تفسير سورة البقرة آية 134 - 135 - 136 - 137 - 138
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{تِلْكَ} إشَارَةٌ إلى الأُمَّةِ الْمَذكُورَةِ التي هيَ إبرَاهِيمُ ويَعقُوبُ وبَنُوهُمَا الْمُوَحِّدُونَ
{أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} مَضَتْ
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} أيْ إنَّ أَحَدًا لا يَنفَعُهُ كَسْبُ غَيرِه مُتَقدِّمًا كانَ أو مُتَأخِّرًا، فَكَمَا أنّ أولئكَ لا يَنفَعُهُم إلا مَا اكْتَسَبُوا فكَذَلِكَ أَنْتُم لا يَنفَعُكُم إلا مَا اكْتَسَبْتُم، وذَلكَ لافْتِخَارِهِم بآبَائِهِم
{وَلا تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] ولا تؤاخَذُونَ بسَيِّئَاتِهم.
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أيْ قَالَتِ اليَهُودُ كُونُوا هُودًا وقَالَتِ النّصَارَى كُونُوا نَصَارَى.
{تَهْتَدُوا}
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} بَل نَتَّبِعُ مِلَّةَ إبرَاهِيمَ
{حَنِيفًا} والحَنِيفُ الْمَائِلُ عَن كُلِّ دِينٍ بَاطِلٍ إلى دِينِ الحَقِّ.
{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 135] تَعرِيضٌ بأَهْلِ الكِتَابِ وغَيرِهِم لأنّ كُلًّا مِنهُم يَدَّعِي اتِّبَاعَ مِلَّةِ إبرَاهِيمَ وهوَ على الشِّرْكِ.
{ قُولُوا } هَذَا خِطَابٌ للمُؤمِنِينَ أو لِلكَافِرِينَ أي قُولُوا لِتَكُونُوا على الحَقِّ وإلا فَأَنْتُم على البَاطِلِ
{ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا } أيِ القُرآنِ
{ وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ } السِّبْطُ الحَافِدُ وكَانَ الحَسَنُ والحُسَينُ سِبْطَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّمَ ، والأسبَاطُ حَفَدَةُ يَعقُوبَ ذَرَارِيُّ أَبْنَائِه الاثْنَي عَشَرَ.
{ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أي لا نؤمِنُ ببَعضٍ ونَكفُرُ ببَعضٍ كَمَا فَعَلَتِ اليَهُودُ والنّصَارَى. وأَحَدٌ في مَعنى الجَماعَةِ ولِذَا صَحَّ دُخُولُ بَيْنَ عَلَيهِ.
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }[البقرة : 136] للهِ مُخلِصُونَ
{ فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } ظَاهِرُ الآيَةِ مُشكِلٌ لأنّهُ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ للهِ تَعالى مِثْلٌ وتَعالى عَن ذَلكَ. فقِيلَ : البَاءُ زَائِدَةٌ ومِثْلِ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحذُوفٍ تَقدِيرُهُ فَإنْ آمَنُوا إيْمانًا مِثلَ إيْمَانِكُم والهاءُ يَعُودُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلّ ، وزِيادَةُ البَاءِ غَيرُ عَزِيزٍ قَالَ اللهُ تَعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } والتّقدِيرُ جَزَاءُ سَيّئَةٍ مِثلُهَا كقَولِه في الآيةِ الأُخرَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وقِيلَ : الْمِثْلُ زِيَادَةٌ أي فإنْ آمَنُوا بما آمَنتُم بهِ يؤيِّدُه قِراءَةُ ابنِ مَسعُودٍ رضيَ اللهُ عَنهُ: بما آمَنتُم بهِ . ومَا بمعنى " الذي " بدَلِيلِ قِراءَةِ أُبَيّ: بالذي آمَنتُم بهِ. وقِيلَ : البَاءُ للاستِعَانَةِ كقَولِكَ " كَتَبتُ بالقَلَم " أي فإنْ دَخَلُوا في الإيمانِ بشَهادَةٍ مِثْلِ شَهَادَتِكُمُ التي آمَنتُم بها
{وإنْ تَوَلَّوا } عَمَّا تَقُولُونَ لَهم ولم يُنصِفُوا، أو إنْ تَوَلَّوا عنِ الشّهَادَةِ والدُّخُولِ في الإيمانِ بها
{فَإنّما هُم في شِقَاقٍ } أي فَمَا هُم إلا في خِلافٍ وعَدَاوَةٍ ولَيسُوا مِنْ طَلَبِ الحَقِّ في شَيءٍ
{ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } ضَمَانٌ مِنَ اللهِ لإظْهَارِ رَسُولِه علَيهِم وقَدْ أَنْجَزَ وَعْدَهُ بقَتْلِ بَعضِهِم وإجْلَاءِ بَعضِهِم ، ومَعنى السِّين أنّ ذلكَ كَائنٌ لا مَحَالَةَ وإنْ تَأخَّرَ إلى حِين.
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لِمَا يَنطِقُونَ بهِ
{ الْعَلِيمُ }[البقرة : 137] بِمَا يُضمِرُونَ مِنَ الحَسَدِ والغِلِّ وهوَ مُعَاقِبُهُم علَيهِ فَهوَ وَعِيدٌ لَهم ، أو وَعدٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم أي يَسمَعُ مَا تَدعُو بهِ ويَعلَمُ نِيَّتَكَ ومَا تُرِيدُه مِن إظْهَارِ دِينِ الحَقّ وهوَ مُستَجِيبٌ لكَ ومُوصِلُكَ إلى مُرَادِكَ.
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دِينَ اللهِ، وهوَ مَصدَرٌ مؤكِّدٌ مُنتَصِبٌ عن قَولِه : آمَنَّا باللهِ. وهيَ فِعْلَةٌ مِنْ صَبَغ كالجِلْسَةِ مِنْ جَلَسَ وهيَ الحَالَةُ التي يَقَعُ علَيهَا الصَّبْغُ ، والمعنَى تَطهِيرُ اللهِ لأنَّ الإيمانَ يُطَهِّرُ النُّفُوسَ.
والأَصْلُ فيهِ أنّ النّصَارَى كَانُوا يَغمِسُونَ أَولادَهُم في مَاءٍ أَصْفَرَ يُسَمُّونَهُ الْمَعمُودِيَّةَ ويَقُولُونَ هوَ تَطهِيرٌ لَهم فإذَا فَعَلَ الواحِدُ مِنهُم بوَلَدِه ذَلكَ قالَ الآنَ صَارَ نَصرَانِيًّا حَقًّا ، فَأُمِرَ الْمُسلِمُونَ بأَنْ يَقُولُوا لَهم : آمَنَّا باللهِ وصَبَغَنَا اللهُ بالإيمانِ صِبْغَتَهُ ولَم نُصْبَغْ صِبْغَتَكُم.
وجِيءَ بلَفْظِ الصِّبْغَةِ لِلمُشَاكَلَةِ كقَولِكَ لِمَنْ يَغرِسُ الأشْجَارَ اغْرِسْ كَمَا يَغرِسُ فُلانٌ تُرِيدُ رَجُلًا يَصْطَنِعُ الكَرَمَ.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } تَميِيزٌ أي لا صِبغَةَ أَحسَنُ مِن صِبغَتِه يُرِيدُ الدِّينَ، أو التَّطْهِيرَ.
{ وَنَحْنُ لَهُ عَـابِدُونَ } [البقرة : 138] عَطفٌ على آمَنَّا باللهِ وهَذَا العَطفُ يَدُلُّ على أنّ قَولَه : صِبْغَةَ اللهِ دَاخِلٌ في مَفعُولِ قُولُوا آمَنَّا أي قُولُوا هَذا وهَذَا ونَحنُ لهُ عَابِدُونَ، ويَرُدُّ قَولَ مَنْ زَعَم أنّ صِبغَةَ اللهِ بَدَلٌ مِن مِلَّةِ إبراهِيمَ أو نَصْبٌ على الإغرَاءِ بمعنى علَيكُم صِبْغَةَ اللهِ لِمَا فِيهِ مِن فَكِّ النَّظْمِ وإخْرَاجِ الكَلامِ عَن التِئَامِه. وانتِصَابُها على أنّها مَصدَرٌ مُؤكِّدٌ هوَ الذي ذكَرَه سِيبَوَيهِ والقَولُ مَا قَالَت حَذَامِ. (هَذا صَارَ مَثَلًا أَصْلُهُ هَذا البَيتَ إذَا قَالَتْ حَذَامِ فصَدِّقُوهَا فَإنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ)
https://www.islam.ms/ar/?p=533