عذاب القبر ونعيمه وسُؤال الملكَين مُنكر ونكير
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحَمدَ للهِ نَحمدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشْكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يُضلِل فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضدَّ ولا نِدَّ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائِدَنا وقُرَّةَ أَعْيُنِنَا محمَّدًا عبْدُهُ ورَسولُهُ وصَفِيُّهُ وحَبيبُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾ [سورة النجم] أرْسَلَ اللهُ تَعَالَى سَيّدَنَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ بِدِينِ الحَقّ، وَأمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ إلَى النَّاسِ فأدَّى الأمَانَةَ، وَبَلَّغَ الرّسَالَةَ بِكُلّ صِدْقٍ وَشَجَاعَةٍ. وَكُلُّ شَىءٍ أخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أمُورِ الحلالِ والحَرَامِ، أوْ قَصَصِ الأنْبياءِ أوِ الأمُورِ الّتي تَحْدُثُ في المسْتَقْبَلِ في الدُّنيا والآخِرَةِ.
فَمِمّا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ إِخْوَةَ الإِيمانِ عَذابُ القَبْرِ لِلْكافِرِ ولِبَعْضِ عُصاةِ الْمُسْلِمِينَ، قالَ الإِمامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ في الفِقْهِ الأَكْبَرِ « وضَغْطَةُ القَبْرِ وعَذابُهُ حَقٌّ كائِنٌ لِلْكُفّارِ ولِبَعْضِ عُصاةِ المُسْلِمِينَ » اهـ فَلا يَجُوزُ إِنْكارُ عَذابِ القَبْرِ بَلْ إِنْكارُهُ كُفْرٌ، قالَ الإِمامُ أَبُو مَنْصُورٍ البَغْدادِيُّ فِي كِتابِ الفَرْقِ بَيْنَ الفِرَقِ « وقَطَعُوا ـ أَي أَهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ ـ بِأَنَّ المُنْكِرِينَ لِعَذابِ القَبْرِ يُعَذَّبُونَ فِي القَبْرِ » اهـ أَي لِكُفْرِهِم.
عَذَابُ القَبْرِ:
يَجبُ الإيمانُ بِأنَّ اللهَ يُعَذّبُ الكُفَّارَ جَمِيعَهُمْ في قُبُورِهِمْ، فَيَأمُرُ حَشَرَاتٍ في الأرضِ مُؤذِيَةً أنْ تَأكُلَ أجْسَادَهُمْ، وَيَأمُرُ الأرْضَ فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ، فَتَكُونُ قُبورُهُمْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النارِ، إلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ أنْوَاعِ النَّكَدِ وَالعَذَابِ. أمَّا المسْلِمُونَ العُصَاةُ مِنْ أهْلِ الكَبَائِرِ الّذينَ مَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَهُمْ قِسْمَانِ :
1ـ قِسْمٌ يُعَذّبُهُمُ اللهُ في قُبُورِهِمْ.
2ـ وَقِسمٌ يُعْفِيهِمُ اللهُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ. وقد يكونُ هذا العفو بسبب استغفار مسلمٍ حيّ لهُ أو قراءة القرآنِ لهُ.
نَعِيمُ القَبْرِ:
يَجبُ الإيمانُ بِأنَّ اللهَ يُنْعِمُ على عِبَادِهِ المؤمِنِينَ المتَّقِينَ فِي قُبُورِهِمْ. وَمِنْ هذَا النَّعِيمِ أنْ تُنوَّرَ قُبُورُهُمْ بِنُورٍ كَنُورِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ وَأنْ تُوَسَّعَ سَبْعِينَ ذرَاعًا في سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُمْلأَ نُورًا إلَى غَيْرِ ذلِكَ مِنْ أنْوَاعِ النَّعِيمِ.
سُؤالُ المَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكيرٍ:
يَجبُ الإيمانُ بِمُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَهُمَا مَلَكَانِ أسْودَانِ أزْرَقَانِ، يَسألانِ الميّتَ في قَبْرِهِ مَا كُنْتَ تَقُولُ في هذا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فإنْ كَانَ مؤمنًا يقول: أشهَدُ أنه عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وإنْ كَانَ مِن أهْلِ الكُفْرِ لا يَنْطِقُ بِها فَيَضْرِبَانِهِ بِمِطْرَقَةٍ بَيْنَ أذُنَيْهِ لَوْ طُرِقَتْ بِها الجِبَالُ لَذَابَتْ. وَسُؤَالُ الملَكَيْنِ يَحْصُلُ لِلمُؤمِنِ وَالكَافِرِ وَلَكِنَّ المؤمِنَ الكَامِل لا يَلْحَقُهُ فَزَعٌ وَلا انْزِعَاجٌ مِنْ سُؤَالِهما لأن اللهَ يُثَبّتُ قلْبَهُ فَلا يَرْتَاعُ مِنْ مَنْظرِهِما المخِيفِ، وَيُسْتَثْنى مِنْ هَذَا السُّؤَالِ الأنْبِيَاءُ والشُّهَداءُ والأطفَالُ (وهُم الّذِينَ مَاتُوا دُونَ البُلُوغِ).
قال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّد ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أُنْظُرْ إِلَى مَقْعَدْكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللّهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعاً، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ »، رواه البخاري ومسلم من حديث أنس.
وقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا قُبِرَ الْمَيتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّد ؟ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِناً قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي سَبْعِينَ ذِرَاعاً، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لاَ يُوقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مُنَافِقاً قَالَ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَكُنْتُ أَقُولُهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي فَتَلْتَئْمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ فَلاَ يَزَالُ مُعَذَّباً حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالىَ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِك »، رواه بن حبان.
والحديثانِ رواهما ابن حبان وصححهما، ففي الأول إثباتُ عودِ الروح إلى الجسد في القبر والإحساس، وفي الثاني إثبات استمرار الروحِ في القبر وإثبات النوم وذلك ما لم يبلَ الجسدُ. وهذا النعيمُ المذكور هو للمؤمن القويّ وهو الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المعاصيَ، وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه "الدنيا سِجنُ المؤمن وسَنَتُهُ فإذا فارقَ الدنيا فارق السجن والسنة"، حديثٌ صحيحٌ أخرجهُ ابن حبان، يعني المؤمن الكامل. "سجن المؤمن" أي بالنسبةِ لما يلقاهُ من النعيم في الآخرة الدنيا كالسجن، وقوله "وسنته" أي دار جوع وبلاء.
روى البخاريُّ ومسلمٌ والترمذيُّ وأبو دَاودَ والنَّسَائِيُّ عن ابن عَبَّاسٍ قال: “مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّم على قَبرينِ فَقَال: « إِنَّـهُمَا لَيُعَذّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ » ؛ قَالَ : « بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ »، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً وَعَلَى هَذَا وَاحِدا ، ثُمَّ قَال: « لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا »”. أي بحسب ما يرى الناس ليس ذنبهما شيئاً كبيراً لكنه في الحقيقة ذنب كبير لذلك قال: « بلى أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة » وهي نقل الكلام بين اثنين للإفساد بينهما، يقول لهذا فلان قال عنك كذا ويقول للآخر: فلان قال عنك كذا ليوقع بينهما الشحناء، وأما الآخر فكان لا يستنـزه من البول أي كان يتلوث بالبول وهذا من الكبائر فقد قال عليه الصلاة والسلام: « استنـزهوا من البول فإنّ عامة عذاب القبر منه » رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة. ومعناه : تحفظوا من البول لئلا يلوثكم، معناه لا تلوثوا ثيابكم وجلدكم به لأن أكثر عذاب القبر منه.
يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [سورة طه ءاية 124] أي من أعرض عن الإيـمان بالله تعالى ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ أي ضيّقة في القبر كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم.
المعنى أن الكفار الذين أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى إذا ماتوا يتعذبون في قبورهم وليس المراد بـ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ معيشة قبل الموت إنما المراد حالهم في البرزخ، وكلمة (ذكري) هنا معناها الإيمان بالله سبحانه وبالرسول ليس المراد بها الذكر المعروف وهو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ونحو ذلك. وهذه الآية عُرف أن المراد منها عذاب القبر من الحديث المرفوع إلى النبي الذي فسر هذه الآية ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ بعذاب القبر رواه ابن حبان وفي هذا قال الرسول الكريم لأصحابه: « هل تدرون في ماذا أنزلت ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ قالوا: الله ورسوله أعلم : قال عذاب الكافر في قبره »... الحديث.
وروى الترمذيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القبرُ روضةٌ مِن رِياضِ الجنةِ أو حفرةٌ مِن حُفَرِ النار » اهـ. وفي سنن النسائي عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهَا قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ « نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ » اهـ.
وهذا العذاب أيها الأحبة يكون بالروح والجسد لكن الله يحجبه عن أبصار أكثر الناس ليكون إيـمان العبد إيمانًا بالغيب فيعظم ثوابه. ويدل على كون العذاب بالروح والجسد ما ورد عن سيدنا عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أنه سأل الحبيب محمدًا صلى الله عليه وسلم " أَتُرَدُّ علينا عقولنا يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « نعم كهيئتكم اليوم »" اهـ قال فَبِفيه الحجر أي سكت وانقطع عن الكلام لسماعه الخبر الذي لم يكن يعرفه.
ومن الأدلة على عذاب القبر أيضًا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [سورة غافر ءاية 46]
والمراد بآل فرعون أتباعه الذين اتبعوه على الشرك والكفر، هؤلاء يُعرضون على النار أوّلَ النهار مرة وءاخِرَ النهار مرة فيمتلؤون رُعبًا وفـزَعًا وخوفًا وهذا العرض ليس في الآخرة إنما قبل قيام الساعة كما يفُهم من الآية وليس قبل الموت كما هو ظاهر فتعيَّن أن يكون في مدة القبر في البرزخ وهي المدة ما بين الموت والبعث.
إخوة الإيمان روى الترمذيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأناسٍ: « فأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أي الكامل قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأحَبَّ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلّيتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنيعِي بِكَ قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أوْ الْكافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لا مَرْحَبًا ولا أَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأبْغَضَ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظُهرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنِيعي بكَ قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْتَقِى عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أضْلاعُهُ » قال أي الراوي، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ « وَيُقَيّضُ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنّينًا لَوْ أنَّ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الأرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتِ الدُّنيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الحِسَابِ » اهـ.
فمن عذاب القبر إخوة الإيمان ضغطة القبر يقترب حائطَا القبر من جانبيه حتى تتداخل أضلاعه، أضلاعه التي عن جانبه الأيـمن تتداخل مع أضلاعه التي عن الجانب الأيسر. أحبتي من ذا الذي يحتمل ألمَ التواءٍ في أحد أصابعه، من ذا الذي يحتمل ألم كسر في اليد، فأىّ ألم ذاك حين تتداخل الأضلاع بعضها ببعض. اللهم أجرنا من عذاب القبر وضغطته يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين يا أرحم الراحمين.
ومن عذاب القبر أيضًا الانزعاج من ظُلمة القبر ووحشته ومنه أيضًا ضرب منكر ونكير للكافر بمطرقة من حديد لو ضُرب بها جبل لذاب يُضربُ ضربةً فيصيح من الألم صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين أي إلا الإنسَ والجنَّ.
ومن عذاب القبر أيضًا تسليط الأفاعِي والعقاربِ وحشرات الأرض عليه فتنهش وتأكل من جسده ففي المستدرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال للفاجر: « ارقد منهوشًا، فما من دابة في الأرض إلا ولها في جسده نصيب » اهـ، وروى الطبرانُّى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ عَقَارِبُ وَثَعَابِينُ، لَوْ نَفَخَ أَحَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا تَنْهَشُهُ وتؤمر الأرضُ فتضمه حتى تختلف أضلاعُهُ » اهـ.
إخوة الإيمان روى أبو داود في سننه عن البراء بن عازب رضِىَ الله عنه أنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسْولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فيِ جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنّـمَا عَلَى رُؤوسِنَا الطَّيْرُ وَفىِ يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بهِ الأرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ الْقَبْرِ اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا »اهـ.
وفي صحيح مسلم عن أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِىَ الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ اللهِ، عُوذُوا بِاللهِ مِن عَذَابِ القَبْرِ، عُوذوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنُ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ » اهـ فخافوا الله عباد الله واتقوه واسألوا الله بخوف وتضرع في جوف الليل وفي سجودكم وعند السحر السلامة من عذاب القبر.
واعلم أنه ثبت في الأخبار الصحيحة عود الروح إلى الجسد في القبر كحديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الحاكم وأبو عوانه وصححه غير واحد وفيه ويعاد الروح إلى جسده . وأما حديث ابن عباس مرفوعاً: « ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام » رواه ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي وصححه. ونحن نؤمن بما ورد في هذا الحديث ولو لم نكن نسمع ردّ السلام من الميت لأن الله حجب عنا ذلك ويتأكد عود الحياة في القبر إلى الجسد مزيد التأكد في حق الأنبياء فإنه ورد من حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام: « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون » رواه البيهقي.
أين تذهب الروح بعد الموت ؟
ثم إذا بليَ الجسدُ كله ولم يبقَ إلا عَجْبُ الذنبِ يكون روح المؤمن التقي في الجنةِ وتكونُ أرواحُ عُصاة المسلمين أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة بعد بلى الجسد فيما بين السماء والأرض، وبعضهم في السماء الأولى. وتكونُ أرواح الكفار بعد بلى الجسد في سجين، وهو مكانٌ في الأرض السفلى. "عَجْبُ الذنبِ" لا يبلى ولو سلّطَ عليه نارٌ شديدةٌ، وهو عظمٌ صغيرٌ قدرُ حبةِ خردلةٍ، وقد ورد في الحديث الصحيح "منهُ خلقَ الإنسانُ وعليه يُركَّبُ" أي أن سائر العظام تُركَّبُ على هذا العظمِ الصغير. وأما الذين لا تبلى أجسادهم فهم الأنبياء وشهداء المعركة وبعض الأولياء. وأما الشهداء (شهداء المعركة) فتصعدُ أرواحهم فورًا إلى الجنة.
وفي الحديث " إن نسمة المؤمن " أي روحَ المؤمن "طائر يعلق في شجر الجنة" معنى يعلق أي يأكل من ثمار الجنة و معنى طائر أي يتشكل بشكل طائر بعد فناء الجسد و بقاء ذلك العظم الصغير و هذا البلى يختلف بإختلاف الأراضي فمن الأراضي ما لا يمكث فيها جسد الميت إلا سنة واحدة و منها ما يمكث الجسد بهيكله إلى ثمانين سنة و منها إلى ستين إلا الأنبياء فإن أجسادهم لا تأكلها الأرض أينما دفنوا لأن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ".
فوا عجبًا ممن أيقن عذاب القبر وءامن به كيف يجرؤ على أن يعصىَ الله خالقَهُ، ويُعرّض نفسه لسخطِ الله وعقابهِ. اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ونعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك.
والحمد لله رب العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=26