تفسير سورة البقرة آية 23
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
23 - وَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يُثْبِتُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَيُبْطِلُ الْإِشْرَاكَ -لِخَلْقِهِمْ أَحْيَاءً قَادِرِينَ، وَخَلْقِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَثواهم وَمُسْتَقَرُّهُمْ، وَخَلْقِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ كالْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَالْخَيْمَةِ الْمُطْنِبَةِ عَلَى هَذَا الْقَرَارِ، وَمَا سِوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَبَهِ عَقْدِ النِّكَاحِ بَيْنَ الْمُقِلَّةِ وَالْمُظِلَّةِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ مِنْهَا عَلَيْهَا (المقلّة هي الأرضُ وأمّا المُظلّة فهي السّماءُ لأنّ الأرضَ تُقلّنا تحملنا)، وَالْإِخْرَاج بهِ مِنْ بَطْنِهَا أَشْبَاه النَّسْلِ مِنَ الثِّمَارِ رِزْقًا لِبَنِي آدَمَ، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ مُوصِلٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، مُبْطِلٌ لِلْإِشْرَاكِ لِأَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ مِنْهَا- عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُقَرِّرُ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا الْآيَةُ. "مَا" نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَبْدُ: اسْمٌ لِمَمْلُوكٍ مِنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ. (البهائمُ لا يقالُ لها عبيدٌ إنّما العبيد الإنسُ والجنُّ والملائكةُ ومن كان على شكلهم كالحورِ العينِ والوِلدان هؤلاء يقالُ لهم عباد الله، أمّا البهائمُ يقالُ لهم مخلوقاتُ الله) وَالْمَمْلُوكُ: مَوْجُودٌ قُهِرَ بِالِاسْتِيلَاءِ.
وَقِيلَ: نَزَّلْنَا دُونَ أَنْزَلْنَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النُّزُولُ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ (التّنجيمُ هو تحديدُ الوقتِ) وَهُوَ مِنْ مَحَازِهِ (مكان القطع) لِمَكَانِ التَّحَدِّي. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَنْزِلْ هَكَذَا نُجُومًا سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ، وَآيَاتٍ غِبَّ آيَاتٍ، عَلَى حَسَبِ النَّوَازِلِ، وَعَلَى سَنَنِ مَا نَرَى عَلَيْهِ أَهْلَ الْخَطَابَةِ وَالشِّعْرِ مِنْ وُجُودِ مَا يُوجَدُ مِنْهُمْ مُفَرَّقًا حِينًا فَحِينًا شَيْئًا فَشَيْئًا، لَا يُلْقِي النَّاظِمُ دِيوَانَ شِعْرِهِ دَفْعَةً، وَلَا يَرْمِي النَّاثِرُ بِخُطَبِهِ ضَرْبَةً، فَلَوْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ لأَنْزَلَهُ جُمْلَةً (هذا كلامُ الكفّارِ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الْفَرْقَانُ: 32] فَقِيلَ: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي هَذَا الَّذِي وَقَعَ إِنْزَالُهُ هَكَذَا عَلَى تَدْرِيجٍ فَأْتُوا بِسُورَةٍ أَيْ: فَهَاتُوا أَنْتُمْ نَوْبَةً وَاحِدَةً مِنْ نُوَبِهِ، وَهَلُمُّوا نَجْمًا فَرْدًا مِنْ نُجُومِهِ: سُورَةً مِنْ أَصْغَرِ السُّوَرِ. وَالسُّورَةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُتَرْجَمَةُ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَوَاوُهَا إِنْ كَانَتْ أَصْلًا فَإِمَّا أَنْ تُسَمَّى بِسُورِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ حَائِطُهَا لِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مَحْدُودَةٌ محوزَةٌ عَلَى حِيَالِهَا، كَالْبَلَدِ الْمُسَوَّرِ، أَوْ لِأَنَّهَا مُحْتَوِيَةٌ عَلَى فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَأَجْنَاسٍ مِنَ الْفَوَائِدِ، كَاحْتِوَاءِ سُورِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا فِيهَا. وَإِمَّا أَنْ تُسَمَّى بِالسُّورَةِ الَّتِي هِيَ الرُّتْبَةُ لِأَنَّ السُّورَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَازِلِ وَالْمَرَاتِبِ، يَتَرَقَّى فِيهَا الْقَارِئُ، وَهِيَ أَيْضًا فِي نَفْسِهَا مُرَتَّبَةٌ، طِوَالٌ، وَأَوْسَاطٌ، وَقِصَارٌ، أَوْ لِرَفْعَةِ بِنَائِهَا، وَجَلَالَةِ مَحَلِّهَا فِي الدِّينِ. وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَلِبَةً عَنْ هَمْزَةٍ فَلِأَنَّهَا قِطْعَةٌ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، كَالسُّؤْرَةِ الَّتِي هِيَ: الْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأَمَّا الْفَائِدَةُ فِي تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ وَتَقْطِيعِهِ سُوَرًا فَهِيَ كَثِيرَةٌ - وَلِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَسَائِرَ مَا أَوْحَاهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ مُسَوَّرَةً مُتَرْجَمَةَ السُّوَرة (الكتبُ السّماويّةُ كلُّها هكذا في خلالِها تراجمُ كما أنّ في القرءانِ سورًا) وَبَوَّبَ الْمُصَنِّفُونَ فِي كُلِّ فَنٍّ كُتُبَهُمْ أَبْوَابًا مُوَشَّحَةَ الصُّدُورِ بِالتَّرَاجِمِ- مِنْهَا: أَنَّ الْجِنْسَ إِذَا انْطَوَتْ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ وَاشْتَمَلَ عَلَى أَصْنَافٍ، كَانَ أَحْسَنَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَاحِدًا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا خَتَمَ سُورَةً، أَوْ بَابًا مِنَ الْكِتَابِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي آخَرَ كَانَ أَنْشَطَ لَهُ، وَأَبْعَثَ عَلَى الدَّرْسِ، وَالتَّحْصِيلِ مِنْهُ، لَوِ اسْتَمَرَّ على الْكِتَابِ بِطُولِهِ. وَمِنْ ثَمَّ جَزَّأَ الْقُرَّاءُ الْقُرْآنَ أَسْبَاعًا، وَأَجْزَاءً، وَعُشُورًا، وَأَخْمَاسًا (الأعشارُ، هذا التّفصيلُ بعد الصّحابةِ ليس من عملِ االصّحابة، تجزئة القرءانِ إلى أسباعٍ وأجزاءٍ وعشورٍ وأخماسٍ، هذا يقالُ له البدعةُ الحسنةُ، ماذا يفعلُ هؤلاء الذين يقولون عن الشّيء الذي يكرهونه ممّا يحبّه غيرُهم من أهلِ السّنّةِ هذه بدعة، الرٍسولُ لم يفعله، يوهمون النّاسَ أنّ كلَّ ما لم يفعله الرّسولُ بدعةُ ضلالةٍ ماذا يفعلون يُتلفون هذه المصاحفَ ويعملون مصاحفَ مجرّدةً ما فيها شيء لا نقط ولا أسماء السّور في أوائلِ السّورِ) وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَافِظَ إِذَا حَذِقَ السُّورَةَ (هذا أيضًا من الفوائدِ كونُ القرءانِ مرتّبَا مجزّءا إلى سورِ) اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ طَائِفَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، وَلَهَا فَاتِحَةٌ وَخَاتِمَةٌ، فَيَعْظُمُ عِنْدَهُ مَا حَفِظَهُ، وَيَجِلُّ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِينَا (بين الصّحابةِ الذي كان يحفظُ البقرةَ وآل عمران كانوا يعتبرونه إنسانًا عظيمًا). وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةٍ تَامَّةٍ أَفْضَلَ.
مِنْ مِثْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِسُورَةٍ صِفَةٌ لَهَا. وَالضَّمِيرُ لِمَا نَزَّلْنَا، أَيْ: بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. يَعْنِي: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِمَّا هُوَ عَلَى صِفَتِهِ فِي الْبَيَانِ الْغَرِيبِ، وَعُلُوِّ الطَّبَقَةِ فِي حُسْنِ النَّظْمِ، أَوْ لِعَبْدِنَا، أَيْ: فَأْتُوا مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ مِنْ كَوْنِهِ أُمِيًّا لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا قَصْدَ إِلَى مِثْلٍ ونَظِيرٍ هُنَالِكَ. وَرَدُّ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُنْزَلِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يُونُسُ: 38] فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هُودٌ: 13] عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الْإِسْرَاءُ: 88] وَلِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ رَدِّ الضَّمِيرِ إِلَى الْمُنَزَّلِ أَحْسَنُ تَرْتِيبًا، وَذَلِكَ: أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمُنْزَلِ لَا فِي الْمُنْزَلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَسُوقٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: وَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهَاتُوا أَنْتُمْ نُبَذًا مِمَّا يُمَاثِلُهُ. وَقَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ لَوْ كَانَ الضَّمِيرُ مَرْدُودًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ: وَإِنِ ارْتَبْتُمْ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ، فَهَاتُوا قُرْآنًا مِنْ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ يُلَائِمُ قَوْلَهُ: وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ جَمْعُ شَهِيدٍ، بِمَعْنَى الْحَاضِرِ، أَوِ الْقَائِمِ بِالشَّهَادَةِ، مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ: غير اللَّهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شُهَدَاءَكُمْ" أَيِ: ادْعُوا الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ مَنْ يَشْهَدُ لَكُمْ بِأَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَقٌ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِمِثْلِهِ، وَاسْتَعِينُوا بِآلِهَتِكُمْ عَلَى ذَلِكَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=912