الإيمان برُسُلِ الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين و بعد،
ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على شكل رجل لا يعرفه أحد من الصحابةِ فجلس إليه حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع يديه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني ما الإيمان قال: « أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتِبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». فقال له جبريل : صدقت. الحديثَ
معنى قوله أن تؤمن بالله : الإيمان في اللغة معناه: التصديقُ وفي الشرع: التصديق بمعنى الشهادتين، والإيمان بالله يكون باعتقاد أنه موجود من غير أن يُشبَّهَ بِشىء من خلقه والدليل على ذلك من القرءان الكريم قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ والله تعالى هو خالقُ كل شئ الأجسام الكثيفةِ وهي ما يمكن ضبطه باليد كالحجر والشجر والإنسان والأجسام اللطيفةِ وهو ما لا يمكن ضبطه باليد كالريح والروح والنور والظلام والجن والملائكة فالله لا يشبه شيئاً من خلقه فلا يجوز أن يكون حجماً كثيفاً ولا حجما لطيفاً قال الله تعالى: ﴿وَكلُ شَئ عِندهُ بِمقدَار﴾ معناه : كل شئ خلقه الله على قدر معين من الحجم فحبة الخردل لها حجم صغير وحبة القمح أكبر منها ثم حبة العنب أكبر ثم العرش أكبر جسم خلقه الله من حيث الحجم والجسم لا يخلق الجسم فثبت أن الله ليس جسماً. ثم لا يجوز على الله أن يتصف بصفات الأجرام كالحركة والسكون والكون في الجهة والمكان فلا يجوز أن يقال إن الله موجود في السماء أو قاعد على العرش أو مستقر فوق العرش أو محاذيه لأن كل هذا من صفات الأجسام قال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة : "ومنْ وَصَفَ الله بِمَعنى منْ مَعَانِي البَشَر فَقَدْ كَفَرْ" وقد مضى على وفاة الطحاوي أكثر من ألف سنة. ومعاني البشر معناه : صفاتهم كالجوارح والأعضاء والشكل واللون والتغير من حال إلى حال والانفعال والانتقال من مكان إلى ءاخر. الله تعالى هو خالق الأماكن والجهات فلا يجوز عليه أن يسكنها كان موجوداً قبل خلقها بلا مكان ولا جهة ولا يزال موجوداً بعد خلقها بلا مكان ولا جهة لأن الله يغير في خلقه وهو سبحانه وتعالى لا يتغير.
قولهُ صلى الله عليهِ وسلم في حديث جبريلَ الطويل : "أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتِبِهِ ورُسُلِهِ..." الحديث معناه: أنه يجبُ الإيمانُ برسل الله من كان منهم نبياً غيرَ رسول ومن كان رسولاً نبياً، وليعلم أن النبي هو : من أوحي إليهِ بشرعِ من قبلهُ أما الرسولُ فهو : من أوحي إليه بشرعٍ جديد، وكلٌ مأمورٌ بالتبليغ وقد غلط بعضهم فقال : إن النبي غيرُ مأمورٍ بالتبليغِ وهذا غلطٌ شنيع لأنه لو لم يكن مأموراً بالتبليغ فأي معنى لرسالتهِ ؟
ومعنى قول الله تعالى: ﴿ لانفرقُ بين أحدٍ من رسله ﴾ أي بالإيمانِ معناهُ: نؤمنُ بالكُل أما من حيثُ الفضلُ فبعض الرسل أفضل من بعض قال تعالى: ﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾.
وأول الأنبياء والرسل هو ءادم عليه السلام والدليلُ على أنه كان نبياً قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾[سورة آل عمران آية 33] وقد غلط بعضُ الناسِ وظنوا أن أول الرسل على الإطلاق هو نوحٌ وأوردوا لذلك حديثاً إن نوحاً هو أول رسل الله إلى أهلِ الأرضِ وهذا الحديث معناه: أن نوحاً عليه السلام هو أول من أرسله الله إلى أقوامٍ مختلفين لأنه قبل ذلك كان الناس أمة واحدة أي كلُهم على الإسلام وذلك في زمن ءادم وشيث وإدريس وحصل الكفر أول مرة بعد إدريس فكان نوحٌ أول من أرسل إلى الكفار، والجاهلية الأولى ما بين وفاة إدريس إلى بعثة نوح وكانت ألف سنة.
وأفضل الأنبياء وءاخرهم هو محُمّد صلى الله عليه وسلم والدليل على أنه أفضل الأنبياء قوله تعالى : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ الآية وإذا كانت أمته خير الأمم فيكون هو خيرَ الأنبياءِ.
وليعلم أن الأنبياء أفضل من الأولياء وأفضل من الملائكة قال الله تعالى بعد ذكر جملةٍ من الأنبياء: ﴿وكلاً فضلنا على العالمين﴾ والعالَـمون يشمل الجن والإنس والملائكة.
وقد جاء كلُ الأنبياء بدين واحدٍ هو الإسلام قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[سورة آل عمران آية 85] وقال تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ﴾ وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾.
وروى البخاري أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاّتٍ دِينُهُم وَاحِد وَأُمَّهَاتُهُم شَتَّى » معناه دينهم هو الإسلام فكلُ الأنبياء جاؤوا بعقيدةٍ واحدةٍ في حق الله وهي عقيدة لا إله إلا الله قال عليه الصلاة والسلام: « أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ». والإخوة في اللغة إخوة أشقاء أو إخوة أخياف أو إخوة لعلات ومعنى إخوة لعلات: الذين أبوهم واحد لكن أمهاتهم مختلفة، وهذا التشبيه الذي ذكره الرسول معناه أن كل الأنبياء كالأخوة الذين أبوهم واحد وذلك لأن دينهم واحد وهو الإسلام وإنما الفرق بينهم في الشريعة التي هي الفروع العملية كالزكاة والصلاة ونحو ذلك ، ففي شريعة ءادم كان يجوز للأخ أن يتزوج أخته من البطن الآخر وكان الزنى في شريعته إذا نكح الأخ أخته التي هي من نفس البطن ثم حُرم زواج الأخِ أختهُ من البطن الآخر في شريعة شيث، وكان في شريعة ءادم فرضية صلاة واحدة ثم في شريعة أنبياء بني إسرائيل فرضية صلاتين ثم في شريعة سيدنا محمد التي هي أحسن الشرائع وأيسرها فرضية خمس صلوات في اليوم والليلة، وهذا التغير في الشريعة على حسب ما تقتضيه الحكمةُ والله أعلم بمصالح الناس من أنفسهم.
ومن هذا يتبين الغلط الشنيع في قول بعض الناس الأديان السماوية الثلاث فإنه لا دينَ صحيح إلا الإسلام وهو الدين السماوي الوحيد. وأما النصارى الذين ذكروا في القرءان على سبيل المدح في ءاية : ﴿إن الذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الآخر﴾....الآية فهم المسلمون الذين نصروا عيسى واتبعوه على دين الإسلام وأما اليهود المذكورون فهم المسلمون الذين كانوا هادوا أي تابوا ورجعوا عما حصل منهم بعد مخالفتهم موسى وهارون قالوا هُدنا أي تبنا ورجعنا. وسببُ تسميةِ الذين كفروا بعد ذلك من اليهود و النصارى بأهل الكتاب لأنهم ينتسبون للتوراة والإنجيل انتساباً ولا يؤمنون بالتوراة والإنجيل الأصليين فلا يجوزُ تسميتهم مؤمنين والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ وقوله تعالى : ﴿ ولو ءامن أهل الكتاب لكان خيراً لهم ﴾ وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ معناه أنهم ليسوا مؤمنين وأما قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ فـ "من" هنا ليست للتبعيض إنما هي بيانية معناهُ: كلهم كفروا.
ويجِبُ اعْتَقادُ أنَّ كُلَ نَبيٍّ مِن أنْبِياءِ اللهِ يَجِبُ أنْ يَكونَ مُتَّصَفِاً بالصِّدْقِ والأمانة والفَطانَةِ فَيَسْتِحيلُ علَيْهم الكَذِبُ والخِيانَةُ والرّذالَةُ والسّفاهَةُ والبَلادَةُ والجُبْنُ وكُلُّ ما يُنَفِّرُ عَن قَبولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُم.
الأنبياء يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُم أنْ يَكونَ بِهَذِه الأخْلاق وَهِيَ الصِّدْقُ فَيَسْتَحيلُ عَلَيْهِمُ الكَذَب لأنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ يُنافِي مَنْصِبَ النُّبُوَّة.
الكَذِب: الكَلامُ بِخِلافِ الواقِع مَعَ العِلْمِ. الكَذِب لا يَحْصُل مِنَ الأنْبِياء لا في شَيْءٍ حَقير ولا جَليل، لا يَحْصُل مِنْهُم أي نَوْع مِن أنْواعِ الكَذِب، حَتّى الكَذِبُ الذي يَجوزُ لَنا أنْ نَكْذِبَهُ لا يَحْصُلُ مِنْهُم.
الكَذَب حَرام في حُكْمِ الشَّرْعِ لَكِن يوجَد أحْوال يَجوزُ الكَذِبُ فيها، كالكَذِبِ للخَلاصِ مِنَ الظُّلْمِ، كانْ يأتي شَخْصٌ ظالِم لِعِنْدكَ ويسألَكَ أنْتَ فُلان فَتَقول "لا لَسْتُ فُلاناً" وأنْتَ تَعْلَم أنَّهُ قادِم لِيَظْلِمَكَ، فَهذا اسْمُهُ كَذِب لَكِن هُنا جائِز لِدَفَعِ الظُّلْمِ. الأنْبِياء يَسْتَحيلُ عَلَيْهِم كُل أنْواع الكَذِب، لأنَّهُ إذا وَقَعَ النَّبِيُّ في كَذِبٍ يَكونُ ذَلِكَ عائِقاً في سَبيلِ الدَّعْوَة، وهذا مُسْتَحيل على الأنْبِياء، فَقَد يَقولُ لَهُ بَعْضُ النّاسِ سَبَقَ وجَرَّبْنا عَلَيْكَ الكَذِب فَكَيْفَ نُصَدِّقُكَ الآن فيما تَدَّعي، لِذَلِكَ عُصِمَ وحُفِظَ الأنْبِياء مِنَ الكَذِب قَبْلَ النُّبَوَّة وبَعْدها.
وأمّا قَوْلُ إبْراهيمَ عَلَيْهِ السّلام عَنْ زَوْجِتِهِ سَارَة "إنَّها أخْتي" وَهِيَ لَيْسَت أخْتَهُ فِي النَّسَبِ فَكان لأنَّها أُخْتُهُ في الدّين فَهُوَ لَيْسَ كَذِباً مِن حَيْثُ الباطِنُ والحَقِيقَةُ إنَّما هُوَ صِدْقٌ. سَيِّدُنا إبْراهيم ما حَصَلَ مِنهُ كَذَب بالـمَرَّة كَسائِر الأنْبِياء. كانَ يوجَد مَلِك إذا عَرَفَ أنَّ إنْساناً مُتَزَوِّجاً يُؤذيهِ ويَظْلِمُهُ في ذَلِكَ، فَرأى ذَلِكَ الـمَلِكُ الجَبّار سارَة زَوجَة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، فَقالَ لَهُ مِن هَذِهِ، فقالَ هَذِهِ أخْتي، قالَ اللهُ تَعالى ﴿إنَّما الـمُؤْمِنُونَ إخْوَة﴾ مَعناهُ الـمُسْلِم أخو الـمُسْلِم والـمُؤِمن أخو الـمُؤِمن، فَسَيِّدنا إبْراهيم أرادَ بِقَوْلِهِ "إنَّها أخْتي" أي أخْتي في الإسْلام، وذاكَ الـمَلِك الظَّالِم فَهِمَ أخْتي في النَّسَب، وهَذِهِ تُسَمّى تَوْرِيَةً صَحيحَة.
فائِدَة: توجَد تَوْريَة فاسِدَة وتَوْرِيَة صَحيحَة. التَّوْرِيَة الصَّحيحَة أنْ يَقولَ الشَّخْصُ لَفْظاً لَهُ أكْثَرُ مِن مَعْنىً يَقْصِدُ هُوَ مَعْنى وغَيْرُهُ قَد يَفْهَم مَعْنى غَيْرَهُ، عادَةً هُوَ يَقْصِدُ الـمَعْنى البَعيد والسَّامِعُ يَفْهَمُ الـمَعْنى القَريب. الـمَعْنى القَريب في كَلِمَة "أخْتي" النَّسَب وأمّا الـمَعْنى البَعيد الذي أرادَهُ إبْراهِيم عَلَيْهِ السَلام هُوَ أنَّها أخْتي في الإسْلام.
وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي أمْرِ إبْراهِيمَ فِي القُرْءانِ الكَريمِ أنَّهُ قال: ﴿بَلْ فَعَلَها كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إن كَانُوا يَنْطِقُون﴾ سورَة الأنْبِياء. وَلَيْسَ هَذا كَذِبًا حَقِيقِيًّا بَلْ هَذا صِدْقٌ مِنْ حَيْثُ البَاطِنُ والحَقِيقَةُ لأنَّ كَبِيرَ الأصْنامِ هُوَ الّذي حَمَلَهُ عَلى الفَتْكِ بِهِم أي الأصْنامِ الأخْرى مِن شِدَّةِ اغْتياظِهِ مِنْهُ لِمُبالَغَتِهِم فِي تَعْظِيمِهِ بِتَجْميلِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلى أنْ يُكَسِّرَ الصِّغارَ وَيُهينَ الكَبيرَ فَيَكونُ إسنادُ الفِعْلِ إلى الكَبيرِ إسْناداً مَجازِيًا فَلا كَذِبَ في ذَلِكَ أيْ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذِبًا.
سَيِّدنا إبْراهِيم حِينَ حَطَّمَ الأصْنامَ الصِّغار وأهانَ الصَّنَم الكَبير جاءَ قَوْمُهُ يَسْألون مَن فَعَلَ هذا، فَجاءَ في القُرْءان الكَريم حِكايَةً عَنْهُ "فَعَلَهُ كَبيرُهُم هذا"، وهَذِهِ لَها عِدَّة وُجُوه في التَّفْسير مِنها أنَّه بِسَبَبِ عِبادَتِكُم لِهَذِهِ الأصْنام وتَعْظيمِكُم لِهذا الكَبير دَفَعْني ذَلِكَ إلى تَحْطيمِ الصِّغار وإهانَة هَذا الصَّنَم الكَبير. وقالَ بَعْضُهُم ﴿بَل فَعَلَها كَبيرُهُم هذا فَسْئَلُوهُمْ إن كَانُوا يَنْطِقُون﴾ مَعْناهُ إن كانوا يَنْطِقون فَعَلَهُ الكَبير ولَكِن هُم لا يَنْطِقون فإذاً لَم يَفْعَلْهُ الكَبير. وفي جَميع الأحْوال إبْراهيم عَلَيْهِ السَلام كانَ صادِقاً فيما أرادَهُ وفي العِبارةِ الّتي قالَها على الـمَعْنى الذي أراد. فَهَذِهِ تَوْرِيَة صَحيحَة لأنَّهُ سَيَتَبادَر إلى ذِهْنِ السَّامِعين الذينَ لا يَعْلَمون أنَّهُ يَنْسُب هذا الفِعْل إلى الكَبير ظاهِراً. وأمّا حَديثُ "كَذَبَ إبْراهيمُ ثَلاثَ كَذَباتٍ" فَقَد اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ العُلَماءِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُم. هذا الحَديث اعْتَرَضَ عَلَيْهِ العُلَماء فَلَيْسَ كُل ما وَرَدَ في صَحيحِ البُخاري لَم يَعْتَرِض عَلَيْهِ الحُفَّاظ. وهذا الحَديث فيهِ أنَّ إبْراهيمَ كَذَبَ ثلاث كَذبات، والعُلَماء الذينَ أوَّلوه قالوا على مَعْنى التَّوْرِيَة، أي في ظَنِّ من يَسْمَع وهُوَ لا يَعَلَم الحَقيقَة قَد يَظُنُّ أنَّ ذَلِكَ كَذِب، وبَعْض العُلَماء اعْتَرضوا على ظاهِر لَفْظ هذا الحَديث. كالرّازِيُّ في تَفْسيرِه، أي مِنَ الذينَ اعْتَرَضوا على الحَديث. قالَ في الفَتْحِ (أي الحافِظ بنَ حَجَر فَتْحِ الباري في شَرْحِ صَحيح البُخاري) فِي شَرْح بابِ قَوْلِ اللهِ تعالى "وَاتَّخَذَ اللهُ إبْراهِيمَ خَلِيلاً" وَأمّا إطْلاقُهُ الكَذِبَ عَلى الأمور الثَّلاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قالَ قَوْلاً يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ (أي الجاهِلَ بالحَقيقَة) كَذِبًا لَكِنَّهُ إذا حَقَّقَ لَم يَكُن كَذِبًا لأنَّهُ مْن بابِ الـمَعاريضِ الـمُحْتَمِلَةِ لِلأمْرَيْن ا.هـ (أي الألْفاظ التي تَحْتَمِل أكْثَر مِن مَعْنى). قالَ الرّازِيُّ في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ فإنْ قُلْتَ رُوِيَ عَنْ رَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنَّهُ قال "ما كَذَبَ إبْراهِيمُ إلّا ثَلاثَ كَذَباتٍ قَوْلُهُ إنّي سَقِيم وَقَوْلُهُ بَل فَعَلَهُ كَبيرُهُم هَذا وَقَوْلُهُ لِسارَّة إنَّها أخْتي" قُلْتُ هذا مِن أخْبارِ الآحادِ فَلا يُعارِضُ الدَّليلَ القَطْعِيَّ الّذِي ذَكَرْناهُ ثُمَّ إنْ صَحَّ حُمِلَ على ما يَكونُ ظاهِرُهُ الكَذِب ا.هـ قَوْل سَيِدِنا إبْراهِيم "إنّي سَقيم" فَهُوَ قَوْلٌ كان َيَقولُهُ عِنْدَما يَظْهَر نَجْمٌ يَعْبُدُهُ بَعْضُ قَوْمِه. قَالَ بَعْضُ العُلَماء قَوله "إنّي سَقيم" مَعْناهُ قَلْبي مَريضٌ مِن عِبادَتِكُم لِهذا النَّجْم، فَهَذِهِ تَوْرِيَةٌ صَحيحَة. وقالَ بَعْضُ العُلَماء قَولُهُ "إنّي سَقيم" صَحيح لأنّهُ كانَ إذا ظَهَرَ هذا النَجْمُ الذي يَعْبُدُهُ قَوْمُه يَعْتَريهِ مَرَض حُمّى، فكانَ قَوْله على ظاهِرِهِ. وكِلا التَّفْسيرين صَحيح وكِلاهُما يَدُل على أنَّهُ لا يَقَع مِنهُ كَذِب.
وَالأمانَة، فَيَسْتَحيلُ عَلَيْهِمُ الخِيانَة فَلا يَكْذِبونَ عَلى النّاسِ إن طَلَبوا مِنْهُم النَّصِيحة ولا يَأكُلونَ أمْوالَ النّاسِ بالباطِلِ. الأنْبياء لا يَخونونَ في القَوْلِ والفِعْلِ ولا بالحال، وإذا وُضِعَت عِنْدَهُم أمانَات فَهَذِهِ الأمانات تَكون مَحْفوظَة، وإذا كانَ لِناسٍ عَلَيهِم مال يَرُدُّونَ هذا المال لَهُم.
وَالفَطانَة، فَكُلُّ الأنْبياءِ أذْكياءُ يَسْتَحيلُ عَلَيْهِمُ الغَبَاوَةُ أيْ أنْ يكونوا ضُعفاءَ الأفْهام لأنَّ الغَباوَةَ تُنافِي مَنْصِبَهُم لأنَّهُم لَو كانُوا أغْبياءَ لَنَفَرَ مِنْهُم النّاس لِغَباوَتِهِم واللُه حَكيمٌ لا يَجْعَلُ النُّبُوَّةَ والرِّسالَةَ في الأغْبِياءِ فإنَّهُم أُرْسِلوا لِيُبَلِّغوا النّاسَ مَصالِحَ ءاخِرَتِهِم وَدُنْياهُم والبَلادَةُ تُنافِي هَذا الـمَطْلوبَ مِنْهم. مِن شأنْ الغَبِيّ أنْ النّاس تَنْفِرُ مِنْهُ والأنْبِياء وَظيفَتُهُم إرْشاد وتَعْليم النَّاس مَصالِح الدّين والدُّنْيا لِذَلِكَ ما أرْسِلَ نَبِيّ يَتَّصِّف بالغَباوَة، كَذَلِكَ ما أرْسَلَ الله نَبِيّاً إلَا ويَكونُ هَذا النَّبِيّ مِن عِلِّيَةِ قَوْمِه لِيَكونَ ذَلِكَ أدْعى للقَبولِ مِنْهُ.َ
وَيَسْتَحيلُ عَلى الأنْبِياءِ الرَّذالَةُ وَالسَّفاهَةُ والبَلادَةُ فَلَيْسَ في الأنْبِياءِ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إلى النِّساءِ الأجْنَبِيّاتِ بِشَهْوَةٍ.
مَثَلاً الرَّذالَة هِيَ اخْتِلاسُ النَّظَر إلى النِّساءِ الأجْنَبِيّات بِشَهْوَة، وهَذا لا يَجوزُ على نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياء أن يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِك، يُسْتَفاد مِن هَذا الكَلام أنَّ كُل ما يُرْوَى وكُل ما يُنْسَب إلى نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياء مِمّا فيهِ نِسْبَة رَذالَةٍ إلَيْهِ فَيَكونُ غَيْرَ صَحيح ويَكونُ كَذِباً وافْتِراءً على هذا النَّبِيّ.
سَيِّدُنا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام كانَ نَبِيّاً صِدِّيقاً ولَم يَحْصُل مِنْهُ أنْ هَمَّ بالزِّنى بامْرَأةِ العَزيز كَما هُوَ مَذْكور في بَعْضِ الكُتُب كَتَفْسيرِ الجَلالَيْن [وهذا دسٌّ وافتراء]، وأمّا قَوْلهُ تَعالى في سُورَةِ يُوسُف "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أن رَأى بُرْهانَ رَبِّه" فَلَيْسَ مَعْناهُ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلام هَمَّ بالزِّنا بامْرَأةِ العَزيز، بَل بَيَّنَ الرّازِيُّ في تَفْسيرِهِ بُطْلانَ هَذا القَوْلِ وَأنَّهُ لا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الآيَةِ على أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلام هَمَّ بالزِّنا فَقالَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلام كانَ بَرِيئًا عَنِ العَمَلِ الباطِلِ والهَمِّ الـمُحَرَّمِ وَهَذا قَوْلُ الـمُحَقِّقينَ مِنَ الـمُفَسِّرينَ وَالـمُتَكَلِّمينَ وَبِهِ نَقولُ وَعَنْهُ نَذِبُّ ا.هـ.
وَقالَ في كتابِ عِصْمَةِ الأنْبياء فِي تَفْسيرِ الآيَةِ الوَجْهُ الثّانِي فِي حَمْلِ الهَمِّ عَلى العَزْمِ أن يُحْمَلَ الكلامُ على التَّقْديمِ وَالتَّأخَيرِ والتَّقْديرُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِها وَيَجْري ذَلِكَ مُجْرى قَوْلِكَ قَدْ كُنْتُ هَلَكْتُ لَوْلا أن تَدارَكْتُهُ ا.هـ. وهذا دَليل على نَفْيِ الهَمّ عَنْ يوسُف بالـمَرَّة. ولِكَي يٌفْهَم ذَلِك يُقال عِنْدَ شَرْحِ الآيَة : نَقول "وَلَقَد هَمَّت بِه" ونَقِفُ هُنا للبَيان فَنَقول أي امْرأة العَزيز واسْمُها زَلِيخَة أرادَت مِن يوسُف عَلَيْهِ السّلام أنْ يَقَعَ بِها هِيَ أرادَت مِنْهُ ذَلِك، ثُمَّ نَقول "وهَمَّ بِها لَوْلا أنْ رأى بَرْهانَ رَبِّه" مَعْناهُ اللهُ أراهُ البُرْهان فَلَم يَحْصُل مِنْهُ هَمٌّ بالـمَرَّة. وتَقْريبُ ذَلِك لَوْ أرادَ شّخْصٌ أنْ يَزورَ صاحبَه فأتى صاحِبُهُ إلَيْه فقالَ لَه "لَوْلا أنَّكَ أتَيْت كُنْتُ زُرْتُكَ أو ذَهَبْتُ إلَيْك" مَعْناهُ جِئْتَ فَلَم أذْهَب.
والتَّفْسير الآخَر لِهَذِهِ الآيَة هَوَ : "وهَمَّ بِها" أي هَمَّ بِدَفْعِها، "لَوْلا أنْ رأى بَرْهانَ رَبِّه" أي اللهُ تَعالى ألْهَمَهُ أنَّكَ إنْ دَفَعْتَها عَنْكَ تُتَّهَمُ في ذَلِكَ فَيَقولون التُّهَمَةُ عَلَيْكَ لأنَّكَ أنْتَ دَفَعْتَها. فَلِذَلِكَ سَيِّدُنا يوسُف عَلَيْهِ السَّلام انْصَرَفَ فَهِيَ قَدَّت قَميصَهُ مِن خَلْف فَكانَت الحُجَّةُ عَلَيْها، لأنَّهُم حينَ قالوا لِنَنْظُر في هذا الأمْر إنْ كانَ قَميصَهُ قَد قُدَّ أي شُقَّ مِن قُبُل أي مِنَ الأمام فَصَدَقَت لأنَّها هِيَ كانَت اتَّهَمَتْهُ بِذَلِك، وإنْ كانَ قَميصَهُ قَد قُدَّ مِن دُبُر أي مِنَ الخَلْف فَكَذَبَت وهِوَ مِنَ الصَّادِقين. فَلَمّا ظَهَرَ الدَّليل اعْتَرَفت وقالَت الآن ظَهَرَ الحَق أنا راوَدْتُّهُ عَن نَفْسِه، أي أنا أرَدْتُ مِنْهُ ذَلِك. الأنْبِياء لا يَخْتَلونَ بِنِساءٍ أجْنَبِيّات لَكِن هِيَ عَمِلَت حيلَة حَتّى صارَت مَعَهُ فَغَلَّقَت الأبْواب فَلَمّا رَفَضَ عَلَيْهِ السَّلام أنْ يَقَعَ فيما هِيَ أرادَت مِنْهُ انْصَرَفَ فَلَحْقَت بِهِ وشَقَّت قَميصَهُ مِن خَلْف. اللهُ تَعالى عَصَمَ يُوسُف وجَميع الأنْبِياء في أنْ يَقَعوا في مِثْلِ هذا الأمْر.
فائدة: العَزْم التَّصْميمُ على فِعْلِ فِعْلٍ. إذا صَمَّمَ الشَّخْص على فِعْلٍ يُقال عَنْهُ عَزْم. الهَمُّ هُوَ شَيْءٌ يَكونُ قَبْلَ العَزْم. الهَم أن يَكون مُتَرَدِّداً أفْعَلُ أو لا أفْعَل حتى لَو غَلَبَ جانِبُ أفْعَل. مَنْ عَزَمَ على الـمَعْصِيَةِ عَصى، وَمَن هَمَّ بِفِعْلِ الـمَعْصِيَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ مَعْصِيَة، هذا في غَيْرِ الأمور الّتي تُؤَدِّي إلى الكُفْرِ، أمّا إذا هَمَّ بِفِعْلِ الكُفْرِ أي تَردَّدَ فقال في نفسه أكُفْرُ أم لا ؟ يكون قد كَفَرَ فَوْراً. الرَّسول صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال "مَن هَمَّ بِمَعْصِيَةٍ فَلَم يَعْمَلْها كَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَة"، لأنَّهُ تَرَكَ الإمْتِثالَ لِهذا التَّرَدُّد الذي حَصَلَ في نَفْسِهِ للإقْدامِ على الـمَعْصِيَة. وقالَ رَسولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم "وَمَن هَمَّ بِفِعْلِ حَسَنَةٍ فَلَم يَفْعَلْها كُتِبَ لَهُ حَسَنَة ومَنْ هَمَّ بِفِعْلِ حَسَنَةٍ فَعَمِلَها كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنات" وهذا مِن فَضْلِ الله تَبارَكَ وتَعالى. وقال "وَمَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَها كُتِبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ واحِدَة". الحَسَنَة الواحِدَة تُكَفِّر عَشْرَ سَيِّئات على الأقَل.
كَذَلِكَ لَيْسَ صَحيحاً ما يَرْويهِ بَعْض الكَذَابين في بَعْضِ الكُتُب وجَرى على بَعْضِ الألْسُن حَيثُ يَقولون إنَّ نَبِيَّ الله داوود عَلَيْهِ السَّلام أعْجَبْتْهُ امْرأة قائِد الجَيْش لأنَّهُ كانَ يَنْظُرُ إلَيْها مِن شَقِّ الباب وهِيَ تَغْتَسِل والعِياذُ بالله مِن هَذا الافْتِراء، فأرْسَلَ زَوْجَها للحَرْب لِيَخْلُصَ مِنْهُ لِيأخُذَ هَذِهِ الـمَرْأة، فَهذا كَذِبٌ لا يَجوزُ على داوود ولا على غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياء.
وَلَيْسَ فِيهِم من يَسْرِقُ وَلَو حَبَّةَ عِنَب وَلَيْسَ فِي الأنْبِياءِ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَقولُ ألْفاظًا شَنِيعَة تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ الشَّخْص الذي يَقول الألْفاظَ البَذيئَة الشَّنيعَةَ التي تَستَقْبِحُها نُفوسُ يُقال عَنْهُ سَفيه، وهذا لا يَحْصل مِنَ الأنْبِياء. وَلَيْسَ في الأنْبِياءِ مَن هُوَ بَلِيدُ الذِّهْنِ عاجِزٌ عن إقامَةِ الحُجَّةِ على مَن يُعارِضُهُ بالبَيانِ وَلا ضَعِيفُ الفَهْمِ لا يَفْهَمُ الكلامَ مِنَ الـمَرَّةِ الأوْلَى إلّا بَعْدَ أن يُكرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّة مَراتٍ، إذا واحد يُلْقى عَليْهِ الكَلامُ الواضِح ولا يَفْهَم إلّا بَعْدَ أنْ يُكَرَّر عَلَيْهِ عِدَّة مَرَّات فَهذا يُقالُ عَنْهُ ضَعِيفُ الفَهْمِ، والأنْبِياء عَلَيْهِم الصَّلاة والسَّلام مَحْفوظونَ مِن هذا.
وَيَسْتَحيلُ عَلى الأنْبِياءِ سَبْقُ اللِّسانِ فِي الشَّرْعِيّاتِ وَالعَادِيّاتِ لأنَّهُ لَوْ جازَ عَلَيْهِم لارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ ما يَقولونَهُ وَلَقالَ قائِلٌ عِنْدَما يَبْلُغُهُ كلامٌ عَنِ النَّبِيِّ ما يُدْرِينا أنْ يَكونَ قَالَهُ عَلى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسانِ لِذَلِكَ لا يَصْدُرُ مِنْ نَبِيٍّ كلامٌ غَيْرُ الذي يُريدُ قَوْلَهُ وَلا يَصْدُرُ مِنْهُ كَلامٌ وَهُوَ لا يُرِيدُ الكَلامَ بالـمَرَّة كما يَحْصُلُ لِمَن يَتَكَلَّمُ وُهُو نائِمٌ. الشَّخْصُ أحْياناً يَجْري على لِسانِهِ كَلِمَة هُوَ لا يُريدُ قَوْلَها بالـمَرَّة فَهذا يُسَمّى سَبْقَ لِسان، مِثالُ ذَلِك شَخْصٌ جالِس لا يُريد أنْ يَقولَ شَيْء بالـمَرَّة فَجَرى على لِسانِهِ قَوْل "بسيطة" وهُوَ لا يُريد أن يَقولَها بالـمَرَّة وهذا اسمهُ سَبْقُ لِسان. وأحْياناً يَجْري على لِسانِهِ كَلِمَة يُريدُ غَيْرَها وهذا أيْضاً قَوْلَ يُسَمّى سَبْقَ لِسان. مِثالُ ذَلِكَ امْرأة عِنْدها أولاد اسمهم أحْمَد ومَحمود ومحمَّد تَريدُ أنْ تُنادي أحْمَد مَثَلاً فيَجْري على لِسانَها اسم مَحْمود أو محَمَّد إلى أنْ تَقول الإسم الصَّحيح فَهذا اسمُهُ سَبْقُ لِسان، أي سَبَقَ لِسانُها ما أرادَت أن تَقولَهُ. سَبْقُ اللِّسانِ مُسْتَحيلٌ على الأنْبِياء لا في الأمور التي تَتَعَلَّق بالشَّريعَة ولا في الأمور التي لا تَتَعَلَّق بأمْرٍ تَشْريعِيّ، الأنْبِياء إذا أرادوا قَوْ لاً قالوه وإذا لَم يُريدوا أنْ يَقولوا قَوْلاً لا يَجْري على لِسانِهِم بِدونِ إرادَتِهِم. حتّى الكَلام الذي يَجْري على لِسانِ النَّائِم لا يَجوزُ على الأنْبِياء أنْ يَحْصُل مِنْهُم لأنَّهُ كلامٌ يَجْري بِلا إرادَة فالأنْبِياء مَحفوظونَ ومَعْصومون مِن هذا.
وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِم الأمْراضُ الـمُنَفِّرَةُ كَخُروجِ الدُّودِ مِنَ الجِسْمِ لا يَحْصُل لِنَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ مَرَضٌ يَنْفِرُ مِنْهُ أصْحابُ الطِّباعُ السَّليمَة كالجُزام والبَرَص والطَّاعون وخُروجِ الدّودِ مِنَ الجِسْمِ.
قال رسول الله صلى الله عليهه وسلم : « مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إِلاَّ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَإِنَّ نَبِيَّكُم أَحسَنُهُمْ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا » رواه التِّرميذي، فالأنبياء ﻻ تصيبهم اﻷمراض المنفِّرَةُ كالبَرَصِ و خُروج الدُّودِ ، فغير صحيح أنّ سيِّدنا أيُّوب خرج منه الدُّود وغير صحيح أنّه كان يأخذ الدُّود ويقول كولي ممّا رزقك اللّه ، فمن قال ذلك فقد كذّب الدِّين.
كذلك كل الأنبياء يتكلمون بكلام مفهم حسن، فلا يجوز أن يعتقد أن سيدنا موسى كان كلامه غير مفهم ولا يطاوعه لسانه، ونسبة ذلك للأنبياء مخرج من الإسلام.
سَيِّدنا أيَّوب عَلَيْهِ السَّلام لم يخْرُجْ مِنْهُ الدُّود، بَعْضُ الجُهّال مِنَ العَوام يَقولون صارَت الدّودَة تَخْرُج مِنهُ فَتَقَع فَيُرْجِعُها فَيَقول لَها يا دودَة كُلي مِن رِزْقِ الله، فنَبِيّ الله أيَّوب لا يَفْعَلُ هذا. الذي وَرَدَ عَنْ رَسولِ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَم أنَّ سَيّدنا أيَّوب مَرِضَ ثَمانِيَة عَشَرَ عاماً، ولَم يُسَمّي الرَسول مَرَضَهُ فلا يَنْبَغي أنْ يَشْغُلَ الشَّخْصَ بالَهُ في مَعْرِفَة ذاكَ الـمَرَض. لَكِن نَجْزُم أنَّهُ لَيْسَ مَرَضاً مُنَفِّراً. بَعْضُ النّاسِ يَشغَلونَ بالَهُم لِمَعْرِفَة نَوْع الشَجَرَة التي أكَلَ مِنْها آدَم وحَوّاء، ويَسْتَرْسِلونَ فيَقولون تفّاح أو تين أو توت، فَلَم يَرِد نَص في القُرْءان ولا في الحَديث عَن تَسْمِيَة هَذِهِ الشَّجَرَة. قالَ بَعْضُ العُلَماء هِيَ الحِنْطَة، أي القَمْح، لَكَن هذا لَيْسَ شَيءً لَهُ ثُبوت وإِسْناد إلى الرَّسول صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم
الأنْبِياء كما قالَ الرَّسول صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم "أشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأنْبِياء ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَل"، يُبْتَلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دينِه كُلَّما كانَ في دينِهِ صُلْباً كُلّما كانَ بلاؤهُ أشَد، ولَيْسَ كما يَقول بَعْض النّاس أنَّ التَّقِيَّ لا يُبْتَلى بالـمَرَّة وإذا وَقَعَ على الشَّخْصِ بَلاء فَمَعْنى هذا أنَّهُ لَيْسَ تَقِي فَهذا غَيْرُ صَحيح. الجُزام هُوَ مَرَض تَتَناثَر مِنهُ الأطْراف، فَتَقَع أصابِع الشَّخْص أو أنْفُهُ وتَتَساقَط أطْرافُهُ حَتّى يَهْلك. أمّا البَرَص فهُوَ مَرَض يَبْيَضُّ مِنْهُ الجِلْد فَلا يَعود الجِلْد على طَبيعَتِهِ الـمَعْروفَة بَل يَتَخَلَّله بُقَع بَيْضاء يَنْفِرُ مِنْها النَّاس. أحْياناً يَكون الشَّخْصُ مِنَ الأوْلِياء ويَنْزِلُ عَلَيْهِ بلاءٌ كَثير وهَذِهِ هِيَ العادَة. قالَ العُلَماءُ هذا مِن أمورِ العَقيدَة التي هِيَ منَ الفُروع، أي مِن فُروعِ العَقيدَة، ولَيْسَت مِنَ الأصول "أنَّ الـمَرْءَ كُلَّما زادَ في التَّقْوى كُلَّما زادَ بلاؤُهُ". قالَ بَعْضُ الـمُحَقِّقينَ "وُرُودُ الفاقات أعْيادُ الـمُريدين" مَعْناهُ الـمُريدُ الصّادِقُ الذي يَسْلُكُ على يَدِ عالمٍ يُريدُ الوصولَ إلى الدرجات العليا هذا إذا نَزَلَ عَلَيْهِ البَلاء يَفْرَحُ كَفَرَحِ الإنْسانِ العادِيّ بالعيد لِعِلْمِهِ ولِثَقَتِهِ أنَّ هذا البَلاء إذا نَزَلَ على الـمُؤمِن فَصَبَرَ ولَم يَعْصِ رَبَّهُ بِسَبَبِهِ يَزْدادُ رِفْعَةً ودَرَجَةً عِنْدَ اللهِ تَعالى بِنُزولِ هذا البَلاء عَلَيْه. الرَّسولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كَانَ شَديدَ البَلاء وهَكَذا كُلُّ الأنْبِياء وهَكَذا أوْلِياء الله يَنْزِلُ عَلَيْهِم بلاءٌ كَثير فَيَصْبِرونَ فَتَرْتَفِعُ دَرَجاتُهُم. الأنْبِياء لَيْسوا هَيِّنينَ على الله بَل هُم كُرَماءُ على الله والأوْلِياء لَيْسوا هَيِّنينَ على الله بَل هُم كُرَماءُ على الله، الأنْبِياء والأوْلِياء اللهُ يُحِبُّهُم واللهُ يُكْرِمُهُم فَنُزول البَلاء لَيْسَ علامَة السُّخْط ولَيْسَ علامَة الغَضَب. بَعْضُ الجُهّال إذا نَزَلَ بلاءٌ على شَخْصٍ يَقولونَ "الله أعْلَم بِما عَمِلَ حتّى نَزَلَ عَلَيْهِ هذا البَلاء، اللهُ غاضِبٌ عَلَيْه"، إذا نزَلَ بَلاء على مُؤمِن لا يُقال لِمُجَرَّدِ هذا "اللهُ غاضِبٌ عَلَيه"، البَلاء الذي يَنْزِل عَلى الـمُؤْمِن إذا كانَ مِن أهْلِ الـمَعاصي فَلِتَكْفير الـمَعاصي وإذا كانَ مِنَ الأتْقِياء فَلِرَفْعِ الدَّرَجات.
الوَحْي في اللغَة العَرَبِيَّة يُسْتَعْمَل بِمَعْنى الوَحْيِ الـمَعْروف الذي يَنْزِل على الأنْبِياء، ويُسْتَعْمَل بِمَعْنى الإلْهام كما في الآيَة أي ألْهَمِنا أم مُوسى، كما يُسْتَعْمَل بِمَعْنى الإشارَة. إذا قيلَ أصْدِقاؤهُ يُوحونَ إلَيْهِ فَهذا لَيْسَ بِمَعْنى الوَحْيِ الذي يَنْزِل عَلى الأنْبِياء بَل مَعْناهُ يُشيرونَ إلَيْهِ. كَما أنَّ بَعْض النّاس يُشْغِلونَ بالَهُم لِمَعْرِفَة كَم حَمَلَت مَرْيَم بِعيسى، ويَبْدؤونَ بالسُّؤال عَن هذا الأمْر. لَم يَرِد لا في القُرْءان ولا في الحَديث، فلا يَتَكَلَّف الشَّخْص بالبَحْثِ عَن هذا. الذي وَرَدَ أنَّ الله خَلَقَهُ في جَوْفِها مَن غَيْرِ نُطْفَة امْرَأة ومَن غَيْر رَجُل بَل خَلَقَهُ اللهُ خَلْقاً كما خَلَقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلام، فَهَذِهِ مَعْلومات يُسْتَفاد مِنْها وَوَرَدت في القُرْءانِ الكَريم قالَ الله تَعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ 59﴾ [سورة آل عمران]
وَكَذَلِكَ يَسْتَحيلُ على الأنْبِياءِ الجُبْنُ أمّا الخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحيلُ عَلَيْهِم بَل الخَوْفُ الطَبِيعِيُّ مَوْجودٌ فِيهِم وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفورِ مِنَ الحَيَّةِ فإنَ طَبِيعَةَ الإنْسانِ تَقْتَضِي النُّفورَ مِنَ الحَيَّةِ وَمَا أشْبَهَ ذَلِك. الله سُبْحانَهُ وتَعالى جَبَلَ النَّاس أي جَعَلَ مِن طَبيعَة بني آدَم أنَّهُم يَخافونَ مِنَ الـمَوْت فَهُم يَخافونَ مِمّا يَعْرِفونَ أنَّهُ يُؤدّي بِهِم إلى الـمَوْت، الإنْسان يَنْفُر مِنَ الحَيَّة لأنَّهُ اسْتَقَرَّ في نَفْسِهِ أنَّ الحَيَّة فيها سُم وأنَّها تَقْتُلُ بِسُمِّها، وكَذَلِكَ يَنْفُر مِنَ العَقْرَب لأنَّهُ اسْتَقَرَّ في نُفوسِ النّاس أنَّ هذا العَقْرَب فيهِ سُم يُهْلِكُهُم عادَةً إذا أصابَهُم. فَهذا الخَوْف الطَّبيعي لا ضَرَرَ فيه أنْ يَكون مَوْجود في الأنْبِياء. قالَ اللهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ مُوسى {وأخافُ أن يَقْتُلُون} أي الخَوْف الطَّبيعي مِنَ الـمَوْت، ولَيْسَ خَوْف الجُبْن. وَلا يُقالُ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم هَرَبَ لأنَّ هَرَبَ يُشْعِرُ بالجُبْنِ أمّا فَرَّ مِنَ الأذَى مَثَلاً فَلا يُشْعِرُ بالجُبْنِ يُقال هاجَرَ فِراراً مِنَ الكُفّارِ أيْ مِنْ أذَى الكُفّارِ هَذا جائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَعَلى هَذا الـمَعْنَى قَوْلُ اللهِ تَعالى إخْباراً عَنْ مُوسَى أنَّه قال "فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّا خِفْتُكُم"، الجُبْنُ مُسْتِحيل عَلى الأنْبِياء، فالأنْبِياء عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلام ما فيهِم رَجُل جَبان. بَعْضُ النَاس يَقولون أنا لا أخاف الـمَوْت وهذا غَيْر صَحيح لأنَّ الناس مَجْبولون على الخَوْفِ مِنَ الـمَوت، أي مِن طَبيعَة الإنْسان أنَّهُ يَخافُ مِنَ الـمَوْت، وهذا لَيْسَ نُقْصان بَل هذا شَيْء طَبيعي. الرَّسول صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حينَ هاجَرَ، هاجَرَ بِوَحْيٍ مِنَ الله ولَيْسَ عَن جُبْن، وهذا كانَ فيهِ مَصْلَحَة للدّين قَوِيَ بِذَلِكَ أمْرُ الدّين ثُمَّ رَجَعَ الرَّسول مَعَ الصَّحابَة وفَتَحوا مَكَّة، فَهذا ما فيهِ نُقْصان ولَيْسَ فيهِ جُبْن. مرةً خَطيبٍ على الـمِنْبَر قال مُحَمَّد شُجاع أمّا مُوسى جَبان، فَقام شخص من المصلين وقال أعوذُ بالله هذا لا يَجوز الذي يَصِف موسى بالجُبْن كُفْرٌ، فلَم يَقُم أحَد مِنَ الـمُصَلّين بَل قالَ له أحَدُهُم اجْلِس عِنْدَما يَنْتَهي الخَطيب تَتَكَلَّم مَعَهُ، فانْظُروا إلى هذا الجَهْل، لَم يَقُم سِوى هذا الإنْسان الذي تعلم علم العَقيدَة والعلم عَن صِفات الأنْبِياء الواجِبَة وماذا يَسْتَحيل على الأنْبِياء. ذاكَ الخَطيب سَبَّ موسى لأنَّهُ نَعَتَهُ بالجُبْن ومَن سَبَّ نَبِيّاً كَفَر، ومَع ذَلِكَ لَم يَقُم إلّا هذا الإنْسان الـمُتَعَلِّم، وبَدَل أنْ يَنْصُرُهُ النّاس ويُؤيِّدوه يَطْلبونَ مِنهُ السُّكوت والجُلوس. وهَذِهِ القِصَّة مِنذُ أكثر من ثلاثين سَنَة حَصَلَت، فالجَهْل انْتَشَرَ مِن زَمانٍ طَويل.
وَتَجِبُ لَهُم العِصْمَةُ مِنَ الكُفْرِ وَالكَبائِرِ وَصَغائِرِ الخِسَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّة وبعدها. الشَّرْح: الأنْبِياء مَعْصومُونَ أيْ مَحْفُوظونَ مِنَ الكُفْرِ قَبْلَ أن يُوحَى إلَيْهَم بالنُّبُوَّةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ أيضًا العِصْمَة مَعْناها الحِفْظ. اللهُ حَفِظَ الأنْبِياء مِنَ الكُفْرِ قَبْلَ أنْ يوحَى إلَيْهِم وبَعْدَ أنْ يَنْزِل إلَيْهِم الوحي فلا يَحْصُل مِنْهُم كُفْرٌ الـمَرَّة. فإذا سألَكُم سائِل كَيْفَ يَعْرِفونَ الإيمانَ قَبْلَ نُزولِ الوَحْيِ، فَيُقال اللهُ يُلْهِمُهُم الإيمانَ في قُلوبِهِم إلْهاماً، أي يوقِعُ ذَلِكَ في قُلوبِهِم. الإلْهام مَعْناهُ إيقاعُ شَيْءٍ في القَلْبِ.
وأمّا قَولُ سَيِّدِنا إبْراهِيمَ عَنِ الكَوْكَبِ حِينَ رَءاهُ "هَذا رَبِّي" سورة الأنعام. فَهُوَ عَلى تَقْديرِ الاسْتِفْهَامِ الإنْكارِيّ فَكَأنَّهُ قال أهَذا رَبِي كَمَا تَزعُمُون؟ ثُمَّ لمّا غابَ قال "لا أُحِبُّ الآفِلِين" سورة الأنعام. أي لا أحب عبادة الآفلين أيْ لا يَصْلُحُ أن يَكونَ هَذا رَبّاً فَكَيْفَ تَعْتَقِدونَ ذَلِك. قَوْل سَيِّدنا إبْراهيم {هذا رَبِّي} هذا على تَقْديرِ الاسْتِفْهام، مِثالُ ذَلِك واحِد وَجَد كِتاب فأتى لِشّخْصٍ وقالَ لَهُ خُذ هذا كِتابك، وذلكَ يَعْلَم أنَّ الكِتاب لَيْسَ لَهُ فَيَقول "هذا كِتابي!" كأنَّهُ يَقول "أهذا كِتابي" أي أتّدَّعي أنَّ هذا كِتابي، أي هذا لَيْسَ كِتابي.
الكَوْكَب في اللغَة مَعْناهُ النَّجْم. لُغَةً لا يُقال كَوْكَب لا عَن الشَّمْس ولا عَن القَمَر ولا عَن الأرْض. بَعْضُ قَوْمِ إبْراهيم عَلَيْهِ السَّلام كانوا يَعْبدونَ كَوْكَبًا أي نَجْمَاً، فَلَمّا أرادَ إبْراهيم عَلَيْهِ السَّلام أن يُفَهِّمَهُم أنَّ هذا لا يَسْتَحِقُ الإلوهِيَّة اسْتَعْمَلَ مَعَهُم أسْلوباً سَهْلاً بَسيطاً، فَعِنْدَما ظَهَرَ النَّجْم قالَ {هَذا رَبِّي}؟ أي تَزْعُمون أنَ هذا رَبّي؟، أي هذا شَيْء كانَ مُخْتَفِياً والآنَ ظَهَرَ كَيْفَ يَكون إلهً؟، ثُمَّ انْتَظَرَ حَتّى أفِلَ أي غابَ أظْهَرَ لَهُم أنَّ هذا لا يَسْتَحِق أنْ يُعْبَد قالَ لَهُم {لا أحِبُّ الآفِلِين}، أي ما كانَ غائِباً ثُمَّ ظَهَرَ هَذِهِ علامَة التَّغَيُّر ثُمَّ بَعْدَ ظُهورِهِ غابَ وهَذِهِ علامَة التَّغَيُّر فلا يَصْلِح هذا أنْ يكونَ رَبّاً ولا يَسْتَحِقُّ العِبادَة، هذا جِرْمٌ حَجْمٌ يَتَغَيَّر مَن حالٍ إلى حال وحتى لَو كانَ مُضيءً، وأقْوى علامات الحُدوث التَّغَيُّر والحادِث لا يَكونُ إلهً. وَلَمّا لَمْ يَفْهَموا مَقْصودَهُ بَل بَقُوا عَلى مَا كانوا عَلَيْهِ قالَ حِينَما رَأى القَمَرَ مِثْلَ ذَلِك فَلَمّا لَمْ يَجِد مِنهُم بُغْيَتَهُ أظْهَرَ لَهُم أنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبادَتِهِ وَأنَّهُ لا يَصْلُحُ للرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ لَمّا لَمْ يَرَ مِنْهُم بُغْيَتَهُ قالَ حِينَما ظَهَرَتِ الشَّمْسُ "هَذا رَبّي هَذا أكْبَر" ؟ أيْ عَلَى زَعْمِكُم، فَلَم يَرَ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ أيْضًا فأَيِسَ مِنْهُم مِنْ عَدَمِ انْتِباهِهِم وَفَهْمِهِم لِلْمُرادِ أيْ أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ لا تَصْلُح لِلألُوهِيَّةِ فَتَبَرَّأ مِمّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ ثُمَّ لَمْ يَمْكُث فِيهِم بَلْ ذَهَبَ إلى فِلَسْطِين فأقامَ هُناك وَتُوُفِّيَ فِيها وَأمّا إبْراهِيمُ فِي حَدِّ ذاتِهِ فَكانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أنَّ الرُّبوبِيَّةَ لا تَكونُ إلا لله بِدليلِ قَوْلِهِ تعالى ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْل﴾ سَيّدنا إبْراهيم كانَ عَلى الإيمان قَبْلَ أنْ يَنْزِل عَلَيْهِ الوَحْي وثَبَتَ وبَقِيَ على الإيمان إلى أن ماتَ عَلَيْهِ السَّلام. شخصٌ ألَّفَ كِتاباً في التفسير قالَ فيه عَن إبْراهيم عَلَيْهِ السَّلام إنَّهُ كانَ يَمُرُّ في مَراحِل الشَّك فَلَمّا رأى الكَوْكَب قالَ "هذا رَبّي" ظَنَّ أنْ هذا الكَوْكَب هُوَ الإله، والعِياذُ بالله. وقال عَن إبْراهيم عَلَيْهِ السَّلام فَلّما أفَلَ خَيَّبَ ظَنَّهُ، والعِياذُ بالله، وقال ثُمَ عادَ واعْتَقَد أنَّ القَمَر هُوَ الإله فَلَمّاَ أفَلَ خَيَّبَ ظَنَّهُ هُوَ الآخَر، وقال لَمّا رأى الشَّمْس ظَنَّ هِيَ الإله لأنَّها أكْبَر والعِياذُ بالله، قالَ ثُمَّ خَيَّبَت ظَنَّهُ هِيَ الأخْرى. هذا المؤلف الكافِر جَعَلَ إبْراهيم كَواحِد مِن أهْلِ الضَّلال يَنْتَقِل مِن عِبادَةِ شَيْءٍ إلى عِبادَةْ شَيْءٍ آخَر لا يَسْتِحِق الألوهِيَّة والعِياذُ بالله، أي زَعَمَ أنَّ إبْراهِيم انْتَقَلَ مِن عِبادَة الكَوكَب إلى عِبادَة القَمَر ثُمَّ الشَّمْس ثَمَّ تَوَصَّلَ إلى الحَقيقَة. وفي ذات الكِتاب قالَ هذا المؤلف عَنْ سَيّدنا موسى "إنَّهُ فَتى مُنْدَفَع عَصَبِيُّ الـمِزاج" والعِياذُ بالله. ويَقول عَنْهُ أيْضاً "ولْنَعُد إلَيْهِ مَرَّة أخْرى لَعَلَّهُ قَد هَدأ، لا إنَّهُ ذاكَ الفَتى العَصَبِيّ الـمُنْدَفَع" والعِياذُ بالله. وفي مَوْضِعِ آخَر يَقول عَن يوسف عَلَيْهِ السَّلام لَما حَصَلَت تِلْكَ القِصَّة بَيْنَهُ وبَيْنَ زَليخَة، إنَّهُ ظَهَرَ لَهُ يَعْقوب لأنَّهُ كانَت قَد حَلَّ تِكَّة السِّرْوال أي أرادَ أنْ يَقَعَ بالزِّنى على زَعْمِهِ، فَضَرَبَهُ في صَدْرِهِ حَتّى خَرَجَت شَهْوتهُ مِن أنامِلِهِ، والعِياذُ بالله مِن هذا الكَلام. فَسَبَّ إبْراهِيم وسَبَّ موسى وسَبَّ يوسفَ، وللأسف يَعْتَبِرهُ بعض الناس أنه كان يُعَلَّم النّاس الدّين.
فائِدَة: المؤمن من شأنه أنه يُحَذِّر النّاس مِنَ الضَّلال وهذا ما يَجْب عَلَيْنا فِعْلُهُ أي التَّحْذير مِن أهْلِ الضّلال، والعِبْرَة مِنَ التَّحْذيرِ مِنْهُم أنَّهُ لَو كانَ ذاكَ الضّال حَيّاً لَعَلَّهُ يَرْجِع عَن ضَلالِهِ، وإنْ كانَ مَيِّتاً حَتى يَحْذَرَ النّاس مِن ضَلالِهِ، وإنْ كانَ حَيَاً ولا يَرْجِع عَن ضَلالِهِ حَتّى يَعْرِف النّاس أنَّهُ على ضَلال ويَخِفُّ اعْتِقاد النّاس وإقْبالُهُم عَليْه. قالَ رَسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وسَلّم "حَتَّى مَتَى تَرِعُونَ عَن ذِكْرِ الفاجِرِ، اذْكُروهُ بِما فيهِ حَتّى يَحْذَرَهُ النّاس" فالحِكْمَة والعِبْرَة والفائِدَة العَظيمَة مِنَ التَّحْذير مِن أهْلِ الضَّلال حَتى يَحْذَرَهُم النّاس ولا تَقَع فيهِ. أمّا إذا تُرِكَ الأمْرُ هَكذا فالنَاس تَعْتَقِد ما يَقولُهُ هذا الإنْسان. كَثيرٌ مِنَ النّاس يُطالِعون في الكُتُب من غير تعلم عند عالم ثقة فيعتقدون ما يخالف الشرع مما يجدوه في الكتب، يوجد كتاب تفسير مشهور بين الناس يكاد لا يخلو من البيوت فيهِ الكَثير مِنَ الضَّلال، ففي تَفْسير سورَة الحَديد فَسَّرَ المؤلف قَوْل الله {وهُوَ مَعَكُم أيْنَمَا كُنْتُم} بِقَوْلِهِ هَذِهِ الكَلِمَة لَيْسَت على الكِنايَة والـمَجاز بَل هِيَ عَلى الحَقيقَة، ويَقول فالله مَع كُلِّ أحَد في كُلِّ مَكان، وهذا خِلاف قَوْل كُلِّ الـمُسْلِمين، المسلمون يعتقدون أن الله تعالى لا يحتاج إلى مكان وليس متحيزاً بجهة. كُل الـمُفَسِّرين قالوا في قَوْلِهِ تَعالى {وهُوَ مَعَكُم أيْنَمَا كُنْتُم} مَجازٌ عَن إحاطَةِ عِلْمِ اللهِ بِكُلِّ شَيْء، أي مَعْناها أنَّ اللهَ عالِمٌ بِكُم أيْنِما كُنْتُم.
وَالأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلام مَعْصومُونَ مِنَ الوُقوعِ فِي الـمَعاصِي الكَبِيرَة وَكَذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنَ التَلَبُّسِ بالذِّنوبِ الصَّغِيرَةِ الّتِي فِيها خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ فإنَّ هَذِهِ صَغِيرَةٌ لَكِنَّها تَدُلُّ عَلَى دَناءَةِ نَفْسٍ.
الأنْبِياء مَعْصومون مِنَ الـمَعاصي الكَبيرَة كالزِّنى وشُرْبِ الخَمْرِ واللِّواطِ والسَّرِقَةِ. الصَّغائِر التي تَدُل على خِسَّة النَّفْسِ ودَناءَة النَّفْس هَذِهِ مُسْتَحيلَة على الأنْبِياء، وقَد يَحْصُل مِنَ الأنْبِياء مَعْصِيَة صَغيرَة لَيْسَ فيها خِسَّة ولا دَناءَة ويَتوبونَ مِنْها فَوْراً قَبْلَ أنْ يَتَّبِعَهُم غَيْرُهُم فلا يَحْصُل أنْ يُتَّبَعوا في ذَلِك. مِثالُ ذَلِكَ ما حَصَل من آدَم عَلَيْهِ السَّلام حينَ أكَلَ مِنَ الشَّجَرَة التي في الجَنَّة حَيْثُ جاءَهُ الـمَلَك وقالَ لَهُ ولِحَوّاء "إنَّ اللهَ يَنْهاكُما عَن أن تأكُلا مِن هَذِهِ الشَّجَرَة" فَحَصَلَ أن أكَلَ آدَم وحَوّاء مِن هَذِهِ الشَّجَرَة وأهْبِطا إلى الأرْض، لا نَقول طُرِدا مِنَ الجَنَّة لأنَّ فيه سوء أدَب مَع النَّبِيَ بَل نَقول أهْبِطا أو أخْرِجا مِنَ الجَنَّة، الذي طُرِد منَ الجَنَّة هُوَ إبْليس الذي كفَرَ بالله باعْتِراضِهِ على الله.
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾. وقال رسول الله: « طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ ».
والحمد لله رب العالمين.
https://www.islam.ms/ar/?p=83