خطبة الجمعة : نعم الله ظاهرة و باطنة
بسم اللّه الرحمان الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أنعَمَ علينَا بهذا الدِّين، وألهَمَنا الإيمانَ بهِ واليَقِينَ، وأَنْعَمَ علينا بِالصِّحَّةِ والمالِ وَالْبَنِينَ، نَحْمَدُهُ تعالَى على نِعَمِهِ وبِها على شُكْرِهِ نَسْتَعِين. ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وَمِنْ سَيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الأَوَّلُ بِلَا ابْتِدَاءٍ، الدائمُ بِلَا انْتِهَاءٍ، الظَّاهِرُ الذِي ليسَ فَوْقَهُ شَىْءٌ، البَاطِنُ الذِي ليسَ دُونَهُ شَىْءٌ، قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كانَ، خَلَقَ المكانَ وأَجْرَى الزَّمانَ فَلَا يَتَغَيَّرُ عمَّا كانَ، فهُوَ مُوجودٌ بِلَا مَكَانٍ ولا يَجْرِي عليهِ زَمَانٌ. وأشهدُ أنَّ سيدَنا وعظيمَنا وقائدَنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورسولُه وصَفِيُّهُ وحبيبُه وخَلِيلُه.
أما بعدُ فإنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العليِّ القديرِ والثَّباتِ على دِينِه العَظِيمِ والعَمَلِ بِمُقْتَضَى القُرءَانِ الكَريمِ وسُنَّةِ النَّبِيِّ عليهِ أفضَلُ الصلاةِ وأتمُّ التَّسلِيم.
يقولُ اللهُ تعالى في القُرءانِ الكريمِ ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُور رَّحِيم ١٨﴾ (سورة النحل).
فحريٌّ بنَا إخوةَ الإيمانِ أَنْ نَشْكُرَ اللهَ على مَا أنْعَمَ بهِ علينَا مِنَ النِّعَمِ والتِي لا يُحْصِيهَا أَحَدٌ غَيْرُه. وهذهِ النعمُ عبادَ اللهِ على قِسْمَيْنِ ظاهرةٍ وباطِنَةٍ كما قالَ اللهُ تعالى ﴿وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَة وَبَاطِنَة﴾ (سورة لقمان).
وقَدْ جَاءَ عَنْ بَعْضِ أهلِ العلمِ في تَفْسيرِ هذهِ الآيةِ أنَّ النِّعَمَ الظاهرةَ ما يُرَى بِالأَبْصَارِ في الناسِ مِنَ المالِ والجاهِ والجَمَالِ وَالتَّوفيقِ لِلطَّاعَات، والباطنةَ ما يَجِدُ المرءُ في نَفْسِهِ مِنَ العِلْمِ بِاللهِ وَحُسْنِ اليَقِينِ وَمَا يَدْفَعُهُ اللهُ تعالَى عنِ العبدِ مِنَ الآفَات.
فَمِنَ القِسْمِ الأَوَّلِ أَيِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ والذُّرِّيَّةِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالأنهارِ والمطرِ والزَّرْعِ والأَنْعَامِ والماءِ الباردِ وغيرِها الكثير. والواجبُ على المكَلَّفِ شُكْرُ اللهِ على هذهِ النِّعَمِ وشُكْرُ اللهِ إخوةَ الإيمانِ يَكُونُ بأنْ لَا تُسْتَعْمَلَ نِعَمُ اللهِ في مَعْصِيَةِ اللهِ وَأَنْ لا يُكْفَرَ بهِ وبِرُسُلِهِ فَمَنْ أَدَّى الشُّكرَ على هذا النحوِ فَهُوَ عَبْدٌ شَاكِرٌ لِرَبِّه، وأما مَنْ شَكَرَ اللهَ بِلِسانِه ألفَ مَرَّةٍ واسْتَعْمَلَ نِعْمَةَ اللهِ في معصيةِ اللهِ فإنهُ لم يَشْكُرْ رَبَّهُ كمَا يَجِبُ.
وَاعْلَمُوا أنَّنا يومَ القيامَةِ مَسْؤُولونَ وقَدْ جَاءَ في حَديثِ أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ " لا تَزُولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القِيامَةِ حتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فيمَ أَفْنَاهُ وعَنْ عِلْمِهِ فيمَ فَعَلَ وعَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاه ". رواه الترمذي في سننه وصححه.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ " أَوَّلُ مَا يُحاسَبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ أُصِحَّ جِسْمَكَ، وَأَرْوِكَ منَ الماءِ البارِدِ" رواه الحاكم في المستدرك وصححه.
فحَاسِبْ نفسَكَ أخي المسلمَ وانْظُرْ هل أدَّيْتَ شُكْرَ هذهِ النعمِ كما يَجِبُ. ومن النعمِ الباطنةِ إخوةَ الإيمانِ النِّعمةُ العُظْمَى التِي لَا تُساوِيها نِعْمَةٌ وَهِيَ نعمةُ الإيمانِ باللهِ وَمَا يَتْبَعُها مِنَ التسليمِ للهِ وَمَحَبَّةِ الصالحينَ وَحُسْنِ اليَقِينِ وَتَعْظِيمِ علمِ الدِّينِ ونحوِ ذلك. فالإيمانُ باللهِ ورسولِه هو رَأْسُ مالِ المسلمِ وهو أَعْظَمُ وأعلَى نعمةٍ يُعطاهَا الإنسانُ فَمَنْ أُعْطِيَ الدنيا ولَمْ يُعْطَ الإيمانَ فكأَنَّما مَا أُعْطِيَ شيئًا، ومن أُعطيَ الإيمانَ ولم يُعطَ الدنيا فكأنَّما ما مُنِعَ شيئًا فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ " إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُعْطِي الدُّنيا مَنْ يُحِبُّ ومن لا يُحِبُّ ولا يُعْطِي الدِّينَ إِلّا لِمَنْ أَحَبّ" رواه الإمام أحمد في مسنده.
وأمّا المسلمُ الذي لمْ يَشْكُرِ اللهَ على نِعَمِهِ فمَاتَ وهو مِنْ أَهْلِ الكبائرِ فهُوَ تحتَ مشيئةِ اللهِ إِنْ شاءَ اللهُ عَذَّبَهُ وإِنْ شاءَ غفَرَ لهُ وأمّا مَنْ وُفِّقَ لِشُكْرِ اللهِ على نِعَمِهِ الظاهرةِ والبَاطِنَةِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللهِ تعالَى فَأَدَّى الوَاجِبَاتِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَاسْتَخْدَمَ نِعَمَ اللهِ في طاعةِ رَبِّهِ فجَزاؤُهُ عندَ رَبِّه النَّعيمُ المقيمُ الذِي لَا يَفْنَى وَلَا يَزُولُ قالَ اللهُ تعالَى ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰئِكَ هُم خَيرُ ٱلبَرِيَّةِ ٧ جَزَاؤُهُم عِندَ رَبِّهِم جَنَّٰتُ عَدن تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدا رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنهُم وَرَضُواْ عَنهُ ذَٰلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُۥ ٨﴾ (سورة البينة).
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمْدِه، نعبدُه ونُقَدِّسُهُ وَنُمَجِّدُهُ وَنَشْكُرُهُ علَى نِعَمِه، ونَعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِنا محمدٍ الصادِقِ الوَعْدِ الأَمينِ وعلَى إِخوانِه النبيِّينَ وَالْمُرْسَلِين. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ فإِنِّي أوصيكُمْ ونفسِي بتَقوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ فاتّقوه وخَافُوهُ وَسَلُوهُ أَنْ يُبْعِدَ عَنْ قُلُوبِنَا النِّفَاقَ وأنْ يَحْفَظَ علَيْنَا نِعَمَهُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
واعلَمُوا إخوةَ الإيمانِ أَنَّ مَنْ شَكَرَ اللهِ على نِعَمِهِ كمَا يَجِبُ دخَلَ الجنَّةَ. روى أبو هريرةَ عَنِ الصَّادقِ الْمَصْدُوقِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عن ربِّهِ تعالَى قالَ " أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصالحينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر" رواه البخاري في صحيحه. وقالَ أبو هريرةَ اقرءُوا إِنْ شِئْتُمْ قولَه تعالَى ﴿فَلَا تَعلَمُ نَفس مَّا أُخفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعيُن جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ ١٧﴾ (سورة السجدة).
اللّهم إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعاءَنا فَاغْفِرِ اللهمَّ لنا ذُنوبَنَا وإِسرافَنَا في أمرِنا اللهمَّ اغفِرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ الأَحْياءِ منهم والأَمواتِ ربَّنا ءاتِنَا فِي الدُّنيا حسنَةً وفِي الآخرَةِ حسنَةً وقِنَا عَذَابَ النارِ اللهمَّ عَلِّمْنَا مَا جَهِلْنَا وَذَكِّرْنا مَا نَسِينَا وَزِدْنَا عِلْمًا . عبادَ الله إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَقِمِ الصلاةَ.
https://www.islam.ms/ar/?p=578