فائدة الدعاء وأين يستجاب. حديث الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين
حديث "الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة" مَعنَاهُ مِن أَفضَلِ الحَسَنَات، العِبَادَةُ هُنا الحسَنَاتُ ليسَ مَعناهُ نِهايةُ التَّذَلُّل. وأمّا قَولُه تَعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مَعنَاهُ نَخُصُّكَ بأَقْصَى غَايَةِ الخُضُوع والخُشُوع ويُقَالُ على حَسَبِ قَولِ بَعضِ أئِمَّةِ اللُّغَة نُطِيعُكَ طَاعَةً معَ الخُضُوع، هَذه العبَادَةُ التي مَن صَرَفها لغَيرِ اللهِ يَكفُر، والدُّعَاءُ عندَ عُلَماءِ اللّغَةِ الرّغْبَةُ إلى الله، "الدّعَاءُ مُخُّ العِبادَة" مَعناهُ لما تَطلُب مِنَ الله تكونُ عبَدتَه. معناهُ دُعاءُ اللهِ تَعالى شَىءٌ يُحبُّه الله، اللهُ تَعالى ليسَ كخَلقِه، الخَلقُ إذا طَلبتَ منهُ شَيئًا أحيانًا يَغضَبُ أمّا اللهُ يُحبُّ أن يُطلَبُ مِنهُ (ما هوَ خَيرٌ) يحِبُّ أن يُدْعَى يُحبُّ دُعاءَ عَبدِه إيّاه لأنّهُ سُبحَانَه وتَعالى قَادرٌ على كُلّ شَىء.
وفي الحديث "الدُّعَاءُ سِلاحُ المؤمِن" رواه الحاكم وغيره.
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ" أيِ المواظِبِينَ علَيهِ. رواه البيهقي وابن عسَاكِر. حتى لو انقَطع شِراكُ نَعلِه فقال يا ربّ أصلِح ليْ هذا فيهِ ثَوابٌ طلَبُه هذا.
وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَهُ: «لَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ لا يُرَدُّ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرَبُ ما يَكونُ العبدُ مِن ربّهِ وهو سَاجِدٌ فأَكثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فِيهِ" رواه مسلم. يعني القُربَ المعنَويَّ لا الحِسّيَّ لأنّ اللهَ مَوجُودٌ بلا مَكَان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَسْمَعُ الدّعَاءِ مَا كانَ في جَوفِ اللّيلِ ودُبُرَ الصّلَواتِ المَكتُوبات" هذا عامّ يَشمَلُ أن يَدعُوَ كُلُّ مُصَلّ على انفِرادٍ ويَشمَلُ أنْ يَدعُوَ أحَدهُم ويؤمّنَ الآخَرُون، والحديثُ رَواه الترمذيّ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْجَزَرِيُّ وَهُوَ شَيْخُ الْقُرَّاءِ وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى الْحِصْنَ الْحَصِينَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ: "مِنْ مَوَاضِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ قُبُورُ الصَّالِحِينَ" اهـ
ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَاسْمُهُ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ بنُ الْمُلَقِّنِ هَذَا تُوُفِّيَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتِ الأَوْلِيَاءِ وَهُوَ كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ تَرَاجِمَ أَوْلِيَاءَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالَ: "ذَهَبْتُ إِلَى قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَقَفْتُ وَدَعَوْتُ اللَّهَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَالأَمْرُ الَّذِي كَانَ يَصْعُبُ عَلَيَّ يَنْقَضِي لَمَّا أَدْعُو اللَّهَ هُنَاكَ عِنْدَ قَبْرِهِ" هَذَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ مِنَ الأَوْلِيَاءِ الْبَارِزِينَ الْمَشْهُورِينَ فِي بَغْدَادَ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يَقْصِدُونَ قَبْرَهُ لِلتَّبَرُّكِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّالِ أَنَّهُ قَالَ: "مَا هَمَّنِي أَمْرٌ فَقَصَدْتُ قَبْرَ مُوسَى بنِ جَعْفَرٍ فَتَوَسَّلْتُ بِهِ إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِي مَا أُحِبُّ". اهـ.
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مُجْتَهِدًا يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُرْسِلُ ابْنَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ قَالَ: "قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ"، وَالتِّرْيَاقُ هُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأَطِبَاءِ الْقُدَامَى مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ، شَبَّهَ الْحَرْبِيُّ قَبْرَ مَعْرُوفٍ بِالتِّرْيَاقِ فِي كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ فَكَأَنَّ الْحَرْبِيَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اقْصِدُوا قَبْرَ مَعْرُوفٍ تَبَرُّكًا بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ.
وقَد ذَكَر الحَافظُ ابنُ حَجَرٍ في كتابه الإصَابَة: عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان رجلٌ من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم منَ الأنصارِ يُكنى أبا المعلَّق وكانَ تاجرًا يَتْجَرُ بمالٍ لهُ ولغَيرِه، وكانَ تَقيًّا وَرِعًا، خَرجَ مرّةً فلَقِيَه لِصٌ (كافرٌ) مُقنَّعٌ بسِلاحٍ (أي ومعَه سلاح) فقال له: ضَع ما معَك فإنّي قاتِلُكَ: قال: مَا تُرِيدُ إلا دَمِي ؟! خُذِ المال، قال: أمّا المالُ فَلِي ولَستُ أُرِيدُ إلا دَمَكَ.
قال: أمّا إذْ أَبَيتَ فذَرْني أُصَلّي أَربَعَ ركَعَاتٍ، فكَانَ مِن دُعائِه في آخِرِ سَجدَةٍ لهُ أن قال: يا وَدودُ يا ذا العَرشِ المجِيدِ يَا فعّالًا لما يُريدُ أَسأَلُكَ بعِزّكَ الذي لا يُرَامُ ومُلكِكَ الذي لا يُضَامُ أن تَكفِيَني شَرَّ هَذا اللّصّ، يَا مُغِيثُ أَغِثْني يا مُغِيثُ أَغِثْني يا مُغِيثُ أَغِثْني، دعَا بها ثلاثَ مَرّاتٍ، فإذَا هوَ بفَارسٍ قَد أَقْبَل بيَدِه حَرْبَةٌ يَضَعُها بَينَ أذُنَي فَرَسِه، فلَمّا رأى اللّصَّ أَقْبَل نَحوَه فطَعنَه وقَتَلَه، ثم أَقْبَلَ إلى التّاجِر الصّالح فقال: قُم، قالَ: مَن أنتَ بأَبي أنتَ وأُمّي فقَد أغاثني اللهُ بكَ اليَوم، قال: أنَا مَلَكٌ مِن أهلِ السّماءِ الرّابِعَة، دَعَوتَ بدُعائك الأوّلِ فسُمِع لأبوابِ السّماءِ قَعقَعَةٌ أي صَوتٌ ثم دَعَوتَ بدعَائِكَ الثّاني فسُمِعتْ لأهل السّماء ضَجَّة، ثم دَعَوتَ بدعائك الثّالِث فقِيلَ لي: دُعَاءُ مَكرُوب، فسَأَلتُ اللهَ تعالى أن يُولّيَني قَتلَه، فأَذِنَ ليْ. ويُحمَلُ استِئذانُ الملَك رَبّه بقَتْل هذا اللّصّ قَاطِع الطَّريق على أنّه كانَ مِنَ الكَافِرينَ.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وأبو الشيخ عن عمر بن يونس اليمامي قال : بلغني أن يعقوب عليه السلام كان أحبَّ أهلِ الأرضِ إلى مَلَكِ الموت وأنّ مَلَكَ الموتِ استَأذَن ربَّه في أن يأتي يعقوبَ عليه السلام فأذِنَ لهُ فجاءَهُ، فقالَ لهُ يَعقُوبُ علَيه السّلام : يا مَلَكَ الموتِ أَسأَلُكَ بالذي خلقَكَ : هل قَبضتَ نَفْسَ يوسُفَ فِيمَنْ قَبَضْتَ مِنَ النُّفُوس ؟ قال: لا ، قال لهُ ملَكُ الموت : يا يعقوبُ ألا أُعَلِّمُكَ كلِماتٍ لا تَسأَلُ اللهَ شَيئًا إلا أعطَاكَ ؟ قال : بلَى
قالَ : قل : يا ذَا المعرُوفِ الذي لا يَنقَطِعُ أبَدًا ولا يُحصِيْهِ غَيرُكَ
فدَعا بها يعقُوبُ عليه السّلام في تلكَ اللّيلةِ فلَم يَطْلَع الفَجر حتى طُرِحَ القَمِيصُ على وَجْهِه فارتَدَّ بَصِيرًا. رواه في السيوطي في الدر المنثور.
ورُوِيَ أنّ يعقوبَ علَيه السّلام رأَى مَلَكَ الموتِ في مَنامِه فسَألَه هل قَبَضتَ رُوحَ يُوسُفَ فقال : لا واللهِ هوَ حَيٌّ فَاطْلُبْهُ، وعَلَّمَهُ هَذا الدُّعاءَ يَا ذَا المعروفِ الدّائمِ الذي لا يَنقَطِعُ مَعرُوفُه أبدًا ولا يُحصِيْهِ غَيرُكَ فَرِّجْ عَني. رواه النسفي في تفسيره.
اللهم بك استفتح وبك استنجح وبمحمد نبينا صلى الله عليه وسلم إليك أتوجه اللهم ذلل لي صعوبته وسهل لى حزونته وارزقنى من الخير أكثر مما أرجو واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف
https://www.islam.ms/ar/?p=514