيرٍ  والضّحّاك، وقال الطبري في تفسيره : قال أبو جعفر:"والعُروَةُ" في هَذا المكَان مَثَلٌ للإيمانِ الذي اعتَصَم بهِ المؤمن، فشَبّهَه في تعَلُّقِه بهِ وتَمسُّكِه به بالمتَمسِّكِ بعُروَةِ الشّيء الذي لهُ عُروَةٌ يتَمسَّكُ بها، إذ كانَ كُلُّ ذِي عُروَة فَإنّما يتَعلَّقُ مَن أرادَه بعُروَتِه. قال في المصباح المنير: و "عُرْوَةُ" الكوز أذنه والجمع "عُرًى" مثل مُدْيَةً ومُدًى و قوله عليه الصلاة و السلام "وَذَلِكَ أَوْثَقُ عُرَى الإِيْمَانِ" على التشبيه "بِالعُرْوَةِ" التي يستمسك بها ويستوثق)

لا انْفِصَامَ لَهَا لَا انْقِطَاعَ لِلْعُرْوَةِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَعْلُومِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، بِالْمُشَاهَدِ الْمَحْسُوسِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَهُ السَّامِعُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيُحْكِمُ اعْتِقَادَهُ. وَالْمَعْنَى: فَقَدْ عَقَدَ لِنَفْسِهِ مِنَ الدِّينِ عَقْدًا وَثِيقًا لَا تُحِلُّهُ شُبْهَةٌ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِإِقْرَارِهِ عَلِيمٌ بِاعْتِقَادِهِ.

تفسير القرآن الكريم تفسير النسفي تفسير قرآن أهل السنة والجماعة تفسير قرآن كامل تفسير سورة البقرة آية 256