خطبة الجمعة كيفية التوبة من الذنوب
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ للهِ نَحْمَدُهُ ونسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ. وأشهدُ أنْ لا إلـهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لَهُ، خلَقَ العرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ ولم يَتَّخِذْهُ مَكانًا لِذَاتِهِ، جَلَّ ربي لا يُشْبِهُ شيئًا ولا يُشْبِهُهُ شىءٌ ولا يَحُلُّ في شىءٍ ولا يَنْحَلُّ منهُ شَىءٌ، ليسَ كَمِثْلِهِ شىءٌ وهوَ السَّميعُ البَصيرُ. وأشهدُ أنَّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعينِنَا محمّدًا عبدهُ ورسولهُ وصفيُّه وحبيبُه، طِبُّ القلوبِ ودواؤُهَا وعافِيَةُ الأبْدانِ وشِفَاؤُها، ونُورُ الأبصارِ وضِياؤُها صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى كلّ رسولٍ أَرْسَلَهُ
يقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَـٰئِكَ يَتُوبُ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [سورة النساء آية 17].
إخوة الإيمان لقد جعل الله تبارك وتعالى التوبة بين عباده تطهيرًا من الذنوب، والشرط فيها أن تكون في الوقت الذي تقبل فيه، لأن هناك أوقاتًا لا تُقبل فيها التوبة، منها طلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض وهما من علامات الساعة الكبرى فمن أراد التوبة في ذلك الوقت فلا تقبل منه، وكذلك من وصل إلى حالة اليأس من الحياة كأن أدركه الغرق مثلاً كما حصل مع فرعون لما لحق موسى عليه السلام في البحر فإنه لما أيقن الهلاك بعد أن رأى البحر يلتطم عليه قال آمنت، كما أخبر الله في القرآن: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾[سورة يونس آية 90] ولكنّ الله ما قبل توبته كما أخبر الله في القرءان: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾[سورة يونس آية 91].
وكذلك من رأى ملك الموت عزرائيل عليه السلام يبشره بالعذاب لا تقبل منه توبة.
وقد قال تعالى في القرءان الكريم: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [سورة النساء آية 18].
فالتوبة تقبل في الوقت الذي تكون مقبولةً فيه، فمن تاب توبةً صادقة بأن أقلع عن الذنب وندم عليه وعزم على أن لا يعود إليه فإن الله تعالى يقبل توبته فقد قال عليه الصلاة والسلام: « التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كمَن لا ذنْبَ لهُ » حديثٌ صحيحٌ رواهُ ابنُ ماجَه عن ابنِ مَسعُودٍ.
وتجبُ التوبة من الذنوب فورًا على كل مكلف وهي الندم والإقلاعُ والعزمُ على أن لا يعود إليها وإن كان الذنبُ تركَ فرض قضاهُ أو تبعة لآدمي قضاه أو استرضاه.
التوبة معناها الرجوع وهي في الغالب تكون من ذنب سبق للخلاص من المؤاخذة به في الآخرة وقد تطلق التوبة لغير ذلك وذلك كحديث: « إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وأَتُوبُ إِلَيْهِ في اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ »، وكذلك الاستغفار في الغالب يكون من الذنب الذي وقع للخلاص من المؤاخذة به في الآخرة وقد يكون لغير ذلك، وقد ورد ذكر الاستغفار في القرءان بمعنى طلب محو الذنب بالإسلام وذلك كالذي ذكره الله تعالى في القرءان عن نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠)﴾ [سورة نوح] فإن قومه الذين خاطبهم بقوله: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ مشركون فمعناه اطلبوا من ربكم المغفرة بترك الكفر الذي أنتم عليه بالإيمان بالله وحده في استحقاق الألوهية والإيمان بنوح أنه نبي الله ورسوله إليكم.
ثم إن التوبة واجبةٌ من الكبيرة ومن الصغيرة عينًا فورًا ولها أركان فالركن الذي لا بدّ منه في النوعين أي نوع المعصية التي لا تعلق لها بحقوق بني ءادم أي تبعتهم والنوع الذي له تعلّق بحقوق بني ءادم هو النَّدَمُ أَسَفًا عَلَى ترك رِعَايَةِ حَقِّ اللهِ: فالنَّدَمُ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ، كَعَارٍ، أَوْ ضَياعِ مَالٍ، أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَقْتُولِهِ وَلَدَهُ لا يُعْتَبَرُ، فالنَّدَمُ هُوَ الرُّكْنُ الأَعْظَمُ لأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالقَلْبِ وَالْجَوارِحُ تَبَعٌ لَهُ.
والأمر الثاني الإقلاع عن الذنب في الحال.
والأمر الثالث العزم على أن لا يعود إلى الذنب، فهذه الثلاثة هي التوبة المجزئة. وأمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتي حَصَلَت بِتَرْكِ فَرْضٍ فَيُزَادُ فِيهَا قَضَاءُ ذَلِكَ الفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ صَلاةً أَوْ نَحْوَهَا قَضَاه فَوْرًا، وَإِنْ كَانَ تَرْكَ نَحْوِ زَكاةٍ وَكَفَّارَةٍ ونَذْرٍ مَعَ الإمْكانِ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ تَوْبَتِهِ عَلَى إِيصَالِهِ لِمُسْتَحِقِّيهِ، أي فيُخْرِجُ الزَّكاةَ وَالكَفَّارَةَ وَيَفِي بِالنَّذْرِ، وَإِنْ كانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَبِعَةً لآدَمِيٍّ رَدَّ تِلْكَ الْمَظْلَمَةَ، فَيَرُدُّ عَيْنَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ باقِيًا، وإلا فإن تلِف يرد بدله لمالكه أو نائب المالك أو لوارثه بعد موته.
فائدة: روى البخاري في الصحيح مرفوعًا: « مَنْ كَانَ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ في عِرْضٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَسْتَحِلَّهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يَكُونَ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ »، فَإنه إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ أُخذ منه يوم القيامة بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِلاّ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، إلا أن يوفي الله عنه من خزائنه. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذي عَلَيْهِ قِصَاصًا مَكَّنَ الْمُسْتَحِقَّ مِنِ اسْتِيفَائِهِ مِنْهُ، أَيْ يَقُولُ لَهُ: مثلاً خُذْ حَقَّكَ مِنِّي أَيْ إن شئت اقْتُلْنِي، وإِنْ شِئْتَ فاعْفُ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنَ الأَمْرَيْنِ صَحَّت التَّوْبَةُ. وَلَوْ تَعَذَّرَ وُصُولُهُ إِلى الْمُسْتَحِقِّ نَوَى تَمْكِينَهُ إِذا قَدَرَ.
فائِدَةٌ: لا يُشْتَرَطُ الاسْتِغْفارُ اللِّسانِيُّ أَيْ قَوْلُ: "أسْتَغْفِرُ اللهَ" لِلتَّوْبَةِ، وَقَوْلُ بَعْضٍ بِأَنَّهُ شَرْطٌ غَلَطٌ فاحش سَوَاءٌ جَعَلَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَوْ جَعَلَهُ خَاصًّا بِبَعْضِ الذُّنُوبِ.
وقد روي عن السيد الجليل الولي الكبير مالك بن دينار رضي الله عنه أنه سُئِلَ عن أصل توبته، فقال: ولد لي بنت فشغفت بها فلما دَبّت على الأرض ازدادت في قلبي حبًا وألفتني، فكنت إذا وضعت المسكر جاءت اليَّ وجاذبتني إياه وهرقته على ثوبي، فلما تمَّ لها من العمر سنتان ماتت، فأكمَدَني الحُزنُ عليها، ولما كانت ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة جمعة بيَّتُّ ثَمِلاً من الخمر ولم أصَلِّ العشاء.
فرأيت في منامي كأن أهل القبور قد بعثوا وحشر الخلائق وأنا معهم، فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتًا من ورائي فالتَفَتُّ فإذا أنا بتنين عظيم (أي ثعبان كبير) أعظم ما يكون، أسود أزرق وقد فتح فاه مسرعًا نحوي، فمررت من بين يديه هاربًا فزعًا مرعوبًا فمررت في طريقي بشيخ نقي الثياب جميل الخلقة طيب الرائحة، فسَلَّمتُ عليه فردَّ علي السلام، فقلت له أجرني وأغثني فقال أنا ضعيف وهذا أقوى مني ولا أقدر عليه، ولكن مُرَّ بأسرع فلعلَّ الله سبحانه يسبب لك ما ينجيك منه، فوَلَّيتُ هاربًا على وجهي فصعدت على شرف من شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فنظرت إلى هولها فكدت أهوي فيها من فزع التنين وهو في طلبي، فصاح بي صائح إرجع فلست من أهلها، فاطمأنَّيتُ إلى قوله ورَجَعتُ، ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ، سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين (أي أولاد المسلمين الذين يموتون وهم صغار) فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك، فنظرت إلى جبل مستدير فيه كوى مخرقة، وستور معلقة وعلى كل كوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة باليواقيت مكوكبةٍ بالدُّر، وعلى كل مصراع سترٌ من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل هربت إليه والتنين ورائي حتى إذا اقتربت من الجبل .
صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا فلعلَّ لهذا البائس فيكم وديعة تجيرُه من عدوّه، فإذا الستور قد رُفعت والمصاريع قد فتحت وأشرف عليَّ أطفال بوجوه كالأقمار، واقترب التنين مني فتحيرت في أمري، فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم فقد قرب منه، فأشرفوا فوجًا بعد فوج وإذا بابنتي التي ماتت قد أشرفت عليَّ معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله، ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى مثلت بين يديّ، فمدّت يدها اليسرى إلى يدي اليمنى فتَعَلَّقتُ بها، ومدّت يدها اليمنى إلى التنين فولّى هاربًا، ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى على لحيتي وقالت: يا أبتِ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ ﴾ [سورة الحديد آية 16]. فبكيت وقلت يا بنية أنتم تعرفون القرءان ؟ فقالت: يا أبت نحن أعرف به منكم، قلتُ فأخبريني عن هذا التنين الذي أراد أن يهلكني، قالت : ذلك عملك السوء قويته عليك حتى أراد أن يغرقك في نار جهنم (معناه طلع له عمله السوء بصورة ذلك التنين الذي كاد أن يهلكه لأن عمل السوء يؤدي بصاحبه إلى المهالك).
قال: قلت فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي، قالت: هو عملك الصالح أضعفته حتى لم يكن له طاقة لعملك السوء.
قلت: يا بنية: وما تضعون في هذا الجبل، قالت: نحن أطفال المسلمين أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة ننظركم تقدمون علينا فنشفع لكم.
قال: فانتبهتُ من نومي فزعًا مرعوبًا، فلما أصبحت فارقت ما كنت عليه، وتبت إلى الله عزَّ وجل، وهذا سبب توبتي.
أيها الأحبة الكرام إن الله تعالى قد يظهر للإنسان عبرًا أو بشارة أو إنذارًا يكون سببًا لتوبته، فالعبر كثيرة ولكنَّ الاعتبار قليل، فلنبادر إلى التوبة قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم ولنجعل هذا الشهر الكريم شهر رمضان المبارك شهر التوبة والطاعة والتزود للآخرة، ولنبادر إلى تعلم ما افترض الله تعالى على عباده فإن طلب العلم هو خير ما تصرف فيه الأوقات فإن الله تعالى ما أمر نبيَّه في القرءان الكريم بطلب الازدياد من شىء إلا من العلم فقال تعالى : ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [سورة طه آية 114].
وقال عليه الصلاة والسلام: « لا يشبع مؤمنٌ من خيرٍ يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة ».
فبادروا أيها الأحبة إلى حضور مجالس العلم التي تكثر في رمضان في المساجد والبيوت، فيتعلم فيها المرء ما يحِلُّ وما يحرم ويقضي فيها وقته في طاعة هي من أجلّ الطاعات وعمل هو من أنفس الأعمال وتذكروا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « ما من مسلم يأتي المسجد ليس له همةٌ إلاَّ أن يتعلم أو يعلم إلا كان له أجرُ حجة وعمرة تامتين ».
الحمد لله رب العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=299