تفسير سورة البقرة من آية 103 إلى 106
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا} برَسُولِ اللهِ والقُرآنِ
{وَاتَّقَوا} اللهَ فتَركُوا مَا هُم علَيهِ مِن نَبْذِ كِتَابِ اللهِ واتّبَاعِ كُتُبِ الشّيَاطِينِ
{لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)} أنَّ ثَوابَ اللهِ خَيرٌ مِمّا هُم فِيهِ وقَدْ عَلِمُوا ، لَكنَّهُ جَهَّلَهُم لَمّا تَرَكُوا العَمَلَ بالعِلْمِ والمعنى لأُثِيبُوا مِن عِندِ اللهِ مَا هوَ خَيرٌ ، وأُوْثِرَتِ الجُملَةُ الاسمِيَّةُ على الفِعلِيَّةِ في جَوابِ لَو لِمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَةِ على ثَبَاتِ الْمَثُوبَةِ واسْتِقرَارِهَا.
ولم يَقُلْ لَمَثُوبَةُ اللهِ خَيرٌ لأنّ المعنى لَشَيءٌ مِنَ الثَّوابِ خَيرٌ لَهم.
وقِيلَ : لَو بمعنى التَّمَنّي كأَنَّهُ قِيلَ : ولَيْتَهُم آمَنُوا ثم ابتَدَأ لَمَثُوبَةٌ مِن عِندِ اللهِ خَيرٌ.
{يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} كانَ المسلِمُونَ يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم إذَا أَلقَى علَيهِم شَيئًا مِنَ العِلْمِ : رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللهِ أي رَاقِبْنَا وانتَظِرْنَا حتى نَفهَمَهُ ونَحفَظَهُ ، وكَانَتْ لِليَهُودِ كَلِمَةٌ يَتَسَابُّونَ بِها عِبرَانيَّةٌ أو سُريَانيَّةٌ وهيَ " راعِيْنَا " ، فَلَمَّا سَمِعُوا بقَولِ المؤمنِينَ "رَاعِنَا" افْتَرَصُوهُ وخَاطَبُوا بهِ الرّسُولَ وهُمْ يَعنُونَ بهِ تِلكَ الْمَسَبَّةَ فنُهِيَ المؤمِنُونَ عَنهَا وأُمِرُوا بما هوَ في مَعنَاهَا وهوَ "انْظُرنَا" مِن نَظَرَه إذَا انْتَظَرَه.
{وَاسْمَعُوا} وأَحْسِنُوا سَمَاعَ مَا يُكَلّمُكُم بهِ رَسولُ الله صلى الله علَيهِ وسلَّم ويُلقِي علَيكُم مِنَ المسَائِل بآذَانٍ وَاعِيَةٍ وأَذْهَانٍ حَاضِرَةٍ حتى لا تَحتَاجُوا إلى الاستِعَادَةِ وطلَبِ المرَاعَاةِ ، أو واسْمَعُوا سَمَاعَ قَبُولٍ وطَاعَةٍ ولا يَكُنْ سَمَاعُكُم كسَمَاعِ اليَهُودِ حَيثُ قَالُوا سَمِعْنَا وعَصَيْنَا.
{وَلِلْكَـافِرِينَ} ولِليَهُودِ الذينَ سَبُّوا رَسُولَ اللهِ صَلّى الله علَيه وسلّم
{عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} مُؤلِم.
{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} مِنِ الأُولَى لِلبَيَانِ لأنّ الذينَ كَفَرُوا جِنسٌ تَحتَهُ نَوعَانِ : أهلُ الكِتَابِ والمشرِكُونَ ، والثّانيَةُ مَزِيدَةٌ لاسْتِغرَاقِ الخَيرِ ، والثّالِثَةُ لابْتِدَاءِ الغَايَةِ. والخَيرُ الوَحْيُ وكَذلِكَ الرَّحمَةُ.
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} يَعني أنَّهم يَرَونَ أَنفُسَهُم أَحَقَّ بِأَنْ يُوحَى إلَيهِم فيَحسُدُونَكُم ومَا يُحِبُّونَ أنْ يَنزِلَ عَلَيكُم شَيءٌ مِنَ الوَحْيِ واللهُ يَختَصُّ بالتَّوبَةِ مَن يَشَاءُ
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة : 105] فيهِ إشْعَارٌ بأنّ إيْتَاءَ النُّبُوّةِ مِنَ الفَضْلِ العَظِيمِ ولَمّا طَعَنُوا في النَّسْخِ فقَالُوا : ألا تَرَونَ إلى محَمَّدٍ يَأمُرُ أَصْحَابَهُ بأَمْرٍ ثمّ يَنهَاهُم عَنهُ ويَأمُرُهُم بخِلافِه ويَقُولُ اليَومَ قَولًا ويَرجِعُ عَنهُ غَدًا نَزَلَ:
{مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا} تَفسِيرُ النَّسْخِ لُغَةً التّبدِيلُ ، وشَرِيعَةً بَيَانُ انْتِهَاءِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُطلَقِ الذي تَقَرَّرَ في أَوْهَامِنَا اسْتِمرَارُهُ بطَرِيقِ التّرَاخِي فَكَانَ تَبدِيلًا في حَقِّنَا بَيَانًا مَحْضًا في حَقّ صَاحِبِ الشَّرْعِ.
وفِيهِ جَوابٌ عنِ البَدَاءِ الذي يَدَّعِيْهِ مُنكِرُوهُ - أَعْني اليَهُودَ - ومَحَلُّهُ حُكْمٌ يَحتَمِلُ الوُجُودَ والعَدَمَ في نَفْسِه لم يَلحَقْ بهِ مَا يُنَافي النَّسْخَ مِن تَوقِيتٍ أو تَأبِيدٍ ثَبَتَ نَصًّا أو دِلالَةً.
وإنّما يَجُوزُ النَّسْخُ بالكِتَابِ والسُّنّةِ مُتّفِقًا ومُختَلِفًا ويَجُوزُ نَسْخُ التّلاوَةِ والحُكْمِ ، والحُكمِ دُونَ التّلاوَةِ ، والتّلاوَةِ دُونَ الحُكْم ونَسخُ وَصْفٍ بالحُكْمِ مِثلُ الزّيادَةِ على النَّصّ فَإنّهُ نَسْخٌ عِندَنَا خِلافًا للشَّافِعيّ رَحمَهُ اللهُ.
والإنْسَاءُ أنْ يُذهَبَ بحِفظِها عن القُلُوبِ. أو نَنْسَأْهَا مَكّي وأبو عمرو أي نؤخّرْهَا مِن نَسَأْتُ أيْ أَخَّرْتُ
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} أي نأتِ بآيَةٍ خَيرٍ مِنهَا للعِبَادِ أيْ بآيَةٍ العَمَلُ بِها أكثَرُ للثَّوابِ.
{أَوْ مِثْلِهَآ} في ذلكَ إذْ لا فَضِيلَةَ لِبَعضِ الآياتِ على البَعضِ.
(إنْ نَظَرْنَا إلى كَلامِ اللهِ الذَّاتيّ أنّهُ كَلامٌ واحِدٌ لا يُقَالُ مِنهُ أَفضَلُ ومِنهُ مَفضُولٌ لَكنّ اللَّفظَ المنَزَّلَ بَعضُهُ فِيهِ تَخفِيفٌ وبَعضُهُ فِيهِ تَثقِيلٌ في هَذَا أَفضَلُ ومَفضُولٌ) (وقولُه علَيهِ السَّلامُ عن ءايةِ الكُرسيّ "إنّها سَيِّدَةُ ءايِ القُرءَانِ" رواه البخاري. مَعنَاهُ ءايَةُ الكُرسيّ أفضَلُ ءايَةٍ في القُرءان، كلامُ اللهِ الأزليّ ليسَ فيهِ أفضَلُ ومَفضُول. أمّا الحُرُوفُ فبَعضُ ءَايِ القُرءَانِ أَفضَلُ مِنْ بَعضٍ.)
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 106] أي قَادرٌ فَهوَ يَقدِرُ على الخَيرِ، وعلى مِثلِه.
https://www.islam.ms/ar/?p=521