معنى الآية وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وبعد،
قولُ اللهِ تَعَالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سورة البقرة/191] وقوله: {والفتنةُ أكبرُ من القتلِ} [سورة البقرة/217] معناه الشِّرْكُ أشدُّ من القتلِ، وليس معناهُ أنَّ مُجَرَّدَ الإفسادِ بينَ اثنينِ أشدُّ من قتلِ المسلمِ ظلمًا، ليس هذا معناه ، بلِ الذي يعتقدُ ذلكَ يكون قد كذَّبَ الشريعةَ لأنه معلومٌ من الدِّينِ عند الخَاصَّةِ والعَامَّةِ أنه لا شيءَ أكبرُ ذنبًا من قتلِ المسلمِ ظلمًا إلا الكفرُ. قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لَزَوَالُ الدُّنيا أَهْوَنُ عندَ الله من قتلِ رَجُلٍ مسلم". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ في (سننه)
يخطئ البعضُ في تفسيرِ الفتنةِ المذكورةِ في هذه الآيةِ فيُفسرونها بالنميمةِ أو الغيبةِ وهذا باطلٌ ليسَ صحيحًا. لأن النميمةَ والغيبةَ وإن كانتا محرمتينِ فإنهما ليستا أشدَّ إثمًا من القتل، بل معنى الفتنةِ في هذه الآية هو: الفتنةُ في الدينِ أي الكفرُ والشِّركُ أشدُّ منَ القتلِ.
قال ابن المنظور الإفريقي في لسان العرب، المجلد الثالث عشر، حرف النون، فصل الفاء: وقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] معنى الفِتْنة ههنا: الكفر، كذلك قال أَهل التفسير. قال ابن سيده: والفِتْنةُ الكُفْر. اهـ
ابن سيده: هو علي بن إسماعيل، أبو الحسن، اللغوي الأندلسيّ، المعروف بابن سيده، إمام من أئمة اللغة. وقد اختلف المؤرخون في اسم أبيه، فقال ابن بشكوال في (الصلة) إنه: إسماعيل، وقال الفتح بن خاقان في (مطمح الأنفس): إنه أحمد، ومثل ذلك قال الحُمَيْدي، كما ذكر ياقوت في (معجم الأدباء)، وتوفي سنة 458 هـ، ثمان وخمسين وأربعمائة. اهـ
سبب نزولِ الآيةِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ
سبب نزولِ الآيةِ أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه و سلّم أرسلَ بعض الصحابةِ إلى موضعٍ بين مكةَ والطائفِ حتى يتحسسوا أخبارَ المشركين، ولم يأمرهم بالقِتَالِ، فلما وصلوا إلى هذا المكانِ ونزلوا به مرّت بهم قافلة وفيها عمرُو بنُ الحضرميِّ ومعه ثلاثةُ أشخاص، فقتلوا عمرَو بنَ الحضرميِّ وأسروا اثنينِ وفرَّ الثالثُ، فجاؤوا بالقافلةِ والأسيرينِ لرسولِ اللهِ فالنبي أنكر عليهم ذلك لأنه لم يأمرهم بالقتالِ، ولأنه كان القتالُ في أحدِ الأشهرِ الحُرُمِ، وكان مُحرمًا القتالُ فيها قبلَ أن يُنسخَ الحكمُ، فالمشركونَ أنكروا قالوا هذا محمد يدعي الخير ثم يرفع السيف في مثل هذا الشهر !؟
وعَابُوا على المسلمينَ بأنهم قاتَلُوا في الشّهر الحرامِ فرَدَّ اللهُ علَيهِم وذَمَّهُم بأَنهم ارتَكبُوا رأسَ الذّنبِ وهوَ الشِّركُ فكيفَ يَعِيبُونَ على المسلمِينَ على أنهم قاتلوا في الشهرِ الحرام وما هُم علَيهِ أَشَدُّ مِن هذا لأنّ الشِّركَ هوَ أعظَمُ الظُّلم والفتنِ، فأنزل الله تعالى في تبكيتهم وزجرهم قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي كفركم بالله وعبادتكم للأصنام أشدُ من القتال في مثل هذا الشهر وليس معنى الآية أن الفتن أشد ذنبا عند الله من القتل، وإن كان عمل الفتن بين الناس أمر نَهَى عنهُ الشرعُ وحَذَّرَ منهُ وهُو طبعُ أهلِ الفسادِ والنفاقِ والرذائل.
وهاكَ جملة مِن أهمِّ أقوالِ العُلَمَاءِ في معنى قوله تعالى: (وَالْفِتْنَة أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أنه الكفر بالله تعالى.
قال تعالى في سورةِ البقرةِ: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حتّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة آية 191] فالمُراد بالفتنةِ هُنَا هُوَ الشِّركُ وليس النميمةُ كمَا يَتَوهَّمُ بعضُ النَّاس فيُورِدُونَ هذِهِ الآيةَ عِندَ حُصُولِ أيِّ شِجَار ناتجٍ عَن نميمةٍ، قالَ بعضُ المُفسِّرينَ فِي ذلكَ مِنهُم المُفسِّر الإمامُ الطبريُّ، قال: القول في قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يعني تَعَالَى ذَكَرَهُ بِقَولِهِ: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) والشِّركُ باللهِ أشدُّ مِنَ القَتلِ.
وقد بينّا أنَّ أصلَ الفتنةِ الابتلاءُ والاختِبَارُ فتأويلُ الكلامِ في الآية ابتلاءُ المؤمنِ فِي دِينِه حَتَّى يَرجِعَ عنهُ فيَصِيرَ مشركًا بالله مِن بعدِ إسلامِه ـ كما كان يَفعَلُ هؤلاءِ المشركون ـ أشدُّ عليهِ وأضرُّ مِن أن يُقتَل مُقيمًا عَلى دِينه متمسكًا عليهِ مُحِقًّا فِيهِ،
قال القرطبي: أي شِركُهُم باللهِ وكفرُهُم بِه أعظمُ جُرْمًا وأشدُّ مِن القتلِ الذي عيَّرُوكُم بهِ. وهذا دليل على أن الآية نزلت في شأنِ عمرِو بن الحَضْرمِيّ حين قتله وَاقدُ بنُ عبد اللَّهِ التميمِيُّ فِي آخر يومٍ مِن رجب الشهرِ الحرام.
وقال ابنُ الجوزي: فأما الفتنة، ففيها قولان. أحدهما: أنها الشرك، قالهُ ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ، وابنُ عُمرَ، وقتَادَةُ. والثاني: أنها ارتِدَادُ المُؤمِنِ إلى عِبَادَةِ الأوثانِ، قالَهُ مُجاهِد. فَيَكُون مَعنَى الكلام على القول الأول: شِركُ القَومِ أعظَم مِن قتلِكُم إيَّاهُم فِي الحرم. وعلى الثاني: ارتدادُ المُؤمِن إلى الأوثَانِ أشَدُّ عَلَيهِ مِن أن يُقتَل مُحِقًا.
وقال النسفي: قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي شِركُهُم باللهِ أعظَمُ من القتلِ الذي يَحُلُّ بِهِم مِنكُم، وقال الخازن في تفسيره: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يَعنِي أنَّ شِركَهُم باللهِ أشدُّ وأعظَمُ مِن قَتلِكُم إيَّاهم في الحرم والإحرام وإنما سُميَ الشركُ بالله فِتنَةً لأنَّه فَسادٌ فِي الأرضِ يؤدِّي إلى الظُلم، وإنما جُعِل أعظمَ مِنَ القتل لأن الشركَ بالله ذنبٌ يستَحِق صَاحِبُه الخُلُودَ في النار وليس القَتلُ كذلِكَ، والكُفرُ يُخرج صاحِبَه مِنَ المِلةِ وليسَ القتلُ كذلك فثبتَ أنَّ الفتنةَ أشدُّ مِن القتلِ.
https://www.islam.ms/ar/?p=585