خطبة الجمعة في بيان أنَّ الله خالق العباد وأعمالهم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
إنَّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، ولا ضدَّ له، ولا نِدَّ له، ولا مثيل له، ولا مكانَ له، ولا خالقَ سواه، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، بَلَّغَ الرسالةَ وأَدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائِهِ، صلواتُ الله وسلامُهُ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإنيِ أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ القديرِ القائلِ في محكمِ كتابِهِ في ذمِّ المشركين: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (سورة الرعد ءاية 16).
إخوةَ الإيمانِ لقد أمرَ اللهُ نبيّه المصطفى في هذه الآيةِ أن يُنْكِرَ على المشركينَ الذين كانوا يعبدونَ الأصنامَ مِنْ دونِ اللهِ ويُبَيِّنُ لهم أنَّ اللهَ هو خالقُ كلِّ شىءٍ وأنَّهُ الواحدُ الذي لا شريكَ له ولامثيل له ولا نظيرَ له ولا خالقَ لشىءٍ من الأشياءِ إلا هو القهَّارُ أي الغالبُ لكلِّ ماعداهُ الذي كلُّ ماسواه تحت قدرتِهِ مقهورٌ له سبحانه وتعالى.
قال الإمام ابن الجوزي (ت 597 هـ) في كتابه زاد المسير في علم التفسير: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء﴾، قال ابن الأنباري: معناه: أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء ؟ وهذا استفهام إنكار، والمعنى: ليس الأمر على هذا، بل إذا فكّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيره لايخلق شيئًا. قوله تعالى ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قال الزجاج: قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شىء اهـ.
أيها الأحبةُ إنَّ من أصولِ عقائدِ الإسلامِ اعتقادَ أنَّ الله خالُقنا أي مُخْرِجُنا من العدمِ إلى الوجودِ وخالقُ أعمالِنا أي الذي يُبْرِزُها من العدم إلى الوجود، وقد رُوِيَ عن إمامِ الصوفيةِ العارفينَ الجنيدِ البغداديِّ أنه سُئل مرة عن التوحيدِ فقال ” إنه لا مُكَوِّنَ لشىءٍ منَ الأشياءِ من الأعيانِ والأعمالِ خالقٍ لها إلا اللهُ تعالى ” والأعيانُ إخوةَ الإيمان هي كلُّ ما لَهُ حجمٌ صغيرًا كانَ أو كبيرًا أما الأعمالُ فالمرادُ بها أعمالُ العبادِ ما كان خيرًا وما كان شرًا فيجبُ علينا أيها الأحبةُ اعتقادُ أنَّ كلَّ ما دخلَ في الوجودِ مِنَ الأعيانِ أي الأحجامِ والأعمالِ وُجِدَ بِخَلْقِ اللهِ سبحانه وتعالى كما قالَ الله عَزَّ وجلَّ في مُحْكَمِ كتابِهِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾(سورة الصافات ءاية 96).
فهذه الآيةُ صريحةٌ في ما ذكرنا فنحن أيها الأحبةُ لا نَخْلُقُ شيئًا لا ذواتِنا ولا أعمالَنا إنما نحن وأعمالُنا بخلقِ اللهِ تعالى ولا فرقَ في ذلك إخوة الإيمانِ بين أعمالِنا الاختياريةِ كالأكلِ والشربِ والصلاةِ وبينَ الأعمالِ الاضطرايةِ كالارتعاشِ مِنَ البردِ بلْ كُلُّ ذلكِ بِخَلْقِهِ سبحانَهُ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (سورة الأنعام ءاية 162 – 163). أخبرَ اللهُ تعالى بأنَّ صلاةَ العبدِ ونُسُكَهُ أي ما يَذْبَحُهُ تقربًا إلى الله تعالى كالأضحيةِ ومَحْيَاهُ ومماتهُ مِلكٌ له وخَلْقٌ له لايشاركُهُ فيه غيرُهُ فأعلمَنا أنه لافرقَ في ذلكَ بين الأعمالِ الاختياريةِ كالصلاةِ والنُّسُكِ وبينَ ما يَتَّصِفُ به العبدُ مما ليس باختيارِهِ كالحياةِ والموتِ، إنما تتميزُ الأعمالُ الاختياريةُ أي التي تقعُ باختيارِ العبادِ فيكتسبُها الناسُ بأنها هي التي عليها يُحَاسَبُ الإنسانُ ويُؤَاخَذُ فيما كانَ منها خيرًا يُثابُ عليهِ وما كان شرًّا يُؤَاخَذُ عليه كما قال الله تعالى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ ( سورة البقرة ءاية 286 ) أي منَ الخيرِ أي تنتفعُ بذلكَ ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (سورة البقرة ءاية 286) أي وعليها وَبَالُ ما اكتسبتْهُ من الشرِ أي تستحقُّ العقوبةَ على ذلكَ، والكسبُ إخوةَ الإيمانِ هو توجيهُ العبدِ قصدَهُ وإرادتَهُ نَحْوَ العَمَلِ فيخلقُهُ الله عندَ ذلكَ فالعبادُ أيها الأحبةُ كاسبونَ لأعمالِهِمْ واللهُ خالقٌ للعبادِ وخالقٌ لأعمالِهِمْ وخالقٌ لِنِيَّاتِهِم وقصودِهِمْ لاخالقَ إلا هُوَ سبحانَهُ وتعالى الذي لا شريكَ لَهُ.
أيها الأحبةُ إنَّ من يعقدُ قلبَهُ على انَّ الله هو خالقُ كلِّ شىءٍ وأنه لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا هوَ ويُكْثِرُ مِنْ شُهودِ ذلكَ بقلبِهِ حتى يصيرَ مُسْتَشْعِرًا لذلكَ بقلبِهِ دائمًا تَهُونُ عليه مصائبُ الدنيا وتهونُ عليه الشدائدُ ويذهبُ عنه الخوفُ من العبادِ ويصيرُ من أهلِ اليقينِ. اللهُمَّ اجْعَلْنا من أهلِ اليقينِ وثبتنا على الطريقِ القويمِ. هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية.
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونشكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيّئات أعمالنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ. ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وءالِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ الصالحينَ أما بعدُ عبادَ الله فإنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتقوىَ اللهِ العليِّ العظيم فاتَّقُوهُ.
واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاة والسلام على نبيِّهِ الكريم فقال ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (سورة الأحزاب ءاية 56) اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (سورة الحج ءاية 1 – 2). اللهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفِرِ اللهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسنَةٌ وفي الآخِرَةِ حسنةٌ وقِنا عذابَ النارِ اللهُمَّ اجعلْنا هُداةٌ مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّف.
عبادَ الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اذكُروا الله العظيم يُثبكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتَّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا وَأَقِمِ الصلاةَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=79