تفسير سورة البقرة آية 156 - 157
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{ الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } مَكرُوهٌ. اسمُ فَاعلٍ مِنْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ أيْ لَحِقَتْهُ.
{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } إقْرَارٌ لهُ بالْمِلْكِ. (أي نحنُ مِلكٌ لله، مَعْنَاهُ أَنَّنَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ بِنَا مَا يُرِيدُ وَنَحْنُ رَاضُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِنَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُلائِمُ النُّفُوسَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُلائِمُ طَبَائِعَ النُّفُوسِ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى النُّفُورِ مِنْ أَشْيَاءَ وَعَلَى الْمَيْلِ إِلَى أَشْيَاءَ، هَؤُلاءِ مُسَلِّمُونَ لِلَّهِ تَسْلِيمًا فِيمَا يُلائِمُ نُفُوسَهُمْ وَفِيمَا لا يُلائِمُ نُفُوسَهُمْ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَفِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِيمَا يُقَالُ فِى الصَّلاةِ بَيْنَ التَّكْبِيرَةِ وَالْقِرَاءَةِ "نَحْنُ لَكَ وَإِلَيْكَ" وَفِى مَرَاسِيلِ أَبِى دَاوُدَ أَىِ الْكِتَابِ الَّذِى أَلَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ فِى الْمَرَاسِيلِ أَىِ الأَحَادِيثِ الَّتِى يَذْكُرُهَا التَّابِعُونَ وَلا يَذْكُرُونَ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ هَذِهِ الأَحَادِيثَ، فِى هَذَا الْكِتَابِ مَذْكُورٌ مَرْفُوعًا "اللَّهُمَّ إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ وَإِلَيْكَ" إِنَّمَا نَحْنُ بِكَ مَعْنَاهُ أَصْلُ وُجُودِنَا بِكَ أَىْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ فَلَوْلا مَشِيئَتُكَ وَقُدْرَتُكَ مَا وُجِدْنَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ صِفَاتٍ بِنَا فَهِىَ إِنَّمَا وُجِدَتْ بِكَ أَىْ بِقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَعِلْمِكَ، لا شَىْءَ مِنَّا كَانَ أَىْ وُجِدَ إِلَّا بِكَ أَىْ بِخَلْقِكَ وَقُدْرَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ وَعِلْمِكَ، ذَوَاتُنَا وَصِفَاتُنَا الدَّائِمَةُ وَالطَّارِئَةُ الَّتِى تَتَغَيَّرُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِكَ وُجِدَ وَبِمَشَيئَتِكَ وَعِلْمِكَ وَتَقْدِيرِكَ وَقَضَائِكَ وُجِدَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِى هَذَا الأَثَرِ الْمُرْسَلِ "وَإِلَيْكَ" فَمَعْنَاهُ مَرْجِعُنَا إِلَيْكَ أَىْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ عَلَى حَالَةٍ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ عِنْدَ اللَّهِ.
ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْمُصِيبَةَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ فِى هَذِهِ الآيَةِ لِيُفْهِمَنَا أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَإِنَّهَا تُفِيدُهُ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ أَىْ إِنْ رَضِىَ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَفِى كُلِّ مَا يُصِيبُهُ يُرْفَعُ لَهُ بِهِ دَرَجَةٌ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةٌ أَىْ تُمْحَى عَنْهُ بَعْضُ ذُنُوبِهِ، لا تَمُرُّ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا هَذِهِ الْفَائِدَةَ، وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ، حَتَّى الْمُصِيبَةُ الَّتِى لا بَالَ لَهَا عِنْدَ النَّاسِ كَالشَّوْكَةِ الَّتِى يُشَاكُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ كَالْهَمِّ الصَّغِيرِ الَّذِى يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ ذَا تَأْثِيرٍ كَبِيرٍ أَمَّا الْهَمُّ الَّذِى لَهُ تَأْثِيرٌ كَثِيرٌ فَيَزْدَادُ الْمُسْلِمُ مِنْهُ اسْتِفَادَةً عَلَى حَسَبِ عِظَمِ ذَلِكَ الْهَمِّ.
ثُمَّ هَؤُلاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شَأْنُهُمْ أَنَّهُمْ فِى أَيَّامِ الْهَرْجِ يُلازِمُونَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ بِقَدْرِ الإِمْكَانِ، أَىْ لا يَعْصُونَهُ مِنْ أَجْلِ الْهَرْجِ بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابِ الْمَعَاصِى، الْهَرْجُ هُوَ كَثْرَةُ الْقَتْلِ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِى ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعِبَادَةُ فِى الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" اهـ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِى صَحِيحِهِ] ورَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ وَابْنُ مَاجَهْ فِى سُنَنِهِ] أَىْ أَنَّ الَّذِى يَلْتَزِمُ طَاعَةَ اللَّهِ فِى الْهَرْجِ أَىْ فِى أَيَّامِ كَثْرَةِ الْقَتْلِ كَأَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا أَىْ فِى الْوَقْتِ الَّذِى كَانَتْ فِيهِ الْهِجْرَةُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَرْضًا.)
{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُسَلِّمُونَ غَيْرُ مُعْتَرِضِينَ عَلَى رَبِّهِمْ ثَابِتُونَ عَلَى اعْتِقَادِ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا وَاعْتَقَدُوا وَجَزَمُوا بِأَنَّهُمْ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَىْ أَنَّ مَآلَهُمْ إِلَى الْجَزَاءِ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بَدْؤُهُ فِى الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمُعْظَمُهُ فِى الآخِرَةِ، فَالْجَزَاءُ الَّذِى يَكُونُ فِى الْبَرْزَخِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمَّا يَسُرُّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ مَتَى مَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا يَسُوؤُهُمْ بَلْ هُمْ فِى حَالِهِمْ كَحَالِ مَنْ كَانَ مَسْجُونًا وَكَانَ فِى قَحْطٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَخَرَجَ مِنَ الْقَحْطِ وَالْمَجَاعَةِ إِلَى الرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ، هَذَا الْقَبْرُ الَّذِى تَخَافُهُ النُّفُوسُ لَيْسَ مَا يَحْدُثُ فِيهِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بَلْ بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ الْقُبُورُ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْقُصُورَ الْفَاخِرَةَ وَكَانَ عِنْدَهُمْ نَعِيمٌ كَثِيرٌ، يَكْفِى فِى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ كُلَّ يَوْمٍ مَقْعَدَهُمْ فِى الْجَنَّةِ أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَآخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً، هَذَا يَفُوقُ كُلَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا الَّتِى كَانُوا يُصِيبُونَهَا حِينَ كَانُوا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَهُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ لا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ فِى قُبُورِهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ مِنْ هَوَامَّ وَلا يُقَاسُونَ وَحْشَةَ الْوَحْدَةِ فِى الْقَبْرِ وَلا وَحْشَةَ الظُّلْمَةِ كُلُّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ ضِيقُ مِسَاحَةِ الْقَبْرِ، وَهُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ كَتَنْوِيرِ الْقَبْرِ، وَأَمَّا فِى الآخِرَةِ فَمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ النَّعِيمِ أَعْظَمُ فَأَعْظَمُ.)
{ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 156] إقرَارٌ على نُفُوسِنَا بالْهُلْكِ. (أي أنّ مآلهم إلى الجزاءِ مِن الله تبارك وتعالى)
{ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } الصّلاةُ : الحُنُوُّ والتَّعَطُّفُ فوُضِعَتْ مَوضِعَ الرّأفَةِ ، وجُمِعَ بَينَها وبَينَ الرَّحمَةِ كقَولِه { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } والمعنَى علَيهِم رَأفَةٌ بَعدَ رَأفَةٍ ورَحمَةٌ بَعدَ رَحمَةٍ.
(قال سعيدُ بنُ جُبير: الصَّلَواتُ مِنَ اللهِ المغفِرَة) في هذه الآية تَبشيرُ المؤمنين الذين يتّصفُون بهذه الصفةِ التي ذكرَها الله تعالى وهي أنَّهم راضُون عن الله تعالى أي لا يتسَخَّطُونَ عليه ولا يَتَبَرَّمُون ولا يتَضَجّرونَ مِن قضَائه وإن كانَت المصائبُ تُقلقُهم وتَحزُنُهم وتؤذِيهِم في أجسادِهم لكنَّ قلُوبَهم راضيةٌ عن الله تبارك وتعالى، هؤلاء بشَّرهم الله تعالى بأنهم تَنَالُهُم صلواتٌ مِن الله أي رَحَمَاتٌ مَقرونَةٌ بالتّعظِيم، ليسَ المرادُ مجَرّد رحمة لأنّ مجرّدَ الرّحمَة في الدّنيا تشمَل المؤمنَ والكافر، إنّما الصلواتُ هنا معناها الرَّحماتُ المقرُوناتُ بالتّعظيم، أي الرَّحماتُ الخَاصّة لأنّ الرّحماتِ خَاصَّةٌ وعامَّةٌ: رحمَاتٌ يَشترك بها المؤمنُ وغيرُ المؤمن والبَرُّ والفاجِر وهذهِ مِنَ الرَّحَماتِ العامّة، الرّحَماتُ العامّةُ هيَ في الدّنيا يَشتَرك فيها المؤمنُ وغيرُ المؤمن، ومن الرّحمات العامّة الانتفاعُ بهذا الهواء العَليل والصّحةِ والمال الوافِر وغيرِ ذلك مِن أنواع النِّعَم الدُّنيَويّة هذه مِنَ الرّحَمات العامّة أمّا الرّحَماتُ الخَاصّةُ فلا ينَالها إلاّ المؤمنونَ الصّابرُون المسَلِّمونَ لله تسليمًا، أوّلُ شَرط في نيل واستِحقاق الرّحماتِ الخاصّة الإيمانُ)
{ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة : 157] لِطَرِيقِ الصَّوابِ حَيثُ اسْتَرجَعُوا وأَذْعَنُوا لِأَمْرِ اللهِ. (اسْتَرجَعُوا أيْ قَالُوا إنّا للهِ وإنّا إلَيهِ رَاجِعُونَ)
قَالَ عُمَرُ رضيَ اللهُ عنهُ : "نِعْمَ العَدْلَانِ ونِعْمَ العِلَاوَةُ" أي الصّلاةُ والرَّحمَةُ والاهْتِدَاءُ. (شَبَّهَهُ بِما يَكُونُ مِنْ هَذا الجَانِبِ وذَاكَ الجَانِب مِنْ حِمْلِ البَعِيرِ ويُوجَدُ شَىءٌ ثَالِثٌ تَابِعٌ لِلأوَّلَينِ يُحَمَّلُ البَعِيرَ مَعنَاهُ كُلٌّ مُفِيدٌ، الثّلاثَةُ. العِدْلُ نِصفُ الحِمْل يَكُونُ على أحَدِ جَنْبَيِ البَعِير)
https://www.islam.ms/ar/?p=542