لا يجوز شرعا إغلاق المساجدِ ومنعِ الجماعة والجمعة بسببِ مرضِ الكُورونا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذِى أمرَ عبادَهُ بالتوكُّلِ عليه والتسليمِ له القائلِ فِى سورة التوبة ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ والرادِّ سبحانه على مَن خوَّفَ المؤمنينَ بالموتِ ليتركوا ما أوجبَ عليهم فقالَ فِى سُورةِ النساءِ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِى بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ وقال فِى سورة الأحزابِ: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، وصلى اللهُ وسلَّمَ على النَّبِىِّ المتوكِّـلِ على خالقِهِ الداعِى بالهلاكِ على مَن منعَ منَ الصلاةِ القائل حينَ منعَهُ المشركونَ ومنعوا أصحابَهُ يومَ الخندقِ منها قبل نزولِ صلاةِ الخوفِ (مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا) اهـ رواه البخارىُّ ومسلمٌ وغيرُهُما.
أما بعدُ فإنَّ الصلاةَ شعيرةٌ عظيمةٌ مِن شعائرِ الدينِ وركيزةٌ مِن ركائزِهِ فقد قال صلى اللهُ عليه وسلم (بُنِىَ الإسلامُ على خمسٍ) وعدَّ منها إقامةَ الصلاة اهـ وأمرَ الشَّرعُ الكريمُ بإقامتِها وشدَّدَ فِى ذلك حتَّى قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ (العهدُ الذِى بيننا وبينهمُ الصلاةُ فمن تركها فقد كفرَ) وفسَّرَهُ جمهورُ الأئمةِ وغالبُ العلماءِ بأنَّ معناهُ مَن تركها عامدًا فقد صار قريبًا منَ الكفرِ لا أنه خرجَ حقيقةً منَ الإسلامِ واعتمدُوا فِى ذلك على أحاديثَ أُخَرَ، وتشدَّدَ بعضُ الصحابةِ والأئمةِ فقالُوا مَن ترك الصلاةَ عامدًا فقد خرجَ منَ الإسلامِ اهـ
وبلغَ تشديدُ الدينِ فِى إقامةِ الصلاةِ أنَّ اللهَ تعالى لم يجعلْ خوفَ الموتِ والقتلِ عُذرًا لتركِها فشرَعَ صلاةَ الخوفِ ولم يُسقِطها حتَّى فِى حالِ احتدامِ القتالِ والتحامِ الحربِ، بل شرعَ الجماعةَ فِى تلكَ الحالِ كما شرعَها فِى غيرِها وشدَّدَ فِى إقامتها وطلبِها حتَّى فِى حالِ الأعمَى كما فِى الصحيحِ وكما رَوَى عبدُ الرزاقِ وابنُ أبِى شيبة والحاكمُ وغيرُهُم عن علىٍّ وأبِى هريرةَ، بل ورُوِىَ مرفوعًا (لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا فِى المسجدِ) أىْ فإنْ لم يُصَلِّ فيه بلا عُذرٍ كانتْ صلاتُهُ بلا ثوابٍ منَ اللهِ تعالى قِيلَ لِعَلِىٍّ ومَن جارُ المسجدِ قالَ مَن سَمِعَ النِّداءَ اهـ بل قال الإمامُ أحمدُ إنَّ إقامةَ الجماعةِ فِى الصلواتِ المفروضةِ فرضُ عينٍ لا فرضٌ على الكفايةِ اهـ
وهذا التشديدُ كلُّهُ فِى الجماعةِ متعلِّقٌ بالصلوات الخمسِ فكيفَ يكونُ الأمرُ إذًا فِى صلاةِ الجمعةِ المبنِىِّ فعلُها وإقامتُها على الجماعةِ والتِى اهتمَّ بها الشارعُ اهتمامًا عظيمًا حتَّى قال فيما رواهُ أبو داودَ والترمذىُّ (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ) اهـ أى صار قلبه بمنزلة المختومِ عليهِ فلا تصلُ إليهِ ألطاف الله تعالى. وروى ابن عبد البر وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال من ترك ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره اهـ أى صار شبيهًا بمن ردّ الإسلام وأعرض عنه. قال الحافظ العراقىّ وله حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبَل الرأى.
وأنكرَ الشَّرعُ كذلك إنكارًا غليظًا على مَن منعَ إقامةَ الصلواتِ وبيَّنَ أنَّ هذا مِن صفاتِ المشركينَ فقال تعالى فِى سُورةِ العلقِ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ فكلُّ مَنْ منعَ المؤمنينَ منَ الصلاةِ فقد تشَبَّهَ بهم، وكذلك بيَّنَ عزَّ وجلَّ أنَّ إغلاقَ المساجدِ وتخريبَها بمنعِ ذِكرِ اللهِ فيها شعارُ الكافرينَ كما قال تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا أُولٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فعابَ اللهُ عليهم ذلك ولحقَ العيبُ أيضًا كلَّ مَن قلَّدَهم فِيه.
ومرَّ قبلَ وقتِنا هذا على المسلمينَ حروبٌ وملاحمُ هلكَ فيها ألوفُ الألوفِ وظهرتْ بينهم أمراضٌ مِن أوبئةٍ وغيرِها انتشرَتْ وشاعَتْ من أيامِ رسولِ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ ثم خلافةِ عمرَ رضِىَ اللهُ عنه إلى أيامنا هذه منها الحُمَّى والطاعونُ والمالاريا والجُدَرِىُّ والحُصبةُ والكُوليرا وغيرُ ذلك فلم يَدْعُ عالِمٌ منهم إلى إغلاقِ مسجدٍ مِن مساجدهم ولا دعَا حاكمٌ مهما اشتدَّ ظُلمُهُ إلى منعِ صلواتِ الجمعِ والجماعاتِ فِى بلادهم ولا تجنَّبُوا إقامةَ صلواتِ الجنازةِ جماعةً على مَن ماتَ منهم بالأمراضِ كما روَى ابنُ أبِى شَيبةَ وابنُ المنذر فِى الأوسطِ عن عَمْرِو بنِ مهاجِرٍ قال صلَّيْتُ مع واثلةَ رضِىَ اللهُ عنه على ستِّينَ جنازةً منَ الطاعونِ رجالٍ ونساءٍ فكبَّرَ أربعَ تكبيراتٍ وسلَّمَ تسليمةً اهـ فلم يقُلْ هذا الصحابِىُّ الكريمُ يا ناسُ لا تجتمعُوا للصلاةِ عليهم ولا تَقْرَبُوهُم لغسلٍ وتكفينٍ ودفنٍ، هذا وصلاةُ الجنازةِ فرضٌ على الكفايةِ لا فرضُ عينٍ كالجمعة مثلًا.
ومِمَّا ذكره قاضِى مدينةِ صفد محمدُ بن عبد الرحمن القرشِىُّ فِى كتابِهِ شفاء القلبِ المحزونِ فِى بيان ما يتعلقُ بالطاعونِ أنَّ الطاعونَ عندما انتشرَ فِى أواخر القرنِ السابعِ كان الناسُ به على خيرٍ عظيمٍ مِن إحياء الليلِ وصومِ النهار والصدقة والتوبة فهجروا البيوتَ ولزِمُوا المساجدَ رجالًا ونساءً وأطفالًا فكانَ الناسُ بذلك على خيرٍ اهـ وهُم إنما فعلُوا ذلك اقتداءً برسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ فقد كانَ إذا حَزَبَهُ أمرٌ - أى نزل وألمّ به أمرٌ شديدٌ - لجأَ إلى الصلاةِ لا إلى الابتعادِ عنها ولا إلى تعطيلِها ومنع الناس منها، وكذلك الصحابةُ والتابعونَ وأتباعُهُم وهلُمَّ جرًّا فِى أيامِ عمرَ ومن بعده كانوا يلجأُونَ إلى اللهِ تعالى عند نزولِ الأوبئةِ لا إلى إقفالِ أبوابِ العباداتِ وتضييقِها، فاقتدَى هؤلاءِ المسلمونَ عندما حزبَهُم أمرُ الطاعونِ بنبيِّهِم عليه السلامُ وبأصحابِهِ وبأهلِ الخيرِ لا بمَنْ يَذهَبُ وَعْيُهُ وعقلُهُ بأدنَى خوفٍ على صحَّتِهِ أو حياتِهِ ففعلُوا كما فعلَ السلفُ الصالحُ وسلكوا منهجَهم فانتفعوا بالاقتداءِ بهم انتفاعًا عظيمًا يعرفُهُ ويفهَمُهُ مَن يُدرِكُ على التمامِ معانِىَ المنافعِ الأُخرويةِ منَ الثوابِ والتسليمِ للربِّ والتوكُّلِ عليه ومعانِىَ المنافعِ الدنيويةِ منَ التعاونِ والتكافلِ والتضامنِ وإعانةِ المريضِ ومساعدةِ المصابِ ويجهلُها مَن لا يرَى نُصْبَ عينيهِ إلا أوهامَ الخوفِ وأنانيةِ طلبِ السلامةِ ولا يلتفتُ إلا إلى الأسبابِ دونَ اللجوءِ إلى خالِقِها.
وعلى الرّغم مِن وضوحِ وظهورِ ما تقدَّمَ كلِّهِ فإنه عندما وقعَ مرضُ الكُورونا فِى بلادِنا تجرَّأَ بعضُ الناسِ لأسبابٍ لا نريدُ الخوضَ فيها يعرفُها كلُّ عاقلٍ مُلِمٍّ بما يَجْرِى حولَهُ نقولُ تجرَّأَ هؤلاءِ على إقفالِ المساجدِ ومنعِ شهودِ صلاةِ الجماعةِ وصلاةِ الجمعةِ فيها والأخطرُ أنَّ البعضَ أفتَى بسقوطِهِما فِى الناحيةِ التِى تشهدُ انتشارًا واسعًا أو ضيِّقًا لهذا المرضِ مِن غيرِ أن يكونَ عند هؤلاءِ المفتِينَ عِلمُ المجتهدينَ ولا فَهمُهم ولا أدواتُهم ولا ورعُهُم ومن غيرِ رجوعٍ إلى فتاويهم فأفتَوْا مِن غيرِ أهليةٍ للفتوَى واجتهدوا مِن غيرِ أهليةٍ للاجتهادِ فهلكوا وأهلكوا.
وكانَ مدارُ احتجاجهم على أمورٍ ثلاثةٍ
- الأمرُ الأولُ قولُهُم إنَّ حدوثَ الضَّرَرِ صارَ مُتَيَقَّنًا أو غالبًا على الظنِّ اهـ قُلنا لسنا ندرِى عن أىِّ يقينٍ أو غلبةٍ يتحدَّثُونَ والمرضُ لا يُصيبُ إلا نسبةً قليلةً منَ السُّكَّانِ يُشفَى أغلبُهم منه إلا النادرَ النادرَ وقد وزَّعَتْ وزارةُ الصحة منشورًا أصدرته بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية مذكورٌ فيه بصراحة ووضوحٍ أنَّ معظم حالات الإصابة بهذا المرضِ بسيطةٌ يُشفَى منها المريضُ بشكلٍ تلقائىٍّ اهـ أىْ حتَّى من غير علاجٍ اهـ فأينَ اليقينُ أو غلبةُ الظنِّ التِى يدَّعِى هؤلاءِ أنَّ أهلَ الخُبرةِ أثبتوها، بل إنَّ أهلَ الخُبرةِ هؤلاءِ همُ الذينَ يقولونَ إنَّ أكثرَ مِن تسعةِ أعشارِ مَن تأكَّدَ لهم إصابتُهم بالمرضِ يُشفَوْنَ منه فأينَ تحكيمُهُمُ المزعومُ لأهلِ الخبرة، بل لم يمُتْ من هذا المرضِ إلى الآنَ إلا أربعةٌ مِن أصلِ سُكانِ دولةِ لبنانَ البالغينَ نحوَ ستةِ ملايينَ فلو مشَيْنَا على هذه القاعدةِ المستحدَثةِ لامتنعَ ركوبُ السياراتِ والحافلاتِ لشدةِ الخطرِ فِى ذلك إذْ عددُ الموْتَى والمصابينَ بسببِ الاصطداماتِ بينها أعلى بكثيرٍ منَ الموتَى بسببِ الكُورونا فهلْ يقولونَ بذلك، ولو أخذْنا بطريقتِهم لأغلقْنا المساجدَ كلَّ شتاءٍ لأنَّه يُصابُ ويموتُ بسببِ الأنفلوَنْزا كلَّ سنةٍ أضعافُ أضعافِ مَن يُصابُ بالكُورونا.
- والأمرُ الثانِى ادِّعاؤُهُمُ الأخْذَ بقاعدةِ كونِ حفظِ النفسِ مِن كُلِّياتِ الشريعةِ اهـ قلنا معنَى هذه القاعدةِ أنْ لا يفعَلَ الإنسانُ فعلًا يُهلِكُ به نفسَهُ وأينَ هذا مِمَّا ادَّعَوهُ، وأىُّ إلقاءٍ للنفسِ فِى التهلكةِ بأداءِ صلاةِ الجماعةِ مع مجرَّدِ توهُّمِ أن يكونَ بينَ المصَلِّينَ مصابٌ بالكُورونا بل لو مشينا على هذه الطريقةِ لأُقفِلَتِ المساجدُ أيضًا لتوهُّمِ وجودِ إنسانٍ يريدُ أن يُطلِقَ الرَّصاصَ على المصَلِّينَ أو يريدُ أنْ يضعَ متفجِّرةً بينهم كما حدثَ مثلُ هذينِ الأمرينِ تكرارًا.
وكيفَ يجرُؤُ هؤلاءِ على التذرُّعِ بقاعدةِ حفظِ النفسِ وقد أمرَ الشرعُ بأداءِ صلاةِ الجماعةِ فِى أثناءِ احتدامِ القتالِ والتحامِ الحربِ.
كيفَ وقدِ انتشَرَ فِى الماضِى الطاعونُ بعد الطاعونِ فِى أيامِ الصحابةِ فمَن بعدهم حتى خلَتْ بعضُ البلدات والنواحى من كثرة الموت ممن يقيم بها الجمعة أو يصلى الجماعة ومع ذلك لم يأمروا بإغلاقِ المساجدِ بل ولا خطر لهم ذلك، بل إذا نزلَ البلاءُ العامُّ رَجَوُا ارتفاعَهُ بالطاعةِ لا بالتباعدِ عنها.
بل لو خالطَ الشخصُ عمدًا المصابَ بالمرضِ لَمَا كان مُلقِيًا بالنفسِ إلى التهلكةِ فقد روَى الترمذىُّ وغيرُهُ عنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ أخذَ بيدِ مجذومٍ فأدخلَهُ معه فِى القَصْعَةِ ثم قالَ كُلْ بِسْمِ اللهِ ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ اهـ وروَوْا أيضًا عن جابرٍ أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيدِ مجذومٍ إلخ اهـ فهذا عن عمرَ رضِىَ اللهُ عنه وحدَهُ يؤكِّدُ ما ذكرناهُ ويُبطِلُ إدخالَهُم مخالطةَ المريضِ تحتَ قاعدةِ إهلاكِ النفسِ فكيفَ إذا انضمَّ إليه المرفوعُ حتَّى مع تقديرِ ضعفِهِ اهـ
كيفَ وقد روَى الطبرىُّ أنَّ السيدةَ عائشةَ رضِىَ اللهُ عنها قالتْ كان مَوْلًى لِى أصابه الجُذامُ فكان يأكلُ فِى صِحافِى ويشربُ فِى أقداحِى إلخ اهـ فهل يرَونَ أنَّ عائشةَ عليها السلامُ كانتْ جاهلةً بالقاعدةِ التِى ادَّعَوْها.
وروَى الطبرىُّ بسنده أيضًا أنَّ وفدَ ثَقِيفٍ أتَوْا أبا بكر الصديق فأُتِىَ بطعامٍ فدعاهم فتنحَّى رجلٌ فقال مَا لَكَ قال مجذومٌ فدعاه وأكل معه اهـ وروَى عن سلمانَ وابنِ عمر أنهما كانا يصنعان الطعامَ للمجذومين ويأكلان معهم اهـ وروَى ابنُ عبدِ البرِّ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كان يجالس مُعَيقيبًا الدَّوسِىَّ وكانَ على بيتِ مالِهِ وكان مجذومًا وكانَ يُؤَاكِلُهُ ورُبَّمَا وضعَ فَمَهُ مِنَ الإنَاءِ على مَا يَضَعُ عَلَيْهِ مُعَيْقِيبٌ فَمَهُ اهـ فهل يظنونَ أنَّ كلَّ هؤلاءِ الصحابةِ الأجلاءِ جَهِلُوا قاعدةَ حفظِ النفسِ بينما هم عرفوها.
وقد روَى أحمدُ وابنُ أبِى شَيبةَ وغيرُهُما من طرقٍ أنَّ الطاعونَ وقع بالشامِ فقام مُعاذُ بنُ جبلٍ بحمصَ فخطبهم فقال إنَّ هذا الطاعونَ رحمةُ ربِّكم ودعوةُ نبيِّكُم صلَّى اللهُ عليه وسلم وموتُ الصالحينَ قبلكم اللّٰهُمَّ اقسِمْ لآلِ مُعاذٍ نصيبَهمُ الأوفَى منه الحديثَ اهـ وروَى أحمدُ وغيرُهُ عن شُرَحبيلَ بنِ حسنةَ نحوَهُ اهـ فانظُرْ كيفَ يَعُدُّ هذانِ الصحابِيَّانِ الطاعونَ رحمةً وكيفَ يدعُو معاذُ بنُ جبلٍ ربَّهُ لنفسِهِ ولأهلِهِ أن يُصابُوا به وهؤلاءِ المتعالِمُونَ يعتبرونَ تَوَهُّمَ التعرُّضِ لمرضٍ أخفَّ منه بمراحلَ كثيرةٍ جدًّا إتلافًا للنفسِ فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ.
- والأمرُ الثالثُ ممَّا ادَّعَوْهُ أنهم فعلُوا ما فعلُوا أخْذًا بقاعدةِ لا ضرَرَ ولا ضِرارَ وهذا مِن أعجبِ ما قالوا فإنَّ معنَى الحديثِ لا تفعلْ ما يَضُرُّ غيرَكَ ولا يفعَلْ غيرُكَ ما يضُرُّكَ فما علاقةُ هذا بمنعِ حضورِ جماعةٍ لا أنتَ تضُرُّ غيرَك فيها ولا غيرُكَ يضُرُّكَ وكيفَ يُغلَقُ المسجِدُ بهذِهِ الدَّعوَى.
فقد ظهرَ أنَّ ما احتجُّوا به أوهَى مِن بيتِ العنكبوتِ.
زِدْ على ما تقدَّمَ أنَّ أحكامَ الشرعِ لا تثبُتُ بالآراءِ بل بحُكمِ اللهِ تعالى كما قال سبحانه فِى سُورةِ الأنعامِ ﴿أَلَا لَهُ الحُكْمُ﴾ وقال فِى السورةِ نفسِها ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّٰهِ﴾ وزادَ الأمرَ وُضوحًا سيدُنا علىٌّ رضِىَ اللهُ عنه بقولِهِ (لو كانَ الدينُ بالرأىِ لكانَ مسحُ الخُفِّ مِن أسفلَ لكنِّى رأيتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يمسَحُ أعلاهُ) اهـ وقد أمرَ اللهُ بإقامةِ صلاةِ الجمعةِ نصًّا فِى القرءَانِ فقال تعالى فِى سُورةِ الجمعةِ ﴿يٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فلما ثبتَ الحكمُ يقينًا لم يجُزْ تركُ العملِ به فِى حالٍ منَ الأحوالِ إلا بدليلٍ يدُلُّ على ذلك لا بأمرٍ موهومٍ كتوهُّمِ الإصابةِ بهذا المرضِ، ومثالُ ذلك ما ذكروه من أنَّ فحل الغنمِ إذا وقع فِى الماء القليلِ لا يُنجِّسُهُ ولا يُنظَرُ إلى احتمالِ اشتمالِ بعضِ صُوفِهِ على البولِ لأنَّ هذا أمرٌ موهومٌ لا يزولُ به حكمُ الطهارةِ الثابتُ بيقينٍ اهـ فإذا عُلِمَ هذا قلنا أينَ جاءَ فِى القرءَانِ أوِ السُّنَّةِ ارتفاعُ وجوبِ فرضِ الجمعةِ بشيوعِ مرضٍ أوِ انتشارِ وباءٍ ؟!!!
وقد سُئِلَ كبارُ علماءِ مصرَ سنةَ ستة عشر وثلاثمائة بعد الألف (1316 هـ) عن حُكمِ منعِ الحجِّ مِن مصرَ لوجودِ وباءٍ فِى الحجازِ وحصلَ ذلك عندما كان العلماءُ فيها حقَّ العلماءِ فأفتَوْا بالإجماع بعدمِ جواز المنع مِن فريضة الحجِّ كما جاء فِى العدد الثلاثين مِنَ المجلد الثانى فِى مجلة المنار ما يلِى (اجتمع مجلسُ النُّظار - وهو كمجلس الوزراء فِى أيامِنا - اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة فِى أمر منعِ الحجِّ الذِى يراه مجلسُ الصحة البحرية ضروريًّا لمنعِ انتقالِ الوباءِ مِن بلاد الحجاز إلى مصرَ ولَمَّا كان المنعُ مِنَ الحجِّ منعًا مِن ركنٍ دينِىٍّ أساسٍ لم يكن للنُّظار أن يُبرموا فيه أمرًا إلا بعد الاستفتاءِ مِنَ العلماءِ ... ولهذا طلب رئيسُ مجلسِ النُّظار لحضورِ الاجتماعِ صاحبَ السماحةِ قاضىَ مصرَ وأصحابَ الفضيلةِ شيخَ الأزهرِ ومفتىَ الديارِ المصريةِ والشيخَ عبدَ الرحمن النواوىَّ مفتِىَ الحقانية والشيخَ عبدَ القادر الرافعىَّ رئيس المجلس العلمىِّ سابقًا فحضرُوا وتذاكرُوا مع النُّظار وبعد أنِ انفضُّوا مِنَ المجلسِ اجتمعُوا وأجمعُوا على كتابةِ هذه الفتوى وإرسالِهَا إلى مجلس النُّظار وهِىَ بحروفها بعد الافتتاحِ [لم يذكرْ أحدٌ منَ الأئمة مِن شرائطِ وجوبِ أداء الحجِّ عدمَ وجودِ المرض العام فِى البلاد الحجازية فوجود شىْءٍ منه فيها لا يمنعُ وجوبَ أدائه على المستطيع وعلى ذلك لا يجوزُ المنعُ لِمَنْ أراد الخروج للحجِّ مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعًا. وأما النَّهْىُ عنِ الإقدامِ على الأرض المَوْبُوءةِ الواردُ فِى الحديث فمحمولٌ على ما إذا لم يعارضه أقوَى كأداءِ الفريضة كما يُستفاد ذلك مِن كلام علمائنا. وأيضًا فإنَّ النَّهْىَ عن الدخول والخروج تابعٌ لاعتقادِ الشخصِ الذِى يريدُ الدخولَ أوِ الخروجَ كما يُفيدُهُ ما فِى تنوير الأبصار متنِ الدُّرِّ المختار حيث قال وإذا خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباءُ العامُّ فإن عَلِمَ - أىْ اعتقدَ بثباتٍ وقوةِ يقينٍ - أنَّ كلَّ شىْءٍ بقدرِ الله تعالى فلا بأسَ بأن يخرج ويدخل وإنْ كان عنده أنه لو خرجَ نجا ولو دخلَ ابتُلىَ به كُرِهَ له ذلك فلا يدخلُ ولا يخرجُ. وأيَّدَهُ شارحُهُ السِّندىُّ والله أعلم. فِى 2 ذى القعدة سنة 1316). انتهى ما ذكرَهُ هؤلاءِ العلماءِ المشاهيرُ والفقهاءُ المعروفينَ. قلنا ما قاله صاحب التنوير أخذَهُ مِن روايةِ البخارىِّ وغيره التى فيها تقييدُ النَّهْىِ الواردِ فيها بقوله صلى الله عليه وسلم (فِرارًا منه) فما لم يكن ذلك فرارًا مِنَ الطاعونِ فلم يُنه عنه كما ذكره ابنُ بطال وغيره مِن شُرَّاح البخارىِّ اهـ
فهذا كلامُ أهلِ الفهمِ والغَيرة على الدِّينِ.
وكذلك تكلم فقهاءُ المذاهبِ الأربعةِ فِى حضورِ المجذومِ للجمعةِ والجماعاتِ والذِى يتلخصُ من كلامهم أنهم لا يُمنعون مِن حضور الجمعة والجماعة إذا لم يفحُشْ ما بهم مِنَ المرض وكذا إذا فحشَ فصدرتْ منه رائحةٌ كريهةٌ طالما يمكن منعُ اختلاطِهِ بالناس بحيث لا يُؤذيهم بذلك كأن يقفَ خلفهم ونحوِ ذلك ولهذا قال الحافظُ ابنُ حجر فِى الفتحِ إنَّ المجذومَ لا يُمنع مِن شُهود الجمعة بالإجماعِ اهـ فيظهرُ واضحًا أنَّ المسجدَ لا يُقفل وأنَّ صلاة الجماعة أو الجمعة لا تُعَطَّلُ ولو مع تَحَقُّقِ وجود المجذوم فِى المكان، والجذامُ كما هو معروفٌ أشدُّ مِنَ الكُورونا بمراحل كثيرةٍ جدًا.
وقد كان فِى المدينة أولَ ما هاجر إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وباءٌ يصيبُ أغلبَ مَن يدخلُ إليها وقد أُصِيب به أبو بكر وأُصِيب به بلالٌ رَضِىَ اللهُ عنهما وكان أشدَّ مِنَ الكُورونا فلم يُغْلِقْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المساجدَ ولا مَنَعَ إقامةَ الجماعاتِ فيها وإنَّما دعا اللهَ تعالى أن يَنْقُلَ حُمَّى المدينةِ إلى الجُحفة فحصلَ ذلك إكرامًا له صلى الله عليه وسلم ومعجزةً.
فما أحرانا إذا نزلَ بنا وباءٌ أنْ نتبعَهُ فِى هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم وأن تكونَ الطاعةُ والدعاءُ لا منعُهما سبيلًا لدفعِ ذلك كيف لا وقد قالَ اللهُ تعالى فِى سُورةِ البقرة ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ ولم يقل واستعينوا بمنع الصلاة.
قال بعضُ مَن ردَّ على المفتين بمنع الجماعات والجمع إنَّ هذا يُؤدِّى إلى فتحِ البابِ للاجتراء على تعطيلِ المساجدِ ومنعِ الفرائضِ القطعيةِ بشُبهةِ سَدِّ الذريعةِ لكلِّ مَن أرادَ إغلاقَها بدعوَى الخوفِ على الناسِ قال (مع أنَّ أسبابَ الخوفِ كثيرةٌ كالحروبِ والفِتَنِ الداخليةِ مِمَّا يجعلُ المساجدَ عُرضةً لِتَدَخُّلِ الدولِ فِى إغلاقها متى أرادَتِ السُّلطةِ ذلك بدعوَى المصحلةِ مع أنَّ المقْتَضِىَ لمثلِ هذا الإجراءِ وهو وجودُ الأوبئةِ والطاعونِ كان موجودًا فِى عهد النبىِّ صلى الله عليه وسلم وكان فِى المدينة وباءٌ يُصيب كلَّ مَن دخلها أولَ مرةٍ فلم يُؤْثَرْ عنِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ رخَّصَ بتعطيلِ الجمعةِ والجماعةِ بسببِ ذلك فعُلِمَ يقينًا بُطلانُ الاحتجاجِ بهذه الشبهةِ، بل قاعدةُ سدِّ الذريعةِ تقتضِى مَنْعَ السُّلطةِ مِنَ الاجتراءِ على إغلاقِ المساجدِ وتعطيلِ الجمعةِ والجماعةِ والصلواتِ الخمسِ ومنعَها مِنَ التدخُّلِ فِى شأنِها على هذا النَّحْوِ) اهـ
https://www.islam.ms/ar/?p=353