تفسير فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين
قوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [سورة البقرة آية 115] قال بن عباس أي قبلة للصلاة النّافلة للذي يركب الدّابة. أمّا في صلاة الفرض لا بد من الاجتهاد والتحرِّي لمعرفة القبلة. أنظر: استقبال الكعبة فرض لصحة الصّلاة
قال الله تعالى: ﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ سورة البقرة.
هذه الآية نزلت في أمر يختص بالصلاة وهو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة، وظاهر قوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر. وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعًا يومئ برأسه نحو المدينة، فمعنى الآية: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم: ﴿ فَثّمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ فقد صادفتم المطلوب، قال مجاهد تلميذ ابن عباس: « فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي قبلة الله » رواه البيهقي في الأسماء والصفات. ﴿ إنَّ اللهَ وَاسِعٌ ﴾ الفضل غني، فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة، بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج، فبخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرَج.
وقد عدّ محمّد بن أحمد القرطبيّ المالكي في تفسيره المسمى الجامع لأحكام القرءان ستة وجوه في تفسير هذه الآية وقال بعد تعداد هذه الوجوه: ولا يجوز لأحد أن يَدَعَ القبلة عامداً بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف إهـ.
و المعتمد في تفسيرها أن وجه الله معناه هنا “قبلة الله” أي أن المسافر على الراحلة يجوز له أن يصلي النافلة وهو راكب على دابته مستقبلاً وجهة سفره إن كانت جهةَ الكعبة أم لا. وفي البخاري عن مجاهد تلميذ ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ قبلة الله.
على مثل هذا حملها مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما وبه أخذ الإمام الشافعي رحمه الله. بل روى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي و هو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه. قال و فيه نزلت ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ إهـ. ولذلك لم يختلف الأئمة في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث.
قال الطبري (ت 310 هـ) في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن: ﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [سورة البقرة آية 115] يعنـي جل ثناؤه بقوله: ﴿ ولِلَّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ ﴾ لله ملكهما وتدبـيرهما، كما يقال: لفلان هذه الدار، يعنـي بها أنها له ملكاً، فذلك قوله: ﴿ ولِلَّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ ﴾ يعنـي أنهما له ملكاً وخـلقا. والـمشرق: هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال لـموضع طلوعها منه مَطْلِع بكسر اللام، وكما بـينا فـي معنى الـمساجد آنفـاً.
خصّ الله جل ثناؤه ذلك بـالـخبر من أجل أن الـيهود كانت توجه فـي صلاتها وجوهَها قِبَلَ بـيت الـمقدس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة، ثم حُوِّلوا إلـى الكعبة، فـاستنكرت الـيهود ذلك من فعل النبـيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: ﴿ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا ﴾ فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: الـمشارق والـمغارب كلها لـي أُصرِّفُ وجوه عبـادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلُّوا فثم وجه الله. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قال: كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما هاجر إلـى الـمدينة، وكان أكثر أهلها الـيهود، أمره الله عزّ وجلّ أن يستقبل بـيت الـمقدس، ففرحت الـيهود، فـاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيـم علـيه السلام فكان يدعو وينظر إلـى السماء، فأنزل الله تبـارك وتعالـى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِـي السَّمَاءِ ﴾ إلـى قوله: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾فـارتاب من ذلك الـيهود، وقالوا: ﴿ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ التـي كانُوا عَلَـيْهَا ﴾ فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿ قُلِ لِلَّهِ الـمَشْرِقُ وَالـمَغْرِبُ ﴾ وقال: « أيْنَـما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ».
وقال آخرون: نزلت هذه الآية علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم إذنا من الله عز وجل له أن يصلـي التطوّع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، فـي مسيره فـي سفره، وفـي حال الـمسايفة، وفـي شدّة الـخوف، والتقاء الزحوف فـي الفرائض. وأعلـمه أنه حيث وجه وجهه فهي قبلة، بقوله: ﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.
قال القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره الجامع لاحكام القرآن: ٱختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} على خمسة أقوال: فقال عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلّى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة ؛ أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلة مظلمة فلم نَدْر أين القِبلة، فصلّى كل رجل منّا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يُضعَّف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا ؛ قالوا: إذا صلّى في الغيم لغير القِبلة ثم ٱستبان له بعد ذلك أنه صلّى لغير القبلة فإن صلاته جائزة ؛ وبه يقول سفيان وٱبن المبارك وأحمد وإسحٰق.
قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكاً قال: تُستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه ؛ لأنه قد أدّى فرضه على ما أُمِر، والكمال يُستدرك في الوقت ؛ ٱستدلالاً بالسنة فيمن صلّى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم ؛ ولا يعيد في الوقت ٱستحباباً إلا من ٱستدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدًّا مجتهداً، وأمّا من تيامن أو تياسر قليلاً مجتهداً فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره. وقال المُغِيرة والشافعي: لا يحزيه ؛ لأن القِبلة شَرْط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح ؛ لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المُسايفة، وتبيحها أيضاً الرّخصة حالة السفر. وقال ٱبن عمر: نزلت في المسافر يتنّفل حيثما توجّهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه ؛ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو مُقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله.
ولا يجوز لأحد أن يَدَع القبلة عامداً بوجهٍ من الوجوه إلا في شدّة الخوف؛ على ما يأتي.
وٱختلف قول مالك في المريض يصلّي على مَحْمَله ؛ فمرَّةً قال: لا يصلّي على ظهر البعير فريضة وإن ٱشتدّ مرضه. قال سُحْنُون: فإن فعل أعاد ؛ حكاه الباجي. ومَرّةً قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماءً فلْيُصَلِّ على البعير بعد أن يوقَف له ويستقبل القبلة. وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلّي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة ؛ على ما يأتي بيانه.
وٱختلف الفقهاء في المسافر سفراً لا تقصر في مثله الصلاة ؛ فقال مالك وأصحابه والثَّوْرِي: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة ؛ قالوا: لأن الأسفار التي حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوّع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حَيّ واللّيث بن سعد وداود بن عليّ: يجوز التطوّع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا ؛ لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفرٍ من سفر، فكلّ سفرٍ جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له. وقال أبو يوسف: يصلّي في المصر على الدابة بالإيماء ؛ لحديث يحيى ابن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلّى على حمار في أزقّة المدينة يومىء إيماء. وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضراً كان أو مسافراً أن ينتفل على دابته وراحلته وعلى رجليه (بالإيماء). وحكى عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحَضَر والسَّفر. وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر ؛ فقال: أمّا في السفر فقد سمعتُ، وما سمعتُ في الحضر. قال ٱبن القاسم: من تنفّل في محمله تنفّل جالساً، قيامُه تربّع، يركع واضعاً يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه.
القول الرابع: قال ٱبن زيد: كانت اليهود قد ٱستحسنت صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا: ما ٱهتدى إلا بنا ؛ فلما حُوّل إلى الكعبة قالت اليهود: ما وَلاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؛ فنزلت: { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } فوَجْه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبّد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى بيت الْمَقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجّه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه، ولا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون.
القول الخامس: أن الآية منسوخة بقوله: { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ }[البقرة: 144] ذكره ٱبن عباس ؛ فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلّي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك. وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }[البقرة: 144] أي تلقاءه ؛ حكاه أبو عيسى الترمذي.
والحمد لله رب العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=132