تفسير آية لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين
معنى قوله تعالى ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [سورة البقرة آية 256] جاءَ على عِدَّةِ أوْجُهٍ مِن التفسير:
التفسيرُ الأول: أنَّ الذي لَمْ يدخُلْ في الإسلامِ إذا دفعَ الجزيةَ لِسُلطانِ المسلمينَ فهذا لا تقتُلوه.
فقول الله تعالى ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ معناه قد بلَّغْتَ يا محمد الدَّعْوةَ التي أُمِرْتَ بتبليغها فأظْهَرْتَ الرُّشْدَ للناسِ وتميّزَ الحقُّ مِن الباطل، فَمَنْ قَبِلَ دعوتكَ ودخلَ فيها فذاكَ الأمر، ومَن لم يدخُلْ ودفعَ الجِزيَةَ فلا تقاتلوه، والمقصودُ بهذا أهلُ الذِمَّة،
وقد روى البخاري عن المُغيرَةُ بن شُعبة أنهُ قال لِكفارِ الفُرس: "أمرَنا نَبيُّنا أن نُقاتِلَكُم حتى تعبُدوا اللهَ وحدهُ أو تُؤَدّوا الجِزية" وهذا على التَّرْتيبِ وليسَ تخْييراً، لا يُقالُ لهم إما أن تُسلِموا وإما أن تدفَعوا الجِزية، بل يُقالُ لهم أسْلِموا فإنْ أَبَوْا يُعرَضُ عليهِم الجزية لأن دَعْوةَ الكُفارِ إلى الإسلامِ واجِبَة، فإن قَبِلوا فذاك الأمر، وإن لَم يقبلوا يُعرَضُ عليهِم دَفْعُ الجزية،فإن قَبِلوا تُرِكوا وإلا وجَبَ قِتالُهُم، هذا إن استطاعَ المسلمون.
وورد أن سيدنا خالد بن الوليد ذهبَ للفُرْسِ ومعَهُ جيشٌ من المسلمين، فلمّا وصَلَ لهُم قال له زعيمُ الفُرس واسْمُهُ يزْدجَرْد ماذا تُريدونُ مِنّا، ألا إنَّا تشاغَلْنا عنكُم جِئتُم تُقاتِلونا، فقال له سيدنا خالد : أمِرْنا أن نُقاتِلَكُم حتى تُسلِموا، قال فإنْ أبَيْنا قال فالجِزية، قال فإنْ أبَيْنا قال فلقد جِئتُكَ بِأناسٍ هم أحْرَصُ على الموْتِ مِنكُم على الحياة.
فليسَ الأمْرُ كما يقولُ بعضُ الجُهّالِ أنَّ قِتالَ الكفارِ يكونُ في حالَةِ الدِّفاعِ فقط (أي إذا جاؤوا لِقِتالِ المسلمين) فالنبيُ قاتلَ لأجلِ الإسلام، في كثيرٍ من المعارِكِ كان هو يغزو الكفار، كَغزوةِ تبوك فقد قال عليه الصلاة والسلام "أيها الناس إنّي أريدُ الروم".
التفسير الثاني: إن العِبادَ لا يقدِرونَ على هِدايةِ قلوبِ الناسِ أي لا يستطيعونَ خَلْقَ الاهتِداءِ في قلوبِ الناسِ لأن اللهَ وَحْدَهُ الذي يَخلُقُ الاهتداءَ في قلبِ مَن يشاءُ لأن القلوبَ بِيد اللهِ لا يَمْلكُها احدٌ إلا الله وإنما عليهِم الدعوةَ والبيان
التفسير الثالث: هو أن هذه الآيةَ منسوخةٌ بِآياتِ القتال، وهذا قالهُ الإمامُ أبو منصور الماتوريدي. وحُرْمَةُ القِتالِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ نُسِخَت وأصبحَ القتالُ في كلِّ الأشهُر
الله تعالى يُنزّلُ حكماً يُعْمَلُ به مدّة ثم يُنسَخُ بآيةٍ أخرى لِمصالحِ العباد ، الله يُنزِّلُ آيةً ثم يرفعُ حُكمَها ويُنزِّلُ آيةً أخرى حُكمُها غيرَ تلك الآيةِ الأولى لمصالحِ العبادِ لأنَّ مصالِحَ العبادِ تختلفُ باختِلافِ الزمان ، لَمّا كان المسلمونَ قِلَّةً المصلحةُ كانت ألا يُقاتلوا أما لَمّا كَثُروا فالمصلحةُ أنْ يقاتلوا الكفارَ لِيُدخِلوهم في دينِ اللهِ ولِينقذوهم مِن الكُفرِ إلى الإسلام،
وقد وردَ في الحديثِ الذي رواه البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل بني المُصْطَلِق وهم غارّونَ أي لا عِلْمَ لَهُم بِقُدومِ النبي وكانوا يسقون مواشيهم فقتلَ مُقاتلتهم وسبى نسائَهم وذراريهم) حصلتْ هذه الغزوة في السنة السادسة للهجرة وفي هذه السنة كانت غزوة الحديبية وبيعة الرضوان وكُسِفت الشمس ونزل حكم الظِّهار
قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [سورة البقرة آية 256]
قال النسفي (ت 710 هـ) : تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل: قال ابن مسعود وجماعة: كان هذا في الابتداء ثم نُسِخَ بالأمر بالقتال ﴿ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ ﴾ قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ ﴾ بالشيطان أو الأصنام ﴿ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ ﴾ تمسك ﴿ بِٱلْعُرْوَةِ ﴾ أي المعتصم والمتعلق ﴿ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾ تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون ﴿ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا ﴾ لا انقطاع للعروة، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة ﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لإقراره ﴿ عَلِيمٌ ﴾ باعتقاده.
قال ابن الجوزي (ت 597 هـ) : تفسير زاد المسير في علم التفسير: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فذهب قوم إلى أنه محكم، وأنه من العام المخصوص، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه، وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد، والدين هاهنا: أريد به الإسلام. والرشد: الحق، والغي: الباطل.
قال الخازن (ت 725 هـ): تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل: ونزل في أهل الكتاب لا إكراه في الدين يعني إذا قبلوا الجزية فمن أعطى الجزية منهم لم يكره على الإسلام فعلى هذا القول تكون الآية محكمة ليست بمنسوخة وقيل: بل الآية منسوخة وكان ذلك في ابتداء الإسلام قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسخت بآية القتال وهو قول ابن مسعود وقال الزهري سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى لا إكراه في الدين قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحداً في الدين فأبى المشركون إلاّ أن يقاتلوا فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
قال ابن عطية (ت 546 هـ): تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويلزم على هذا، أن الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قالا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية، ونزلت فيهم ﴿ لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾.
قال البغوي (ت 516 هـ) : تفسير معالم التنزيل: أنزل الله تعالىٰ: ﴿ لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يقروا بالجزية فمن أعطى منهم الجزية لم يكره على الإِسلام، وقيل كان هذا في الابتداء قبل أن يؤمر بالقتال فصارت منسوخة بآية السيف، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنهما، ﴿ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ ﴾ أي الإِيمان من الكفر والحق من الباطل.
قال محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ) : التحرير والتنوير: وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ قَبْلَنَا فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ﴾ [التَّوْبَة: 73]، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَلَكِنَّهَا خَاصَّةٌ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ هِيَ خَاصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْأَوْثَانِ، وَإِلَى هَذَا مَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ « وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ رَأَى قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ جِنْسٍ يَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَيْهِ »، يَعْنِي مَعَ بَقَاءِ طَائِفَةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْإِكْرَاهُ.
أما قوله تعالى ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ [سورة الكهف آية 29] فهو على سبيلِ التّهديدِ وليس على سبيلِ التّخيير ليس معناها أنتم لَكُم حُريَّةُ الاختيار اختاروا الكفرَ إن شئتُم أو اختاروا الإسلام، بل هي مِن بابِ التهديدِ بدليلِ بقيّةِ الآية وهي قوله تعالى ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [سورة الكهف آية 29].
وأما قوله تعالى ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾ في الآية معنى التهديد وهو كقوله تعالى: ﴿لَنَا أَعمَالُنَا وَ لَكُم أَعمَالُكُم(55)﴾ [سورة القصص]، فقوله ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ(6)﴾ أي الباطل وهو الشرك الذي تعتقدونه وتتولونه ﴿وَلِيَ دِينِ (6)﴾ الذي هو دين الحق وهو الإسلام، أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذا غاية في التبرّي من الباطل الذي هم عليه. ومثل ذلك في إفادة التهديد والوعيد قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ(29)﴾ ، فليس معنى الآية أن من اختار الإيمان كمن اختار الكفر، بل من اختار الكفر مؤاخذ ومن اختار الإيمان مُثاب، ويدل على أنها تفيد التهديد بقية الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا(29)﴾ [سورة الكهف]، وهنا يجدر التنبيه إلى أن العلماء قالوا: من قال في الآيتين إنهما تفيدان أن لا مؤاخذة على من اختار دينًا غير الإسلام إنه يكفر لتكذيبه قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ [سورة آل عمران].
وأما قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (99) ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة يونس آية 100].
فمعناها كما ذكرنا أي أنت لا تستطيعُ أنْ تُجْبِرَ القلوب، أمّا بِالظّاهِرِ فنَعمْ تستطيعُ بالقتالِ أن تُجبِرَهُم أي تقهرَ الجسدَ بالقتال.
الإسلام لم يأتِ بحرية الرأي والفكرِ والاعتقاد
لِيُعْلَم أن دينَ الإسلامِ لم يأتِ بِحُريَّةِ الرأيِ والفكرِ والمُعتقدِ وهذا القولُ أي قولُ من جعلَ الإسلامَ قد أعطى حريةً للناسِ في اعتقادِهِم قولٌ كُفرِيٌّ يخالِفُ القرآنَ ويخالفُ شرعَ اللهِ فقد قال ربنا عز وجل ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ ﴾ [سورة الأنفال آية 39] معناه فُرِضَ عليكم أيها المسلمونَ أن تقاتلوا الكفارَ لِضمانِ سلامةِ دينِكُم ولإدخالِ الناسِ في دينِ الإسلام دينُ الله ، وقال تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة آية 216]
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في صحيحه "أُمِرتُ أنْ أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسولُ اللهِ ويقيموا الصلاةَ ويؤتوا الزكاةَ فإن هم قالوها عصموا مني دمائَهُم وأموالَهُم إلا بِحقِّ الإسلامِ وحسابُهم على الله" فَبِقَوْلِ الرسولِ هذا تبيّنَ أن الإسلامَ لم يأتِ بحريةِ الاعتقاد.
والله تعالى يقول ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات آية 56] أي إلا لآمُرَهُم بعِبادتي،فاللهُ لم يُخَيِّر الجِنَّ والإنسَ بين الكُفر والإيمان
ومِن أكبرِ الأدلَّةِ على ذلكَ الجهادَ الذي جعلَهُ اللهُ من أسمى العبادات، فهل يقولُ عاقلٌ أنّ الجهادَ ما فيه إكراه، والجِهادُ حصلَ مِن الأنبياءِ الذين قبلَ محمد عليهم الصلاة والسلام، فَهُم قاتلوا لإدخالِ الناسِ في الإسلام، فرسولُ اللهِ موسى أمرَ أتباعَهُ بِقِتالِ الجبّارينَ الذينَ كانوا مُسَيْطِرين على القدسِ فلم يُطيعوهُ فماتَ قبلَ أنْ يَصِلَ إلى القدسِ وَدُفِنَ في أرضٍ قريبةٍ مِن الأرضِ المقدسة.
وليُعلَم أنهُ ليسَ في الجِهادِ عُدْوانٌ على الناسِ بغَيرِ حق، وليس المقصودُ مِن الجهادِ المال، إنما المقصودُ منه إخراجُ الكفارِ من كُفرِهِم إلى دينِ اللهِ رأفةً ورحمةً بهم
ويُحْتَجُّ على من يُنكِر محاربةَ الكفارِ بدعوى ما يُسَمّونَهُ بِحريةِ الاعتقادِ واختيارِ الدينِ بما فعلَهُ سيدنا أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه في الناسِ الذين كفروا لمّا مات الرسول، لأنه لمّا ماتَ الرسولُ كفرَ كثيرٌ من العرب، بعضُ القبائلِ أرسلَ إليهِم أبو بكرٍ جيشاً أبادَهُم إلا مَن رجعَ إلى الإسلام، وقُتِلَ من الصحابةِ سبعينَ شخصاً في تلك المعركة، فلو كان يجوزُ تَرْكُ هؤلاءِ على كُفْرِهِم لَما أرسل إليهم أبو بكرٍ جيشاً.
هذا الذي يُنْكِرُ مُحاربةَ الكفار ويقولُ بِحُريَّةِ الأديانِ يعترِضُ على رسولِ الله وعلى الصَّحابةِ وعلى مَن جاءَ بعدَهُم من الخلفاءِ وعلى الآياتِ القرآنية.
الحكمةُ من الجهاد
الحمدُ للهِ وبعد فإنَ الأصلَ في الجِهادِ إدخالُ النّاسِ في الإسلام رحمةً لهُم لأنهُ بِالجهادِ يسلم بعضٌ ومن لم يُسلم يُقاتل وفي ذلِك رحمةٌ للنّاس لأنَ النّجاةَ من العذابِ المؤبد لا تكونُ إلا بالإيمانِ باللهِ ورسوله ومن لم يؤمن لا يكونُ شاكراً لخالقهِ روى البُخاريُ ومسلم أنهُ صلى اللهُ عليهِ وسلم قال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلِك عصموا مني دِماءهم وأموالهم إلا بِحق الإسلام" فالجِهادُ رحمةٌ للبشر وليسَ وحشية، بعضُ النّاسِ يقولونَ كيفَ يُقتلُ إنسانٌ لكي ينتقل من دينهِ إلى الإسلام هذهِ وحشية وهذا جهلٌ منهُم قالَ اللهُ تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ ﴾ [سورة الأنفال آية 39] فالكَافرُ لا يكونُ شاكراً لخالقهِ الذي أوجدهُ من العدم إلا بالإسلام، وقد كانَ الجِهادُ عندَ بعضِ الأنبياءِ الذينَ قبلَ سيدنا محمد مشروعاً فقد أمرَ موسى قَومهُ أن يُجاهدوا الكُفارَ الجبارين الذينَ كانوا بالقدُس بعدما خرجَ بنو إسرائيلَ من مِصر لكنهم لم يُطيعوهُ وقاتلهم بعدَ ذلِكَ نبي اللهِ يوشع.
وقد وردَ في الجِهادِ ءايات قُرءانيةٌ وأحاديث نبوية قال تعالى: ﴿كُتب عليكُم القِتالُ وهو كرهٌ لكم﴾ وقال تعالى: ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله ﴾ وأما قولُ اللهِ تباركَ وتعالى : ﴿ لا إكراهَ في الدين قد تبينَ الرُشدُ من الغي ﴾ فهذهِ الآية منسوخةٌ بآيات القِتال لأن القِتال لأجلِ إدخالِ الناس بالإسلام لم يأذنِ اللهُ لرسولهِ بهِ إلا بعدَ أن هاجرَ وكَثُر المسلمون وفي ذلِك حكمةٌ كبيرة. أما قولهُ تعالى: ﴿ ليسَ عليك هُداهم ﴾ فمعناهُ أنت لا تستطيع أن تقلب قلوب الكفار إلى الهُدى لأن هذا بيدِ الله إنما الذي يلزمُك البيانُ والجِهادُ أما قولهُ تعالى:﴿ لستَ عليهم بمسيِطر ﴾ فمعناهُ لا تستطيع أن تُسيطرَ على قلوبهم فتقلبها إلى الإيمانِ لأنَ اللهَ هو خالقُ الهِدايةِ في قلبِ من شاء وخالقُ الضلالة في قلبِ من شاء.
وأما قولُ من يقول : إن الجِهادَ في الإسلام هو جهادُ سياجٍ ودفاعٍ فقط ولا هجومَ فيهِ فهو كذبٌ مُخالفٌ للواقع فقد صحَ في الحديثِ الذي رواه البخاري: أن رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلم غزا بني المصطلق وهُم غَارّونَ اي لا علم لهُم فقتلَ مُقاتلتهُم وسبى نِساءهُم وذرارِيهُم. وروى الحافظُ المُجتهد محمدُ بنُ جرير الطبري أن أبا بكرٍ أرسلَ جيش المُسلمين لِقتالِ المُرتدينَ الذينَ ارتدوا بعدَ وفاةِ رسولِ الله وكانَ على رأسِ الجيش خالدُ بنُ الوَليد وفيهم أعلمُ الصحابة علي بن أبي طالب وكانَ شعارُ الصحابةِ في هذهِ المعركةِ يا مُحمداه يا مُحمداه. وكانَ هؤلاء المُرتدون في بيوتهم لم يخرجوا لِقتالِ المُسلمين وقُتِل منهُم عشرةُ ءالاف وقُتِلَ من المُسلمين ستمائة وقُتِل في المعركةِ مُسيلمة بن حبيب الذي سماه المسلمون مسيلمة الكذاب. روى ذلك الحافظ ابنُ كثير في كتابِ البداية والنهاية والحافظ محمد بن جرير الطبري في كتاب تهذيب الاثار.
قال الله تعالى: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّـهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّـهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا ﴾ [سورة النساء آية 84]
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [سورة النساء آية 76]
﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [سورة النساء آية 74]
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سورة الأنفال آية 39]
﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّـهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية 146]
﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [سورة البقرة آية 244]
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [سورة البقرة آية 193]
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة البقرة آية 216].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ﴾ [سورة الأنفال آية 65].
https://www.islam.ms/ar/?p=155