الإيمان بالقدر خَيْره وشرِّهِ. مشيئة الله لا تتغير
بسم الله الرحمن الرحيم
تحميل الدرس الصوتي عن الإيمان بالقدر خَيْره وشرِّهِ.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وبعد،
قال الله تعالى : ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سورة القمر ءاية 49]. وقال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ [سورة الفرقان ءاية 2].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سيكون في أمتي أقوامٌ يكفرون بالله وبالقرءان وهم لا يشعرون فقلت يا رسول الله كيف يقولون قال يُقِرّون ببعض القدر ويكفرونَ ببعض يقولون إن الخير من الله والشرَّ من الشيطان » رواه الإمام أحمد بن الحسين أبي بكر البيهقي رحمه الله بإسناده إلى رافع بن خَدِيج صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإيمان بالقدر خيره وشره معناه الإيمان بأن كل ما دخل في الوجود من خير و شر هو بتقدير الله الأزلي ، فالخير من أعمال العباد بتقدير الله و محبته ورضاه، والشر من أعمال العباد بتقدير الله و خلقه و عِلْمِه ولكن ليس بمحبته ولا برضاه. الله خالق الخير والشرّ لكنه يرضى الخير ولا يرضى الشرّ. الله تعالى خالق أفعال العباد ونيّاتهم ومشيئتهم شرّها وخيرها.
إخوة الإسلام اعلموا انه لا يجري شىء في هذا العالم إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى. والقدر هو جعل كل شىء على ما هو عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: « الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ » أي أن المخلوقات التي قدرها الله وفيها الخير والشر إنما وجدت بتقدير الله الأزلي. وأما صفة الله القدر لا يوصف بأنه شرّ.
والإيمان بالقدر هو من الأمور المهمة و يكون باعتقاد أن كل شىء يحصل بتقدير الله ويدخل في ذلك عمل العبد الخير و الشر باختياره. إن إرادة الله نافذة في كل ما أراده على حسب علمه الأزلي فما علم الله كونه أراد كونه في الوقت الذي يكون فيه. وما علم أنه لا يكون لم يرد أن يكون فلا يحدث في العالم شىء إلا بمشيئة الله.
فعل الأسباب لا ينافي التوكل على الله ولا ينافي اعتقاد أن كل شىء بتقدير الله لأن أفكارنا وأعمالنا ومشيئاتنا هي بخلق الله وتقديره ومشيئته التي لا تتغير ومن اعتقد خلاف ذلك أو شك في ذلك فلا يصِح إسلامه فعليه الرجوع للإسلام بالنطق بالشهادتين مع ترك العقيدة الفاسدة: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ مُحَمَّداً رسول الله.
فالله هو خالق الخير والشر لكنه يرضى الخير ولا يرضى الشر وهو يفعل ما يريد، لا يُسأل عما يفعل. قال الله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)[سورة الفلق 1 - 2]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الأخر وبالقدر خيره وشره" قوله صلى الله عليه وسلم وبالقدرِ خيره وشره أراد بقولهِ وبالقدر صفةَ الله، أي يجب الإيمان بأن كل ما يدخل في الوجود يدخل بتدبير أزليٍ من الله فتدبير الله الذي هو صفته أزلي أبدي، شامل لكل ما يدخل في الوجود من الأجرام أي الأجسام والأعمال خيرها وشرها، وتقدير الله الذي هو صفته لا يوصف بالشر. ويكون معنى خيرهِ وشرهِ: أن المقدور أي المخلوق فيه خير وفيه شر، وهذا المقدور دخل في الوجود بتدبير الله الأزلي، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل القدر على معنى صفة الله، وأعاد الضمير عليه على معنى المقدور وهو المخلوق. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49}﴾[سورة القمر] أي بتدبير أزلي وروى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « كل شىء بقدر حتى العجزُ والكيس » أي الغباء والذكاء، فلا يجوز أن يقال إن الله قدّر الخير ولم يقدر الشر لأن هذا ضدُ القرءان والحديث والعقل.
وتقدير الله للشر وإرادته للشر وخلقه للشر ليس قبيحاً منه تعالى إنما فعل العبد للقبيح قبيح وذلك لأن العبد مأمور بفعلِ الخيرِ منهيٌ عن فعل الشر، أما الله تعالى فهو الآمر الذي لا آمر له والناهي الذي لا ناهي له. والفرق بين الخير والشر أن الخير يحبه الله وأمر به والشر لا يحبه الله ونهى عنه وإلا فكلٌ بخلق الله وتقدير الله وعلم الله ومشيئته.
فإذا سأل سائل الإنسان مخير أم مسير ؟ فالجواب أن يقال: إن الإنسان مختارٌ تحت مشيئة الله، فالإنسان له اختيار لكنه لا يخرج عن مشيئة الله. مشيئة الإنسان يخلقها الله. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29}﴾ [سورة التكوير] فلا يقال الإنسان له اختيار مستقل عن مشيئة الله ولا يقال الإنسان لا مشيئة له.
الإنسان يكتسب أعماله فقط ولا يخلقها. قال الله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ فالإنسان لا يكون منه إلا ما قدَّرَ الله كما قال عليه الصلاة والسلام: « وقل اعملوا فكل ميَسَّرٌ لما خُلِقَ له » وحظ العبد من فعله توجيه القصد نحو العمل ، والله يخلقه عند ذلك إن شاء ، فالعباد مظاهرٌ لاكتساب الأعمال لا حظ لهم في الخلق قال الله تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّـهِ ﴾ معناه لا خالق إلا الله وروى ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله صانع كلِ صانعٍ وصنعتِه » أي صانع العبدِ وفعلِه. ومن أقوى الأدلة لأهل السنة أن الله هو خالق فعلِ العبد لا حظَّ للعبد في الخلق، قولُه تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ ﴾[سورة الأنفال آية 17] معناه وما رميت يا محمدُ خلقاً، إذ رميت كسباً، ولكن الله رمى خلقاً.
وقد سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن القدر فقال: ما شئتَ (أي يا الله) كان وان لـم أَشَـأ وما شِئتُ إن لم تَشأ لم يكـن خلَقتَ العبادَ على ما علمـتَ ففي العلم يجرى الفتى والمُسِنّ على ذا منَنتَ وهذا خذَلـتَ وهذا أعَنتَ وذا لم تُعــِـن فمنهم شقيٌ ومنهم سعــيدٌ ومنهم قبيحٌ ومنهم حســـن فسر الشافعيُّ القدرَ بالمشيئةِ وبيّنَ أن ما شاءه الله لابد أن يكون وما شاءه العبد لا يكون إلا إذا شاء الله وأن كل شئ بخلقٍ الله وعلمه ومشيئته.
وقد ضلَ أناسٌ ينسبون أنفسهم زوراً وبهتاناً للإسلام فجعلوا مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد وهذا ضدُ قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {29}﴾ [سورة التكوير]. وقالتِ المُعتزلةُ والعياذ بالله: إن الله خلق أجسام العباد وأعطاهم القدرة على خلق أفعالهم ثم صار عاجزاً عن خلقها وهذا من أشنعِ الكفر قال بعض العلماء: المعتزلة جعلوا الله كمن قيل فيه المثل: أدخلته داري فأخرجني منها، معناه جعلوا الله مغلوباً في ملكهِ، والله تعالى يقول: ﴿ وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ﴾ [سورة يوسف آية 21]. أي مشيئة الله نافذة.
وقد التقى مُعتزليّ بالإمامِ أبي إسحاق الأسفراييني رضي الله عنه فبدأ الصاحب المُعتزليّ كلامهُ بقولهِ: سبحان من تنزه عن الفحشاء يريد بذلك أن الله لم يشأ حصول الشر ولم يخلقه، فقال له أبو إسحاق: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء فقال المعتزلي: أيحبُ ربُنا أن يُعصى ؟ فقال أبو إسحق: أيُعصى رَبُنا قهراً ؟ (والمراد أن المعصية تحصل بمشيئة الله وخلقه لها فالله لا يتأذى من معاصي العباد ومن شتمهم اياه كنسبة الولد له) فقال المعتزلي: أرأيتَ إن منعني الهدى وحكم علي بالردى أحسنَ إلي أم أساء ؟ فقال أبو إسحق: إن منعك ماهو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فإنه يختص برحمته من يشاء ، فسكت المُعتزلي وانقطع لأن الإمام أبا إسحق كَسَرَهُ بالحجةِ.
فتبينَ لكَ أيها الطالبُ للحقِ أن كل مادخلَ في الوجودِ بمشيئةِ الله وعِلمِه وتقديرهِ وخلقه سواءٌ في ذلك الجسمُ والعمل الخيرُ والشر الكُفرُ والإيمانُ إلا أن الخيرَ يحبهُ الله وأمرَ به والشر لا يحبهُ الله ونهى عنهُ. وقد روى ابنُ حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لو عذَّب أهل أرضهِ وسمواته لعذَّبَهُم وهو غيرُ ظالمٍ لهم ولو رحِمَهُم كانت رحمتُهُ خيراً لهم من أعمالِهم ولو أنْفَقْتَ مثلَ أُحدٍ ذهباً في سبيل الله ما قَبِلَهُ الله منك حتى تُؤمنَ بالقدرِ وتعلمَ أنَّ ما أصابَك لم يكن ليُخطئَكَ وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مُتَّ على غيرِ هذا دَخَلْت النار ».
لا يحصل شىء إلا بمشيئة الله
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه عَلم بعض بناته: « مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ » رواه أبو داود. فكل ما شاء الله أن يكون كان وما لم يشأ أن يكون لا يكون ولا تتغير مشيئته، فهو على حسب مشيئته الأزلية يغير المخلوقات من غير أن تتغير مشيئته. هذه كلمة أجمع عليها المسلمون سلفهم وخلفهم، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشاَءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [سورة التكوير ءاية 29].
لقد أرسل الله تعالى الرسل مبشرين و منذرين ليظهر ما في استعداد العباد من الطوع والإباء فمن علم الله منه الإيمان ظهر منه الاستعداد للإيمان و من علم الله منه الكفر ظهر منه الاستعداد للكفر كما علم الله وشاء، فيهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة. قال الله تعالى: ﴿ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّـهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّـهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)﴾ [من سورة الأنفال ءاية 42].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: « حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يُجمَعُ خلقه في بطن أمه أربعينَ يومًا نُطفَة ثم يكون علقَةً مثلَ ذلك ثم يكونُ مُضغَةً مثلَ ذلك ثم يُرسَلُ إليه الملَك فيَنفُخ فيه الرّوح ويؤمَرُ بأربع كلمات: بكَتْب رِزقِه وأجَلِه وعمَلِه وشقيّ أو سعيد فوالله الذي لا إله غيرُه إنّ أحدَكُم ليَعمَلُ بعمل أهلِ الجنّة حتى ما يكونُ بينَه وبينها إلا ذِراع فيسبِق عليه الكتابُ فيَعملُ بعمل أهلِ النار فيدخلُها وإنّ أحدَكُم ليَعمَلُ بعملِ أهلِ النار حتى ما يكونُ بينَه وبينَها إلا ذراعٌ فيَسبق عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهلِ الجنّة فيدخلُها » رواه البخاري ومسلم. إذا السعيد من سعد بقضاء الله فكل مُيَسَّر لما خُلق له.
الله يفعل ما يشاء، يستحيل في حقه الظلم
جاء فى الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد فى مسنده والإمام أبو داود فى سننه وابنُ حِبَّان عن ابن الدَّيْلَمِىّ قال “أَتَيتُ أُبَىَّ بنَ كَعْبٍ فقلت: يا أبا المنذرِ، إنه حدث فى نفسى شىءٌ من هذا القدر، فحَدّثْنى لعلَّ اللهَ يَنفعُنى. قال: إنَّ اللهَ لو عذَّب أهلَ أرضِه وسمواتِه [الجنَّ والإنسَ والملائكةَ] لَعذَّبَهم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم. ولو رَحِمَهم كانت رحمتُه خيرًا لهم مِن أعمالِهم (إحسانًا منه لا وجوبًا عليه). ولو أنفَقْتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فى سبيل الله ما قَبِلَه اللهُ مِنكَ حتى تُؤْمِنَ بالقدَر، وَتَعْلَمَ أنَّ ما أصابَكَ (من خير أو شرّ) لم يكن لِيُخْطِئَكَ وما أخطَأَكَ لم يكن ليُصِيبَكَ. ولو مِتَّ على غيرِ ذلك دخَلتَ النارَ [مع الكفار]. قال: ثم أتيتُ عبدَ الله بنَ مسعود فحدَّثنى مثلَ ذلك. ثم أتيتُ حُذَيفةَ بنَ اليَمان فحدَّثنى مثلَ ذلك. ثم أتيتُ زيدَ بنَ ثابِتٍ فحدَّثنى مثلَ ذلك عن النبىّ .”
وقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه (الفقه الأكبر) « قدّر اللهُ الأشياء وقضاها ولا يكون في الدنيا و الآخرة شىء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره ». وقال القاضي أبو بكر بنُ العربي: « من أعظم أصول الإيمان القدر فمن أنكره فقد كفر ». وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه (العقيدة الطحاوية) وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطّلع على ذلك مَلَكٌ مقرّب ولا نبي مرسل والتعمق والنّظر في ذلك ذريعة الخذلان وسُلَّم الحرمان ودرجة الطغيان فالحذر كل الحذر نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [سورة الأنبياء ءاية 23]. فمن سأل لما فعل (أي على وجه الاعتراض على الله) فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: « كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ » رواه الترمذي في سننه وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فإذا لا نافع ولا ضار على الحقيقة إلا الله.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله وكلّهم يتقلّبون في مشيئته بين فضله وعدله: يعني أن العباد يتصرفون بمشيئة الله تبارك وتعالى، فإن تصرفوا بالخير فبفضل الله تعالى، وإن تصرفوا في المعاصي والشرور فبعدل الله تبارك وتعالى، وهذا فيه إبطال ما ذهبت إليه المعتزلة من أن العباد تصرفهم في الشر ليس بإرادة الله أما تصرفهم في الخير فبإرادة الله، فهذه التفرقة باطلة، والحق خلاف ذلك فالعباد مهما فعلوا من فعل خيراً كان أو شراً فبمشيئة الله، وفي ذلك بيان أنه ليس واجباً على الله أن يفعل لعباده ما فيه صلاحهم أو ما هو أصلح لهم ومن يدعي ذلك فقد خرج من الإسلام وهذا قول المعتزلة.
الله خالق كل شىء
إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شىء وأما ما يقوله البعض أن الله خلق الخير ولم يخلق الشر فإنه تكذيب لقوله تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[سورة الرعد ءاية 16] و قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الصافات ءاية 96] و من نسب لله تعالى خلق الخير دون الشر فقد نسب إلى الله العجز، ولو كان كذلك لكان للعالم مدبران مدبر للخير و مدبر للشر وهذا كفر وإشراك.
وهذا الرأي السفيه من جهة أخرى يجعل الله تعالى في ملكه مغلوبا، لأنه حَسَب اعتقاده الله أراد الخير فقط فيكون قد وقع في الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغما عنه ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ [سورة يوسف ءاية 21] أي لا أحد يمنع نفاذ مشيئة الله.
و ليس لأحد أن ينكر بأن الشر هو بخلق الله تعالى، وقد أخبر بذلك فقال تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [سورة الفلق آية 1 و2] ومن كذّب القرآن فقد كفر.
أخي المسلم إن مسألة القضاء والقدر لا يتم الإيمان إلا بها بأن يعتقد الإنسان أن كل شيئ من الطاعة والعصيان والنفع والضر بمشيئة الله، خلافا للمعتزلة فإنهم ينسبون خلق الفعل إلى العبد وقد سُمُّوا "بالقدريّة" لأنّهم نفوا القدر وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ﴿لِكُلِّ أمّة مجوس ومجوس هذه الأُمّة الّذينَ يقولون لا قدر﴾ رواه أبو داود وقال ابن عباس رضي الله عنه كلام القدرية كفر وإن قول المعتزلة بأنّ العبادَ يخلقون أفعالهم يُكذِّبُ قولَه تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة الأنعام ءاية 162 و163] أخبر الله تعالى بأن صلاة العبد ونسكه ومحياه ومماته ملك له و خلق له لا يُشارِكُه فيه غيره. ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة النحل ءاية 17]. وقال البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده إلى الربيع المرادي: سُئِلَ الشافعي عن القدر فقال:
ما شِئْتَ كان وإن لم أشأ وما شِئْتُ إن لم تَشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي و منهم سعيد وهذا قبيح وهذا حسن.
قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [سورة السجدة آية 13]. أخي المسلم، اللهُ منّ علينا بنعم كثيرة فعلى كل منا أن يشكر الله على نعمه بترك المحرمات وأداء الواجبات وليس للمرء العاصي أن يقول لِمَ يُعذّبني وقد قدره علي إذاً ظلمني فهذا كفر، لأن الله هو الحاكم المطلق الفعال لما يريد ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [سورة الأنبياء ءاية 23] وليس للمذنب أن يقول "طالما أنه قدره عليّ فلا بد أن يغفر لي ولن يعذبني أبدا " وهذا هو الأمن من مكر الله. فالله خلق الجنة وجعل لها أهلها وخلق النار وجعل لها أهلها وما ربك بظلام للعبيد ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ولا يلومن إلاّ نفسه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد.
الله لا يتغير وصفاته لا تتغير
أشتهر عند المسلمين قول: سبحان الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَير. الله لا يتغير وصفاته لا تتغير فلا يجوزُ للإنسانِ أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ مَشيئَةَ اللهِ تَتَغَيَّرُ، فلا تَتَغَيَّرُ مَشيئَةُ اللهِ بِدَعْوَةِ داعٍ أوْ صَدَقَةِ مُتَصَدّقٍ أو نَذْرِ ناذِرٍ. أشتهر عند المسلمين قول: سبحان الذي يُغَيِّر ولا يَتَغَير.
وقدْ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « سَأَلْتُ رَبِي ثَلاثًا فأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي واحِدَةً » وفي رِوَايَةٍ: « قالَ لي يا مُحَمَّدُ إِنّي إذا قَضَيْتُ قَضَاءً فإِنَّهُ لا يُرَدُّ ». سبحانَ اللهِ الذي يُغَيّرُ ولا يَتَغَيَّرُ. لا يجوز أن يُعتقد أنّ الله يغيّر مشيئته بدعوة داع، ومن اعتقد ذلك فقد فسدت عقيدته وخرج من دين الله والعياذ بالله تعالى. إن مشيئة الله أزلية أبدية لا يطرأ عليها تغيّر ولا تحول كذلك كل صفات الله تعالى لا تتغيّر ولا تتحوّل.
الدعاء لا يُغير قدر الله
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ﴾. ليُعلم أنّ الإيمان بالقدر هو من أهم أمور الدين، لأنّ المخالفة لأهل الحقّ فيه موقع في الكفر الذي هو سبب للخلود الأبدي في النار، أجارنا الله وإياكم منها فالرسول صلى الله عليه وسلم لمّا جاءه جبريل عليه السلام يسأله عن بيان الإسلام والإيمان والإحسان أجابه عن الإيمان بقوله "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". فقال له سيدنا جبريل "صدقت". رواه مسلم
قال الله تعالى ﴿ما يُبَدَّلُ القول لدَيَّ﴾ قال ابن جرير الطبري في تفسيره "عن مجاهد في قوله (ما يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ)، قال: قد قضيتُ ما أنا قاضٍ" اهـ. وأما معنى الحديث "لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلا الدُّعاء". فالقضاء هنا معناه، أي القضاء المُعَلَّق وليس المُبرَم المَحتوم. يوجد قضَاءٌ مُبْرَمٌ محتوم، وَقَضَاءٌ مُعَلَّقٌ. القضاء المُعَلَّق، ليس معلَّقًا في علم الله تعالى، فالله عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شىء في الأرض ولا في السماء، عِلمُه أزلي أبدي لا يتغيَّر. القَضَاءُ الْمُبْرَمُ أي المحتوم لا يَرُدُّهُ شَىْءٌ، لا دَعْوَةُ دَاعٍ وَلا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ ولا صِلَةُ رَحِمٍ. وَالْمُعَلَّقُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ في صُحُفِ الْمَلائِكَةِ الَّتي نَقَلُوهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظ. مَثلاً يَكُونُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُم فُلانٌ إِنْ دَعَا بِكَذَا يُعْطَى كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لا يُعْطَى. وَهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا سَيَكُونُ مِنْهُ. فَإِنْ دَعَا حَصَلَ ذَلِكَ. وَيَكُونُ دُعاؤُهُ رَدَّ القَضَاءَ الثَّانِيَ الْمُعَلَّقَ. وَهَذَا مَعْنى الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أَوِ الْقَدَرِ الْمُعَلَّقِ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ تَقْدِيرَ اللهِ الأَزَلِيِّ الَّذي هُوَ صِفَتُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى فِعْلِ هَذَا الشَّخْصِ أَوْ دُعَائِهِ. فَاللهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ. يَعْلَمُ أَيَّ الأَمْرَيْنِ سَيَخْتَارُ هَذَا الشَّخْصُ وَمَا الَّذي سَيُصِيبُهُ. وَكُتِبَ ذَلِكَ في اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَيْضًا وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ "لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ. وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ" فَقَوْلُهُ "لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ" مَعْنَاهُ فيما كُتِبَ مِنَ الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ. وَقَوْلُهُ "وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ"، مَعْنَاهُ المَقْدُورُ. وَيَدُلُّ على ذَلِكَ مَا وَرَدَ في الصَّحِيحِ في حَديثِ مُسْلِمٍ أَنَّ الرَّسُولَ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ قالَ "سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي ثَلاثًا فَأَعْطَاني ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَني وَاحِدَةً. سَأَلْتُهُ أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتي بِالسَّنَةِ (أي المجاعة) العَامَّةِ فَأَعْطَانِيهَا. وَسألْتُهُ أَنْ لا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَأصِلَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا. وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُم فَمَنَعِيها. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ" اهـ.
هَذَا الحَدِيثُ الكَلاَمُ فِيهِ عَنِ القَضَاءِ الْمُبْرَمِ المحتوم. وعَلَى كُلِّ حَالٍ مَشيئَةُ اللهِ وَتَقْدِيرُهُ وَعِلْمُهُ لا يَتَغَيَّرُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ في الإحْيَاءِ "فَإِنْ قُلْتَ فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ وَالْقَضَاءُ لا يُرَدُّ ؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ مِنَ الْقَضَاءِ رَدَّ الْبَلاءِ بِالدُّعَاءِ. فَالْدُّعَاءُ سَبَبٌ لِرَدِّ الْبَلاءِ وَاسْتِجْلابِ الرَّحْمَةِ كَمَا أَنَّ الْتِّرْسَ سَبَبٌ لِرَدِّ السَّهْمِ، وَالْمَاءَ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ". وَخَرَّجَ الْتِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ عَن أَبِي خُزَامَةَ وَاسْمُهُ رِفَاعَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رُقَىً نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوى بِهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا ؟" قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام "هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ". قَالَ أَبُو عيسى -أيِ التِّرْمِذِيُّ- هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفي بَعْضِ نُسَخِهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ. اهـ. فَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْكَلامِ مِنْ السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ مَرْمًى لأَحَدٍ
ثُمَّ تَأَمَّلْ جَوَابَ الْفَارُوقِ لأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ هَمَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ أَجْلِ الدُّخُولِ عَلَى أَرْضٍ بِهَا الطّاعُونُ وَهِيَ الشَّامُ. فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الأَثِيرِ في الْكَامِلِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ رَدَّ عَلَى سُؤالِ أَبِي عُبَيْدَةَ: "أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ ؟" فَأَجَابَهُ عُمَرُ "نَعَمْ تَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلى قَدَرِ اللهِ"، أَيْ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ إِلى أَرْضٍ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ اللهِ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلتَّوَكُّلِ. وَذَلِكَ في الوَقْعَةِ المَعرُوفَةِ بِطَاعُونِ عَمْوَاسَ الَّذِي أَتَى عَلَى كَثِيرٍ مِن جِلَّةِ الصَّحَابَةِ وَخِيرَةِ الْفَاتِحِينَ، فَكَانُوا شُهَدَاءَ الطَّاعُونَ.
المُسلِمُ عِنْدَمَا يَدْعُو اللهَ تعالى يَعْتَقِدُ جَزْمًا أَنَّ دُعَاءَهُ لا يُغَيِّرُ مَشِيئَةَ اللهِ تعالى، لَكِنِ الدُّعَاءُ بِخَيْرٍ عِبَادَةٌ. الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال"الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ" وَالْعِبَادَةُ هُنَا مَعْنَاهَا الْحَسَنَات. فَنَحْنُ عِنْدَمَا نَدْعُو بِدُعَاءٍ حَسَنٍ يَكُونُ اعْتِقَادُنَا أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ فِيهِ أَجْرٌ، وَقَدْ يَدْفَعُ اللهُ عَنَّا شَيْئًا مِنَ الْبَلاءِ بِسَبَبِهِ. وَإِنْ شَاءَ اللهُ تعالى في الأَزَلِ أَنْ يُسْتَجَابَ دُعَاؤُنَا اسْتُجِيبَ.
ومَعنَى قَوْلِهِ تعالى ﴿ادعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، أي أَطِيعُونِي أُثِبْكُمْ. ومَعنَى قَوْلِهِ تعالى ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأنٍ﴾ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ "يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ ءاخَرِين" رَواهُ ابنُ حِبَّانَ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ. وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلُ النَّاسِ سُبْحَانَ الَّذي يُغَيِّرُ وَلا يَتَغَيَّرُ. وَهُوَ كَلامٌ جَمِيلٌ. إِذِ التَّغَيُّرُ في الْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ في اللهِ وَصِفَاتِهِ. فَيَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللهَ يُغَيِّرُ في خَلْقِهِ مَا شَاءَ. ومَعنَى قَوْلِهِ تعالى ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعانِ﴾ أُثِيبُ الطَّائِعَ عَلَى طَاعَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِلشَّرْعِ.
وأَمَّا قَولُهُ تعالى ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾، فليس مَعْنَاهُ الْمَحْوَ وَالإثْبَاتَ في تَقْدِيرِ اللهِ. وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَيْ أَنَّ اللهَ يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَيْ يَرْفَعُ حُكْمَهُ وَيَنْسَخُهُ بِحُكْمٍ لاحِقٍ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءانِ فلا يَنْسَخُهُ. وَمَا يُبَدَّلُ وَمَا يُثْبَتُ كُلُّ ذَلِكَ في كِتَابٍ وَهَذَا في حَيَاةِ الرَّسُولِ. أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا نَسْخَ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ في تأوِيلِ هَذِهِ الآيَة. وأَمَّا قَولُهُ تعالى ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مشتمل على الْمَمْحُوِّ وَالْمُثْبَتِ. فَيُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّم أَنَّ قَوْلَ العَوَامِّ: اللَّهُمَّ إِنَّا لا نَسْأَلُكَ رَدَّ القَضَاءِ... رَاجِعٌ إِلى القَضَاءِ المُبرَمِ لا الْمُعَلَّقِ. فَلا تَعَارُضَ بَينَ هَذَا وبَينَ الحَديثِ. فلا يحصل شئ إلا بمشيئة الله، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّم بعض بناته "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن" رواه أبو داود. فكل ما شاء الله أن يكون كان، وما لم يشأ أن يكون لا يكون ولا تتغير مشيئته، فهو على حسب مشيئته الأزلية يُغيِّر المخلوقات من غير أن تتغيَّر مشيئتُه. هذه كلمة أجمع عليها المسلمون سلفهم وخلفهم. وقد قال الله تعالى "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين".
اللهم إنا نسألك أن تثبتنا على توحيدك و على الاعتقاد السليم إنك على كل شىء قدير.
والحمد لله ربّ العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=4