تفسير سورة البقرة من آية 71 إلى 73
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} لا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقرَةٌ بمعنى بقَرَةٌ غَيرُ ذَلُولٍ ، يَعني لم تُذَلَّلْ للكِرَابِ وإثَارَةِ الأرض (يُقَالُ كَرَبَ الأَرضَ قَلَبَها لِلحَرْثِ)
{وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} وَلا هيَ مِنَ النَّوَاضِحِ التي يُسْنَى علَيهَا لِسَقْيِ الحُرُوثِ (يَعني لَم تُذَلَّلْ لِمَلْئ السِّقَاء) ، و" لا " الأولَى نَافِيَةٌ والثّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوكِيدِ الأُولَى لأنّ المعنى لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرضَ أي تُقَلّبُها لِلزِّرَاعَةِ وتَسْقِي الحَرْثَ على أنّ الفِعلَينِ صِفَتَانِ لِذَلُولٌ كَأَنَّهُ قِيلَ لا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ وسَاقِيَةٌ
{مُسَلَّمَةٌ} عنِ العُيُوبِ وآثَارِ العَمَل.
{لَا شِيَةَ فِيهَا} لا لَمْعَةَ في نَقْبَتِها مِن لَونٍ آخَرَ سِوَى الصُّفْرَةِ فَهيَ صَفرَاءُ كُلُّها حَتى قَرْنُها وظِلْفُهَا ، وهيَ في الأصلِ مَصدَرُ وَشَاهُ وَشْيًا وَشِيَةً إذَا خُلِطَ بِلَونِهِ لَونٌ آخَرُ.
{قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بحَقِيقَةِ وَصْفِ البَقَرةِ ومَا بَقِيَ إشْكَالٌ في أَمرِهَا
{فَذَبَحُوهَا} فحَصَّلُوا البَقرَةَ الجَامِعَةَ لهذهِ الأوصَافِ كُلِّها فذَبَحُوهَا
{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} لِغَلاءِ ثَمنِها أو خَوفِ الفَضِيحَةِ في ظُهُورِ القَاتِلِ ، رُوِيَ أنّهُ كانَ في بَني إسرَائيلَ شَيخٌ صَالحٌ لهُ عِجْلَةٌ فأَتَى بِها الغَيْضَةَ وقالَ : اللّهُمَّ إنّي اسْتَودَعتُكَها لابْني حَتى يَكبُرَ وكانَ بَرًّا بوَالِدَيهِ.
فشَبَّتِ البَقَرَةُ وكَانَتْ مِن أَحسَنِ البَقَرِ وأَسْمَنِه ، فسَاوَمُوهَا اليَتِيمَ وأُمَّهُ حَتى اشْتَرَوها بملءِ مَسْكِهَا (أي جِلْدِهَا) ذَهَبًا وكانَتِ البقَرَةُ إذْ ذَاكَ بثَلاثَةِ دَنَانِيرَ ، وكَانُوا طَلَبُوا البَقَرةَ الْمَوصُوفَةَ أَربَعِينَ سَنَةً ، وهَذَا البَيَانُ مِن قَبِيلِ تَقْيِيدِ الْمُطلَقِ فكَانَ نَسْخًا والنَّسْخُ قَبلَ الفِعْلِ جَائزٌ وكَذَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنهُ عِندَنَا خِلافًا للمُعتَزِلَةِ.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} بتَقدِيرِ " واذْكُرُوا " ، خُوطِبَتِ الجَماعَةُ لِوُجُودِ القَتْلِ فِيهِم.
{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} فَاخْتَلَفْتُم واخْتَصَمْتُم في شَأنِها لأنّ الْمُتَخَاصِمِينَ يَدْرَأ بَعضُهُم بَعضًا أي يَدفَعُ ، أو تَدَافَعْتُم بمعنى طَرَحَ قَتْلَها بَعضُكُم على بَعضٍ فيَدفَعُ المطرُوحُ علَيهِ الطّارِحَ ، أو لأنّ الطَّرْحَ في نَفسِه دَفْعٌ ، وأَصْلُه تَدارَأتُم ثم أرَادُوا التّخفِيفَ فقَلَبُوا التّاءَ دَالًا لِتَصِيرَ مِن جِنسِ الدَّالِ التي هيَ فَاءُ الكَلِمَةِ لِيُمكِنَ الإدغَام ، ثم سَكَّنُوا الدّالَ إذْ شَرْطُ الإدغَامِ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ سَاكِنًا وزِيْدَتْ هَمزَةُ الوَصْلِ لأنّهُ لا يُمكِنُ الابتِدَاءُ بالسّاكِنِ ،
{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} مُظهِرٌ لا مَحَالَةَ مَا كَتَمتُم مِن أَمْرِ القَتْلِ لا يَتركُه مَكتُومًا ، وأُعمِلَ مُخرِجٌ على حِكَايَةِ مَا كانَ مُستَقبَلًا في وَقتِ التَّدَارُؤ ، وهَذِه الجُملَةُ اعتِرَاضٌ بَينَ المعطوفِ والمعطُوفِ علَيهِ وهُما ادّارَأتُم.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} الضَّمِيرُ يَرجِعُ إلى النَّفْس ، والتّذكِيرُ بتَأوِيلِ الشَّخصِ والإنسَان ، أو إلى القَتِيلِ لِمَا دَلَّ علَيهِ مَا كُنتُم تَكتُمُونَ.
{بِبَعْضِهَا} بِبَعضِ البَقَرَةِ وهوَ لِسَانُها أو فَخِذُها اليُمنَى أو عَجْبُهَا ، والمعنى فضَرَبُوهُ فحَيِىَ فحُذِفَ ذلكَ لِدِلالَةِ {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} عَلَيهِ.
رُوِيَ أنّهم لَمّا ضَرَبُوه قَامَ بإذْنِ اللهِ تَعالى وقَالَ قَتَلَني فُلانٌ وفُلَانٌ لابْنَي عَمِّهِ ثم سَقَطَ مَيّتًا فأُخِذَا وقُتِلَا ولم يُوَرَّثْ قَاتِلٌ بَعدَ ذَلكَ ، وقَولُه كذَلكَ يُحيِي اللهُ الموتَى إمّا أنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلمُنكِرِينَ في زَمَنِ النّبيّ علَيهِ السّلامُ ، وإمّا أنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلّذِينَ حَضَرُوا حَياةَ القَتِيلِ بمعنى وقُلنَا لَهم كذَلكَ يُحيِي اللهُ الْمَوتَى يومَ القِيَامَةِ.
{وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ} دَلائِلَه على أنّهُ قَادِرٌ علَى كُلّ شَيءٍ
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} فتَعمَلُونَ على قَضِيّةِ عُقُولِكُم وهيَ أنّ مَن قَدَرَ على إحْيَاءِ نَفْسٍ واحِدَةٍ قَدَرَ على إحيَاءِ جَمِيعِها لِعَدَمِ الاختِصَاصِ ، والحِكمَةُ في ذَبْحِ البَقرَةِ وضَرْبِه ببَعضِها وإنْ قَدَرَ على إحيَائه بِلا واسِطَةِ التّقَرُّبِ بهِ ، الإشْعَارُ بحُسْنِ تَقدِيم القُربَةِ على الطَّلَب، والتّعلِيمُ لعِبَادِه تَركَ التّشدِيدِ في الأمُورِ والْمُسَارَعةَ إلى امْتِثَالِ أوَامِرِ اللهِ مِن غَيرِ تَفتِيشٍ وتَكثِيرِ سؤالٍ وغَيرِ ذلكَ.
وقِيلَ: إنّما أُمِرُوا بذَبْحِ البَقرَةِ دُونَ غَيرِها مِنَ البَهائِم لأنّها أَفضَلُ قَرَابِينِهِم ، ولِعِبَادَتِهم العِجْلَ فأَرَادَ اللهُ تَعالى أنْ يَهُوْنَ مَعبُودُهُم عِندَهُم ، وكانَ يَنبَغِي أن يُقَدَّمَ ذِكْرُ القَتِيلِ والضَّرْب ببَعضِ البقَرَةِ على الأمْرِ بذَبْحِها وأنْ يُقَالَ: وإذ قتَلتُم نَفْسًا فادّارَأتُم فِيها فقُلنَا اذْبَحُوا بَقرَةً واضْرِبُوهُ ببَعضِها، ولكنّهُ تَعالى إنّما قَصَّ قَصَصَ بَني إسرائيلَ تَعدِيدًا لِمَا وُجِدَ مِنهُم مِنَ الجِنَايَاتِ وتَقرِيعًا لهم علَيهَا، وهَاتَانِ القِصَّتَانِ وإنْ كَانَتا مُتّصِلَتَينِ فتَستَقِلُّ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُمَا بنَوعٍ مِنَ التّقرِيعِ.
فَالأُولَى لِتَقرِيعِهِم على الاستِهزَاءِ وتَرْكِ الْمُسَارَعَةِ إلى الامْتِثَالِ ومَا يَتْبَعُ ذَلكَ ، والثّانِيَةُ للتّقرِيعِ على قَتْلِ النَّفْسِ المحَرَّمَةِ ومَا تَبِعَهُ مِنَ الآيَةِ العَظِيمَةِ.
وإنّما قُدّمَت قِصَّةُ الأمرِ بذَبْحِ البَقَرةِ على ذِكْرِ القَتِيلِ لأنّهُ لَو عُمِلَ على عَكْسِه لَكَانَت قِصّةً واحِدَةً ولَذَهَبَ المرادُ في تَثْنِيَةِ التّقرِيع ، ولَقَدْ رُوْعِيَتْ نُكتَةٌ بَعْدَمَا استُؤنِفَتِ الثّانيَةُ استِئنَافَ قِصّةٍ برَأسِها إنْ وُصِلَتْ بالأُولَى بضَمِيرِ البَقَرةِ لا باسمِها الصَّرِيحِ في قَولِه اضْرِبُوهُ ببَعضِها ليُعلَمَ أنّهما قِصّتَانِ فِيمَا يَرجِعُ إلى التّقرِيع وقِصّةٌ واحِدَةٌ بالضّمِيرِ الرّاجِعِ إلى البَقرَةِ.
وقِيلَ : هَذه القِصّةُ تُشِيرُ إلى أنّ مَن أرَادَ إحْيَاءَ قَلبِه بالْمُشَاهَدَاتِ فَلْيُمِتْ نَفسَهُ بأَنوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ. (الْمُشَاهَدَةُ حَالَةٌ خَاصّةٌ عِندَ الصُّوفِيّةِ وهيَ اسْتِغرَاقُ القَلبِ في الشُّعُورِ بأَنَّ اللهَ تَعالى هوَ الفَاعِلُ لِكُلّ شَيءٍ.)
https://www.islam.ms/ar/?p=476