تفسير سُورَة الحاقة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سورة الحاقة مكية في قول الجميع، وهي اثنتان وخمسون ءاية. ويقال لها أيضًا: سورة سأل سائل، ويقال لها: سورة الواقع.
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف / 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.
﴿الْحَاقَّةُ (١)﴾ يعني القيامة، سُميت حاقة من الحق الثابت يعني أنها ثابتة الوقوع لا ريب فيها.
﴿ما الحاقَّةُ (٢)﴾ ما استفهام لا يراد حقيقته بل المقصود منه تعظيم شأنها وتهويله أي ما هي الحاقة، ثم زاد في التهويل بأمرها فقال:
﴿وَمَا أَدْرَاكَ (٣)﴾ أي أعلمَك، أي لم تعاينها ولم تدر ما فيها من الأهوال ﴿مَا الْحَاقَّةُ (٣)﴾ زيادة تعظيم لشأنها ومبالغة في التهويل، والمعنى أن فيها ما لم يُدر ولم يُحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها.
ثم ذكر الله تعالى المكذبين بها فقال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ (٤)﴾ وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام ﴿وَعَادٌ (٤)﴾ وهم قوم سيدنا هود عليه السلام ﴿بِالْقَارِعَةِ (٤)﴾ أي بيوم القيامة، والقارعة اسم من أسماء يوم القيامة.
﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥)﴾ أي بطغيانهم وكفرهم، وقيل بالصيحة الشديدة المجاوزة في قوتها وشدتها عن حد الصيحات بحيث لم يتحملها قلب أحد منهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)﴾ [سورة القمر]، والمقصود من ذكر هذه القصص زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهؤلاء الأمم في المعاصي لئلا يحُل بها ما حل بهم.
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ (٦)﴾ باردة تحرِق ببردها كإحراق النار، وقيل الشديدة الصوت ﴿ عَاتِيَةٍ (٦)﴾ شديدة العصف تجاوزت في الشدة والعصوف مقدارها المعروف في الهبوب والبرد، فهم أي قوم عاد مع قوتهم وشدتهم لم يقدروا على ردّها بحيلة من الاستتار ببنيان أو الاستناد إلى جبل أو اختفاء في حفرة لأنها كانت تنزعهم عن أماكنهم وتهلكهم.
﴿سَخَّرَهَا (٧)﴾ أي سلطها الله وأدامها ﴿ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا (٧)﴾ أي متتابعة دائمة ليس فيها فتور وذلك أن الريح المهلكة تتابعت عليهم في هذه الأيام فلم يكن لها فتور ولا انقطاع حتى أهلكتهم، وقيل: كاملة ﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ (٧)﴾ يعني قوم عاد ﴿ فِيهَا (٧)﴾ في تلك الليالي والأيام ﴿ صَرْعَى (٧)﴾ جمع صريع يعني مَوْتى ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ (٧)﴾ أي أصول ﴿ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧)﴾ أي ساقطة، وقيل خالية الأجواف، وشبههم بجذوع نخل ساقطة ليس لها رءوس، فإن الريح كانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدَخ رأسه فيبقى جثة بلا رأس، وفي تشبيههم بالنخل أيضًا إشارة إلى عِظَمِ أجسامهم.
﴿فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (٨)﴾ أي من نفس باقية، أو التاء للمبالغة أي هل ترى لها من باق ؟ لا.
﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ (٩)﴾ أي من الأمم الكافرة التي كانت قبله كقوم نوح وعاد وثمود ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ (٩)﴾ يعني أهل قرى قوم لوط وكانت أربع أو خمس قريات التي ائتفكت أي انقلبت بأهلها فصار عاليها سافلها ﴿ بِالْخَاطِئَةِ (٩)﴾ أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة وهي المعصية والكفر، وقيل: الخطايا التي كانوا يفعلونها، وقيل: هي ذات الخطإ العظيم. وقرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي: "ومنْ قِبَلَهُ" بكسر القاف وفتح الباء، والباقون بفتح القاف وإسكان الباء.
﴿فَعَصَوْا (١٠)﴾ أي عصى هؤلاء الذين ذكرهم الله وهم فرعون ومن قبله والمؤتفكات ﴿ رَسُولَ رَبِّهِمْ (١٠)﴾ أي كذبوا رسلهم ﴿ فَأَخَذَهُمْ (١٠)﴾ ربهم ﴿ أَخْذَةً رَّابِيَةً (١٠)﴾ أي زائدة شديدة نامية زادت على غيرها من الأخذات كالغرق كما حصل لفرعون وجنوده وقلب المدائن كما حصل لقوم لوط.
﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ (١١)﴾ أي زاد وارتفع وعلا على أعلى جبل في الدنيا، والمراد الطوفان الذي حصل زمن سيدنا نوح عليه السلام ﴿ حَمَلْنَاكُمْ (١١)﴾ أي حملنا ءاباءكم وأنتم في أصلابهم ﴿ فِي الْجَارِيَةِ (١١)﴾ أي السفينة الجارية على وجه الماء وهي السفينة التي صنعها سيدنا نوح عليه السلام بأمر الله تعالى وصعد عليها من ءامن به.
فإن قيل: إن المخاطبين لم يدركوا السفينة فكيف يقال ﴿ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (١١)﴾، فالجواب: ان الذين خوطبوا بذلك وهم من ذرية الذين حُملوا في الجارية أي السفينة وهم سيدنا نوح عليه السلام وأولاده فكان حمل الذين حُمِلوا فيها من الأجداد حَمْلاً لذريتهم.
﴿لِنَجْعَلَهَا (١٢)﴾ أي لنجعل تلك الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكفرة ﴿ لَكُمْ تَذْكِرَةً (١٢)﴾ أي عبرة وعظة ودلالة على قدرة الخالق وحكمته وكمال قهره وقدرته ﴿وَتَعِيَهَا (١٢)﴾ أي تحفظ قصتها ﴿ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (١٢)﴾ أي حافظة لما تسمع أي من شأنها أن تعي المواعظ وما جاء من عند الله لإشاعة ذلك والتفكر فيه والعمل بموجبه.
﴿فَإِذَا نُفِخَ (١٣)﴾ أي فإذا نفخ إسرافيل وهو الملَك الموكَّل بالنفخ ﴿ فِي الصُّورِ (١٣)﴾ في البوق ﴿ نَفْخَةٌ (١٣)﴾ وهي النفخة الأولى وقيل: النفخة الثانية ﴿ وَاحِدَةٌ (١٣)﴾ تأكيد.
﴿وَحُمِلَتِ (١٤)﴾ أي رفعت من أماكنها ﴿ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ (١٤)﴾ أي حملتها الريح العاصف أو الملائكة أو الله عزَّ وجلَّ بقدرته من غير مماسة ولا مباشرة كما قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: "سبحانك لا تُمس ولا تُحَسّ ولا تُجَس". ﴿ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤)﴾ أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتتت، وقيل: تبسط فتصير أرضًا مستوية كالأديم الممدود.
﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥)﴾ أي قامت القيامة، والواقعة هي القيامة.
﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ (١٦)﴾ أي انفطرت وتصدعت وتميز بعضها من بعض ﴿ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (١٦)﴾ أي ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة.
﴿وَالْمَلَكُ (١٧)﴾ يعني الملائكة ﴿ عَلَى أَرْجَائِهَا (١٧)﴾ أي على جوانب وأطراف السماء ﴿ وَيَحْمِلُ (١٧)﴾ أي الملائكة يحملون ﴿ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ (١٧)﴾ أي فوق رءوسهم، وقيل: إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها ﴿ يَوْمَئِذٍ (١٧)﴾ أي يوم القيامة ﴿ ثَمَانِيَةٌ (١٧)﴾ أي من الملائكة واليوم أي في الدنيا يحمله أربعة من الملائكة، وإنما يكونون ثمانية يوم القيامة إظهارًا لعظيم ذلك اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان صفة حملة العرش: "أُذِنَ لي أن أُحَدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" رواه أبو داود [أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في الجهمية والمعتزلة.]، قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري" ما نصه: "إسناده على شرط الصحيح" اهـ.
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ (١٨)﴾ على الله للحساب وليس ذلك عرضًا يعلم الله به ما لم يكن عالما به بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة ﴿ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)﴾ فهو عالم بكل شيء من أعمالكم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: "لا يخفى" بالياء.
﴿فَأَمَّا (١٩)﴾ أما حرف تفصيل فصَّل بها ما وقع في يوم العرض ﴿مَنْ أُوتِيَ (١٩)﴾ أي أُعطي ﴿كِتَابَهُ (١٩)﴾ أي كتاب أعماله ﴿ بِيَمِينِهِ (١٩)﴾ وإعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة ﴿فَيَقُولُ (١٩)﴾ المؤمن خطابًا لجماعته لما سُرَّ به ﴿هَاؤُمُ (١٩)﴾ أي خذوا، وقيل تعالوا ﴿اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (١٩)﴾ والمعنى أنه لما بلغ الغاية في السرور وعلم أنه من الناجين بإعطاء كتابه بيمينه أحب أن يُظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا له.
﴿إِنِّي ظَنَنتُ (٢٠)﴾ أي علمتُ وأيقنتُ في الدنيا، قال أبو حيان: "﴿ إِنِّي ظَنَنتُ (٢٠)﴾ أي أيقنتُ، ولو كان ظنًّا فيه تجويز لكان كفرًا" اهـ، فُسر الظن هنا بمعنى اليقين لأنه لو أبقي على أصله أي بمعنى الشك والتردد لكان المعنى أنه ظن أي شك هل يحاسب في الآخرة أم لا، والاعتقاد بالبعث والحساب من جملة العقائد الدينية التي يجب الإيمان بها، والشك فيهما كفر، والإيمان لا يحصل بالشك والظن بل لا بد للمؤمن أن يتيقن بحقية البعث والحساب، فيكون معنى الآية: إني علمت وتيقنت في الدنيا أن الله تعالى يبعثني و﴿ أَنِّي مُلَاقٍ (٢٠)﴾ أي ثابت لي ثباتًا لا ينفك أني لاق ﴿ حِسَابِيَهْ (٢٠)﴾ في الآخرة ولم أنكر البعث.
﴿فَهُوَ (٢١)﴾ أي الذي أعطي كتابه بيمينه ﴿فِي عِيشَةٍ (٢١)﴾ أي في حالةٍ من العيش ﴿رَّاضِيَةٍ (٢١)﴾ يعني ذات رضا أي رضي بها صاحبها، وقيل عيشة مرضية وذلك بأنه لقي الثواب وأمِنَ من العقاب.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْأسُوا أبدًا". أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب في دوام نعيم أهل الجنة.
﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢)﴾ مكانًا فهي فوق السموات السبع، وعالية في الدرجة والشرف والأبنية. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "إنَّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها سِتُّون ميلاً" رواه مسلم. أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين.
وقال أيضًا: "إنَّ في الجنة مائةَ درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة" رواه البخاري. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد: باب درجات المجاهدين في سبيل الله.
﴿قُطُوفُهَا (٢٣)﴾ أي ما يُقطف من ثمار الجنة ﴿ دَانِيَةٌ (٢٣)﴾ أي قريبة لمن يتناولها قائمًا أو قاعدًا أو نائمًا على السرير انقادت له وكذا إن أراد أن تدنو إلى فِيْه أي فمه دنت لا يمنعه من ثمرها بُعْد،
ويقال لهم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾ ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا (٢٤)﴾ أمر امتنان لا تكليف أي يقال لهم ذلك إنعامًا وإحسانًا وامتنانًا وتفضيلاً عليهم فإن الآخرة ليست بدار تكليف ﴿ هَنِيئًا (٢٤)﴾ أي لا تكدير فيه ولا تنغيص لا تتأذون بما تأكلون ولا بما تشربون في الجنة أكلاً طيبًا لذيذًا شهيًّا مع البعد عن كل أذى ولا تحتاجون من أكل ذلك إلى غائط ولا بول، ولا بصاق هناك ولا مخاط ولا وهن ولا صداع ﴿ بِمَا أَسْلَفْتُمْ (٢٤)﴾ أي بما قدمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة ﴿ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾ أي في أيام الدنيا التي خلت فمضت واسترحتم من تعبها.
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ (٢٥)﴾ أي أُعطي كتاب أعماله ﴿بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ (٢٥)﴾ لما يرى من سوء عاقبته التي كُشف له عنها الغطاء ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥)﴾ أي تمنى أنه لم يؤت كتابه لما يرى فيه من قبائح أفعاله.
روى ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُدعى أحدهم فيُعطى كتابه بيمينه ويمدُّ له في جسمه ستون ذراعًا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ قال: فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم بارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول: أبشروا فإن لكل رجل منكم مثلَ هذا، وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله مسودًا وجهه ويزاد في جسمه ستون ذراعًا على صورة ءادم ويَلبس تاجًا من نار فيراه أصحابه فيقولون: اللهم اخزه فيقول: أبعدكم الله فإن لكل واحد منكم مثل هذا". أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [9/222].
﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦)﴾ أي وتمنى أنه لم يدر حسابه لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب ولا طائل إذ كله عليه لا له.
﴿يَا لَيْتَهَا (٢٧)﴾ أي الموتة التي متها في الدنيا، فإنه تمنى أنه لم يبعث للحساب ﴿كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧)﴾ أي القاطعة للحياة ولم أَحْيَ بعدها فلم أُبعث ولم أعذب، فقد تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكرهَ منه إليه في الدنيا لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرّ مما ذاقه من الموت. قال البخاري: "القاضية" الموتة الأولى التي مُتُّها، لم أحْيَ بعدها".
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنتَ مفتديًا بها ؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهونَ من هذا وأنت في صُلب ءادم أن لا تشرك، فأبيتَ إلا الشرك". أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا.
﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨)﴾ يعني أنه لم يدفع عنه ماله الذي كان يملكه في الدنيا من عذاب الله شيئًا، ويجوز أن يكون استفهامًا وبَّخ به نفسه وقررها عليه، قاله أبو حيان.
﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩)﴾ يعني ضلت عني كل بينة فلم تغن عني شيئًا وبطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وقيل: زال عني ملكي وقوتي.
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠)﴾ أي يقول الله تعالى لخزنة جهنم خذوه واجمعوا يديه إلى عنقه مقيَّدًا بالأغلال ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ (٣١)﴾ أي نار جهنم ﴿صَلُّوهُ (٣١)﴾ أي أدخلوه واغمروه فيها ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ (٣٢)﴾ وهي حَلقٌ منتظمة كل حلقة منها في حلقة، وهذه السلسلة عظيمة جدًّا لأنها إذا طالت كان الإرهابُ أشدَّ ﴿ذَرْعُهَا (٣٢)﴾ أي قياسها ومقدار طولها ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعًا (٣٢)﴾ الله أعلم بأي ذراع هي ﴿فَاسْلُكُوهُ (٣٢)﴾ أي أدخلوه، والظاهر أنهم يدخلونه في السلسلة ولطولها تلتوي عليه من جميع جهاته فيبقى داخلاً فيها مضغوطًا حتى تعمه، وقيل: تدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل في فِيْه وتخرج من دبرهِ.
أخرج الترمذي في جامعه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رُضَاضةً مثل هذه، وأشار إلى مثل الجُمْجُمة، أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفًا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها". قال الترمذي: إسناده حسن. أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة جهنم: بعد باب "ما جاء في صفة طعام أهل النار".
ثم ذكر الله تعالى سبب عذاب الكافر فقال:
﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ الْعَظِيمِ (٣٣)﴾ أي لا يؤمن ولا يصدق بالله الذي أمر عباده بالإيمان به وترك عبادة الأوثان والأصنام، فمن ترك أعظم حقوق الله تعالى على عباده وهو توحيده تعالى وأن لا يشرك به شيء استحق العذاب الأبدي السرمدي الذي لا ينقطع في الآخرة لأن الإشراك بالله هو أكبر ذنب يقترفه العبد وهو الذنب الذي لا يغفره الله لمن مات عليه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كما قال الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ (٤٨)﴾ [سورة النساء]، و﴿ الْعَظِيمِ (٣٣)﴾ أي عظيم الشأن منزه عن صفات الأجسام فالله أعظم قدرًا من كل عظيم.
﴿وَلَا يَحُضُّ (٣٤)﴾ أي هذا الشقي الذي أوتي كتابه بشماله كان في الدنيا لا يحث ولا يحرّض نفسه ولا غيرها ﴿عَلَى طَعَامِ (٣٤)﴾ أي إطعام ﴿الْمِسْكِينِ (٣٤)﴾ وفي هذه الآية دليل على تعظيم الجرم في حرمان المساكين.
قال العلماء: دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على معنى أنهم يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة ونحو ذلك وعدم الانتهاء عن الفواحش والمنكرات لا على معنى أنهم يطالبون بأداء العبادات حال كفرهم لأن العبادة لا تصح من كافر.
﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ (٣٥)﴾ أي ليس له يوم القيامة ﴿هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥)﴾ أي قريب يدفع عنه عذاب الله تعالى ولا من يشفع له ويغيثه مما هو فيه من البلاء.
﴿وَلَا طَعَامٌ (٣٦)﴾ أي وليس له طعام ينتفع به ﴿ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦)﴾ وهو ما يسيل من أبدان الكفار من الدم والصديد وهو الدم المختلط بماء من الجرح ونحوه، وقيل الغسلين شجر يأكله أهل النار ﴿لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ أي الكافرون.
﴿لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾ أي الكافرون.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)﴾ أي أقسم بما ترونه وما لا ترونه، وقيل: أقسم بالدنيا والآخرة، وقيل: "لا" رد لكلام المشركين كأنه قال: ليس الأمر كما يقول المشركون ثم قال تعالى: ﴿أُقْسِمُ (٣٨)﴾ وقيل: "لا" هنا نافية للقسم على معنى أنه لا يُحتاج إليه لوضوح الحق فيه كأنه قال: لا أقسم على أن القرءان قول رسول كريم فكأنه لوضوحه استغنى عن القسم.
﴿إِنَّهُ (٤٠)﴾ يعني هذا القرءان ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: جبريل، وليس القرءان من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو وحيٌ أوحاه الله إليه.
فائدة: قال أهل الحق: كلام الله تعالى الذي هو صفة ذاته أزلي أبدي لا يشبه كلام خلقه، فليس هو بحرف ولا صوت ولا لغة، واللفظ المنزل على سيدنا محمد باللغة العربية هو عبارة عن هذا الكلام الذاتيّ والآية تدل على ذلك، فلو كان اللفظ المنزل على سيدنا محمد هو عين كلام الله تعالى لما قال ربنا تعالى: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾.
﴿وَمَا هُوَ (٤١)﴾ يعني هذا القرءان ﴿بِقَوْلِ شَاعِرٍ (٤١)﴾ كما تدعون ولا هو من ضروب الشعر ولا تركيبه، فقد نفى الله تعالى أن يكون القرءان قول رجل شاعر، والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفَّى موزون بقصد الوزن ﴿قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (٤١)﴾ قال أبو حيان: "أي تؤمنون إيمانًا قليلاً أو زمانًا قليلاً، وكذا التقدير في ﴿قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٤٢)﴾ والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا مَن خلقهم قالوا الله" إهـ، وقيل: أراد بالقليل عدم إيمانهم أصلاً والمعنى أنكم لا تصدقون بأن القرءان من عند الله تعالى. وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلف عن ابن ذكوان ويعقوب: "يؤمنون" و"يذّكَّرون" بالياء فيهما مع تشديد الذال.
﴿وَلَا (٤٢)﴾ أي وليس القرءان ﴿بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٤٢)﴾ أي ليس بقول رجل كاهن كما تدَّعون ولا هو من جنس الكهانة لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن، فالكاهن من تأتيه الشياطين ويلقون إليه ما يسمعون من أخبار الملائكة سكان السموات فيخبر الناس بما سمعه منهم، وطريقه عليه الصلاة والسلام منافية لطريق الكاهن من حيث إن ما يتلوه من الكلام مشتمل على ذم الشياطين وشتمهم فكيف يمكن أن يكون ذلك بإلقاء الشياطين إليه فإنهم لا يُلقون فيه ذمهم وشتمهم لا سيما على من يلعنهم ويطعن فيهم، وكذا معاني ما بلَّغه عليه الصلاة والسلام منافية لمعاني أقوال الكهنة فإنهم لا يدعون إلى تهذيب الاخلاق وتصحيح العقائد والأعمال المتعلقة بالمبدإ والمعاد بخلاف معاني أقواله عليه الصلاة والسلام.
﴿تَنزِيلٌ (٤٣)﴾ أي هو تنزيل يعني القرءان ﴿مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)﴾ وذلك أنه لما قال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)﴾ أتبعه بقوله ﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣)﴾ ليزول هذا الإشكال حتى لا يُظن أن هذا تركيبُ جبريل بل إن القرءان نزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤)﴾ أي الباطلة، والأقاويل جمع الجمع وهو أقوال، وأقوال جمع قول، وسميت الأقوال المتقوّلة أقاويل تصغيرًا لها وتحقيرًا. وقال أبو حيان: "المعنى: ولو تقوَّل متقول ولا يكون الضمير في تقوَّل عائدًا على الرسول صلى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه، فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفَرْضِ في حقه عليه الصلاة والسلام" اهـ.
﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾ أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على جهة الإذلال والصَّغار كما يقول السلطان إذا أراد عقوبة رجل: يا غلام خذ بيده وافعل كذا، وقيل: لَنِلنا منه عقابه بقوة منا، وقيل: لَنَزَعنا منه قوته.
﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)﴾ قال البخاري: "وقال ابن عباس: الوتين نِيَاطُ القلب"، وهو عرق يتعلق به القلب يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، والمعنى لو تقوّل علينا لأذهبنا حياته معجلاً.
﴿فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾ أي أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه أحد، وقال أبو حيان: "الضمير في ﴿عَنْهُ (٤٧)﴾ الظاهر أنه يعود على الذي تقوَّل ويجوز أن يعود على القتل أي لا يقدر أحد منكم أن يحجُزَه عن ذلك ويدفَعَه عنه" اهـ.
﴿وَإِنَّهُ (٤٨)﴾ يعني القرءان ﴿ لَتَذْكِرَةٌ (٤٨)﴾ يعني عظةً ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾ وهم الذين يتقون عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم (٤٩)﴾ أيها الناس ﴿مُّكَذِّبِينَ (٤٩)﴾ بالقرءان، وهذا وعيد لمن كذب بالقرءان. وفي الآية دليل على أن الله عَلِم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
﴿وَإِنَّهُ (٥٠)﴾ أي القرءان ﴿لَحَسْرَةٌ (٥٠)﴾ أي ندامة ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)﴾ أي يوم القيامة، والمعنى أنهم يندمون على ترك الإيمان به لما يَرَوْنَ من ثواب من ءامن به.
﴿وَإِنَّهُ (٥١)﴾ أي القرءان ﴿لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)﴾ لا شك فيه أنه من عند الله ليس من تأليف محمد ولا جبريل عليهما السلام وفيه الحق والهدى والنور.
﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)﴾ أي نزّه الله عن النقائص والسوء وكل ما لا يليق به واشكره على أن جعلك أهلاً لإيحائه إليك.
وفي هذه الآية دليل على أن المؤمن مأمور بتنزيه خالقه عن صفات المخلوقين من الجهل والعجز والمكان والجسمية والكميَّة أي الحجم، قال الإمام السلفي أبو جعفر الطحاوي: "وتعالى -أي الله- عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، فالله تعالى ليس له حد أي حجم كبير ولا حجم صغير لأن كل ذلك من صفات المخلوقين والله تعالى منزه عن ذلك.
https://www.islam.ms/ar/?p=348