خطبة جمعة: جواز الاحتفال بمولد النّبي محمد صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرَّف قَدْر نبيه محمدٍ وَوَقَّره توقيرًا، ونوَّر به الأكوان تنويرًا ، والصلاةُ والسلام على سيّدناَ مُحَمَّد الذي أرسله الله بشيراً ونذيراً، وجعله داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً.
في شهر ربيع الأول شع نور النبي محمدٍ عليه الصلاة والسلام والاحتفالات تـتوالى والخطب في مدح نبينا عليه الصلاة والسلام تـتكاثر والأناشيد والأشعار في مدح خير البرية تعلو بـها حناجرُ المنشدين مرددة : يا خيرَ من دُفِـنَت في التُـربِ أعـظُمُـه فـطابَ من طِيبهـنَّ القـاعُ والأكــمُ نَفـسي الفـداءُ لقـبرٍ أنـتَ سـاكـنُـه فيـه العفـافُ وفيـهِ الـجـودُ والكَـرَمُ.
أيها الأحبة المسلمون، نعيش في نسمات خير، نعيشُ في ذكرى ولادةِ سيدنَا محمدٍ رسولِ الله صلواتِ ربي وسلامهُ عليه، وفي ذكرى مَولدِهِ عليه الصلاةُ والسلام لا بُدَّ لنا نحنُ أهلُ الحـقِ المؤمنون بالكتابِ والسُنة من أن نُبينَ للعامةِ والخَاصةِ من الناس مَشروعيةَ الاحتفالِ بالمولد النبوي الشريف.
ولبيان مشروعية هذا الأمر لا بد أن يُعلَمَ أنَّ البِدعةَ في الشرعِ هي الـمُحدَثُ الذي لم ينصَّ عليه القُرءانُ ولا جَاء في السنة ، قال ابنُ العربي : ليست البدعةُ والمحدَثةُ مَذمومَينِ للفظ بدعةٍ ومُحدَثٍ ولا معناهما، وإنما يُذمُّ من البِدعة ما يُخالِفُ السنة، ويُذم من الـمُحدثاتِ ما دَعا إلى الضلالة.
فالبِدعةُ إذن تَنقَسِمُ إلى قسمين :
بِدعةُ ضَلالةٍ : وهي الـمُحدثةُ الـمُخالفةُ للقرءانِ والسنة.
وبِدعةُ هُدى : وهي الـمُحدثَةُ الموافقة للقرءانِ والسنة.
وهذا التقسيمُ مفهومٌ من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » ورواه مسلم بلفظٍ ءاخر وهو « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أَمرنا فهو رد ». فأفهم رسول الله بقوله صلى الله عليه وسلم : « ما ليس منه » أنَّ الـمُحْدثَ إنما يكون رداً أي مَردوداً إذا كان على خلافِ الشريعةِ وأنَّ المحدَث الموافقَ للشريعة ليس مردوداً . وهو مفهوم أيضاً مما رواه مسلم في صحيحه من حديثِ جَرير بنِ عبدِ اللهِ البَجْلي رضي الله عنه أنه قالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيَّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِـهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ ».
وقالَ الإمامُ الشافعيُّ رضيَ الله عنه في كتابه الأم : « البِدعةُ ضَربان : بِدعةُ هُدى وبِدعةُ ضَلالة » ، وروى البيهقيُ بإسناده في مناقبِ الشافعي عنِ الشافعي رضي الله عنه قالَ : « الـمُحدثاتُ من الأمور ضَربان : أحدُهُما ما أُحدِثَ مِما يُخالف كتاباً أو سُنةً أو أثراً أو إجماعاً ، فهذه البدعةُ الضلالة ، والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحدٍ من هذا وهذه مُحدَثةٌ غيرُ مَذمومُة ».
وقال النووي في كتاب تـهذيب الأسماء واللغات ما نصه : « البِدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مُنقسمة إلى حَسَنةٍ وقبيحة ». فعُلِمَ من ذلك جَوازُ أن يحدَث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شىءٌ لم يَنصَّ عليه النبي ولا فَعلَه شرطَ أن يكون مُوافقاً للكتاب والسنة والإجماع والأثر ، والقاعدة كما قال سيدُنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : « ما رءاه المسلمون حَسَناً فهو عند الله حسنٌ وما رءاه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيحٌ ».
فلمَّا قسَّم العلماء أهلُ الحقِ البِدعةَ إلى قِسمين بِدعةُ ضلالةٍ وبِدعة هُدى كان لا بد أن نقدم بعض الأمثلة عنها : فبدع الضلالة منها ما يتعلق بأصول الدين أي أنـها بِدَعٌ عقائدية مخالفة لما كان عليه الصحابة في المعتقد كبدعة المعتزلة في إنكارهم للقدر وبدعة الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي ويُكفّرون مرتكبَ الكبيرة وبِدعة المجسمة في تشبيههم الله بخلقِه ، ومن البِدع الضلالة ما يتعلق بالفروع أي أنـها بِدع عملية سيئة ككتابة بعضهم (ص) عند كتابة اسم النبي وأسوأ منها وأقبح كتابة (صلعم) ، ومنها تيممُ بعضُ الناس على السجاد والوسائد التي ليس عليها غبار التراب ، ومن البدع السيئة كذلك تحريف اسم الله بلفظ " اللاّ " أو بقول " آه ".
وممّا يدلّ على أنّه ليس كلّ ما أُحدِثَ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في حياته مما لم ينصّ عليه بدعة ضلالة إحداث خُبَيْبُ بنِ عَدِي ركعتين عندما قُدِّمَ للقتل ، وخُبيبُ رجلٌ من أولياء الصّحابة لما أسره الكفّار ليقتلوه بثأرٍ لَهم لأنه كان قَتلَ أحد أكابرهم من مُشركي مكّة في معركة بدرٍ قال لهم لَمّا ساقوه ليقتلوه : أمهلُوني حتى أصلّي ركعتين فصلّى ركعتين ثم هُمْ قتلوه ، قبل ذلك ما أحدٌ فعل هذا غير هذا الصّحابيّ ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : فَكَانَ خُبيْبُ أَوَّلَ مَن سَنَّ رَكْعَتَينِ عِندَ القَتْلِ. فأعجب هذا الأمر الصّحابةُ والرسولُ صلى الله عليه وسلم بلَغَهَ فما أنكره ، ما قال أنا ما قلتُ له ، ما قلت لأحدٍ إذا قدّم للقتل ليصلّ ركعتين.
وكذلك مما يدلّ على أن الشىءَ الـمُحدَثَ إذا كان موافقاً للشّريعة فليس مردوداً جمع النّاس على صلاة التراويح في رمضان وكانوا في أيّام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّونـها فرادى وقال عمر عن ذلك : « نِعمَ البِدعَةُ هَذِهِ » ، وقد روى ذلك عن عمر البخاري في صحيحه وفي الموطأ بلفظ « نِعمَتِ البِدعَةُ هَذِهِ ».
وكذلك من البدع الحسنة زيادة عثمان بن عفّان رضي الله عنه أذاناً ثانياً يوم الجمعة ، فهذه بدعة أحدثها عثمان بن عفّان رضي الله عنه فسيّدنا عثمان أحدث أذاناً ثانياً يوم الجمعة ولم يكن هذا الأذان الثاني في أيّام رسول لله صلى الله عليه وسلم ، وما زال النّاس على هذا الأذان الثاني يوم الجمعة في مشارق الأرض ومغاربـها ، وقد روى ذلك عن عثمان البخاريُّ في صحيحه فالذين يقولون ليست هناك بدعة حسنة ، الذين يقولون لا تكون البدعة إلا بدعة الضلالة هل سَيقتصرون على أذان واحد يوم الجمعة كما كان الأمر أيّام رسول الله صلى الله عليه وسلم أم يؤذنون أذانين كما فعل عثمان ، فما هذا التناقض بين فعلهم وقولهم ! .
إخوة الإيمان ، كذلك مما يدلّ على أنّه ليس كلّ ما لم يفعله الرسول هو مردود تنقيط المصاحف ، فالصّحابة الذين كتبوا الوحي الذي أملاه عليهم الرسول كانوا يكتبون الباء والتاء ونَحْوَهُمَا بِلاَ نُقَطٍ ثم عثمان بن عفّان لما كتب ستّ مصاحف وأرسل ببعضها إلى الآفاق إلى البصرة ومكّة وغيرهما واستبقى عنده نسخة كانت غير منقوطة ، وإنما أوّل من نقط المصاحف رجل من التابعين من أهل العلم والفضل والتقوى يقال له يحي بن يعمر ، وكان قبل ذلك يكتب بلا نقط فلمّا فعل هذا لم ينكر العلماء عليه ذلك مع أن الرّسول ما أمر بنقط المصحف.
فالذي يقول كلّ شىء لم يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة ضلالة فليبدأ بكشط النقط من المصاحف وهل يتجرأ إنسان أن يقول أن هذا العمل مردود لأن الرسول لم يفعله نعوذ بالله من هذا الكلام .
وكذلك المحاريب المجوّفة هي من البدع الحسنة ، فهذه المحاريب المجوّفة لم تكن في زمن الرسول ، فلقد عمل محراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسعين سنة ، قبل ذلك ما كان له محراب وما زال المسلمون يعملونـها في المساجد حتى يومنا هذا .
إخوة الإيمان ، من البدع الحسنة كتابة « صلى الله عليه وسلم » عند كتابة اسم النَّبِيِّ . العلماء أحدثوا كتابة « صلى الله عليه وسلم » عند كتابة اسمه ، أيام الرّسول ما كان هذا ، ولم يكتب ذلك النَّبيُّ في رسائله التي أرسل بـها إلى الملوك والرؤساء ، وإنّما كان يكتب من محمّد رسول الله إلى فلان ، وكتب الرّسول التي أملاها على الصّحابة والتي أرسل بـها إلى الملوك ليدعوهم إلى الإسلام كهرقل ما كان فيها « صلى الله عليه وسلم » . إذاً إضافة « صلى الله عليه وسلم » سُنَّة حسنة أحدثها العلماء مما لم يفعله الرَّسول ، فهذه البدعة تدخل تحت حديث الرَّسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : « منْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِـهَا مِنْ غَيْـرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىءٌ ».
والذي ينكر الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوى أن الرّسول ما فعله ولا أمر به يقال له : أنتم ونحن نكتب عند كتابة اسم النّبيّ « صلى الله عليه وسلم » أنتم تكتبون كما نحن نكتب والرّسول ما قاله ولا الصّحابة فكيف تحلّلون هذا وهو ممّا لم يفعله الرّسول ولا قال افعلوا وتنكرون الطريقة والمولد بدعوى أن الرّسول لم يفعله ولا قال افعلوا ، بـهذا يُفحمون ، لا حُجّة لهم إلا العناد ، يقال لهم : أنتم مُتحكّمون لا تمشون مع الدليل إنما تمشون مع هواكم .
فتبين لكم أيها الأحبة من هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة فلا وجه لإنكاره ، بل هو جدير بأن يسمى سنة حسنة لأنه من جملة ما شمله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىءٌ » اللهم انفعنا ببركات نبيك الكريم واجعلنا من أتباعه المخلصين .
إخوة الإيمان ، الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من البدعة الحسنة ، فهذا العمل لم يكن في عهد النبيّ ولا في زمن الصّحابة وإنّما إقامة الاحتفال بذكرى مولد الرسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في أوائل القرن السابع للهجرة ، وأوّل من أحدثه ملك إربل ، وكان عالما تقياًّ محباًّ للرّسول صلى الله عليه وسلم وللعلماء وكان شجاعا يقال له المظفَّر ، فأظهر الفرح بمولد الرّسول صلى الله عليه وسلم وعمل لذلك احتفالا كبيرا فكان يجمع لهذا كثيرا من الفقهاء والمحدثين ويتلى القرءان ويقرأ المولد وتزين البلاد وتذبح الذبائح وتصنع الحلوى لإطعام المسلمين . فوافق على عمل المولد العلماء والفقهاء ولم يزل ذلك معمولا إلى هذا العصر . قال ابن كثير في تاريخه ما نصه : « كَانَ المَلِكُ المُظَفَّرُ يَعْمَلُ المَوْلِدَ الشَرِيفَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احتِفَالاً هَائِلاً وَكَانَ شَهْماً بَطَلاً عَالِمًا رَحِمَهُ الله تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثوَاهُ ».
إذا لقد استحسن عمل المولد العلماء في مشارق الأرض ومغاربـها ، ومن هؤلاء العلماء أحمد بن حجر العسقلاّني وتلميذه الحافظ السَخاوي وكذلك الحافظ السّيوطي . والحافظ السّيوطي عمل رسالة لبيان مشروعية هذا الأمر سمّاها : « حُسنُ المَقْصِدِ فِي عَمَلِ المَولِدِ " قال فيها : " فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول ما حكمه من حيث الشرع ؟ وهل هو محمود أم مذموم ؟ وهل يثاب فاعله أو لا ؟ والجواب عندي : أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرءان ، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يُمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف » وقال أيضا : " وقد استخرج له –أي المولد- الإمام الحافظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلا من السنة ، واستخرجت له أنا أصلا ثانيا ".
وقد ذكر الحافظ السخاوي في فتاويه أن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة الأولى. ثم مازال أهل الإسلام من سائر الأقطار في المدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم.
إخوة الإيمان ، إن الاحتفال بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بدعة حسنة يثاب فاعلها لأنـها توافق الشريعة ولا تحتوي على ما يخالف القرءان والسنّة وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَمِ سُنَّةً حسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِـهَا » ، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربـها يحتفلون بمولده الشريف رجاء أن ينالوا من الله شيئاً من بركاته صلى الله عليه وسلم ، و لا ريب أن إظهار الفرح و السرور و البهجة و تلاوة القرءان و إنشاد المدائح النبويّة و تلاوة سيرة الرسول في ذكرى ولادته لبيان عظم قدره عليه الصّلاة والسلام شىء يحبّه الله ورسوله ، و الاحتفال بالمولد فيه إظهار الفرح بسيّد العالمين صلى الله عليه وسلم ، كذلك الاحتفال بالمولد فيه شكر الله على إظهار هذه النّعمة العظيمة نعمة بروز الرّسول إلى هذه الدّنيا و فيه تعظيم للرّسول صلى الله عليه وسلم.
وما كان استحسان هؤلاء العلماء من الفقهاء والمحدثين لهذا الأمر إلا لأنـهم وزنوا الأمور بميزان الشرع لا بميزان الهوى فلم يجدوا فيه مخالفة للشرع : ففي الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا المسلمون ما تيسر من القرءان الكريم وفي ذلك موافقة للشرع ، وفيه يقرؤون قصة مولد النبي الشريف وقصة حياته وما فيهما من دروس وعبر تجعل في قلوب المؤمنين ثباتا أكبر وهمة أعلى متدبرين في ذلك قول الله عزّ وجلّ : « وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل ما نثبتُ بِهِ فُؤَادَكَ » [سورة هود آية 120] ، وفي المولد يمدح المسلمون نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم وفي هذا أيضا موافقة للشرع ، فالله مدح نبيه محمدا في كثير من الآيات كقوله تعالى : « وإنك لعلى خلق عظيم » [ سورة القلم آية 4] ، والنبي مدح نفسه فقال عليه الصلاة والسلام : :« أنا سيد الناس » وفي حديث ءاخر : « أنا سيد ولد ءادم يوم القيامة ولا فخر » ، والاستماع للحادي في المدح جائز لا شىء فيه ، ففي صحيح البخاري كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر عن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ قال : وكان عامر رجلا شاعرا فـنـزل يحدو بالقوم يقول : اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ثم إنه ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال : « ذاك يوم ولدت فيه وفيه أنزل عليّ » وفي هذا الحديث إشارة إلى استحباب صيام الأيام التي يتجدد فيها نعم الله على عباده ، وإن من أعظم النعم التي أنعم الله بـها علينا هي إظهاره صلى الله عليه وسلم وبعثته وإرساله إلينا ، وهذا دليل من قوله تعالى : « لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم » [سورة ءال عمران آية 164] ثم لا يخفى على أحد من ذوي العقل ما يحصل من البركات والخيرات من جراء الاحتفال بمولد سيد الكائنات ، فتبين لكم أيها الأحبة من هذا أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة فلا وجه لإنكاره ، بل هو جدير بأن يسمى سنة حسنة لأنه من جملة ما شمله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىءٌ » اللهم انفعنا ببركات نبيك الكريم واجعلنا من أتباعه المخلصين.
من مئات السنين جرت عادة المسلمين على الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر ، وأول من عَملَه هو الملك المظفّر (تزوّج أخت صلاح الدّين الأيُّوبي) ودعا خلقًا كثيرًا من العلماء ورجال الدولة وغيرهم فأعجَب الكُلّ. فوافق عليه العلماء والفقهاء ، ولم يزل ذلك معمولا به إلى هذا العصر ، وكان من أشد الناس عناية به أهل مكة والمدينة وأهل مصر. وهذا لا ينكره ذو فهم بالدين لأن الرسول عليه السلام قال : « من سنّ في الإسلام سُنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بِها بعده ». عملاً بِهذا الحديث نعمل هذا الاحتفال. وذلك الملك الذي هو أول من عمله نرجو له من الله أجراً كبيراً لأنه طبّق هذا الحديث . وليس كما يزعمه بعض الناس أن هذه بدعة قبيحة وليس عند هؤلاء حجة سوى قولهم : ما فعله الرسول ، ما فعله الصحابة. وكم من أشياء يعملونها لم يفعلها الرسول ، من ذلك عمل المحارب للمساجد ، فالرسول ما عمل محرابا لمسجده بل عُمِلَ لمسجده محراب بعد تسعين عاماً ، والقرءان الكريم ما كان فيه همزة ولا شدَّةَ عندما أملاه الرسول على الصحابة بل كانت المصاحف مجَرّدَة. ثم بعض العلماء الأتقياء عَمِلَ هذه الأشياء من التنقيط والتشكيل والشدّة والهمزة ، وهذه لا ينكرها هؤلاء ، أما عمل المولد فينكرونه ، بدون دليل يستحسنون هذا ويحرّمون ذاك.
ونحن نرجو من الله تعالى الأجر لمن يقوم بِهذا الاحتفال وللحاضرين إذا دُعُوا إليه . ونحن عندنا الاحتفال بالمولد فيه أجر ، إذ نحن جماعة من أهل السنة نتبع من قَبلَنا من السلف والخلف ، نحن مع مئات الملايين من المسلمين الذين ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ
https://www.islam.ms/ar/?p=320